الدكتورة / نوف علي المطيري
يعتبر الاعتذار سلوكا حضاريا وانعكاسا لمستوى النضج والثقة في النفس وهو ما يميز العقلاء عن غيرهم من بني البشر.
فطبيعة الإنسان الوقوع في الخطأ ولكنه يرتقي بسلوكه بقدرته على الاعتذار لمن أخطأ بحقه حتى وإن كان أقل منه مكانة أو عمرا رغبة في التصالح مع الآخرين ونسيان الخلافات فيقدم اعتذاره بأريحية وبدون تردد أو شعور بالخجل. وهو أمر ليس بالهين ويتطلب جرأة أدبية من قبل المخطئ فالاعتذار – في نظر الكثيرين - دليل على الضعف والانكسار ولكنه في نظر العقلاء دليل على الالتزام الجاد بتقويم السلبيات والأخطاء للارتقاء والنضج. والدول والأمم شأنها شأن الأفراد والمجتمعات فالاعتذار واجب على الدولة المعتدية وحق معنوي مكفول للشعوب التي تعرضت للاحتلال والغزو. فضلا عن الحقوق العينية والمادية والتي لا تسقط بالتقادم. والاعتذار للشعوب والدول أصبح سمة العصر فالسياسيين خاصة في الدول الغربية قدموا اعتذارات عدة عن أخطاء ارتكبوها أو ارتكبها حكام سابقون كما فعلوا مع اليهود الذين مارسوا الابتزاز المادي والمعنوي من أجل الحصول على تعويضات مالية من خلال الحديث ليلا ونهارا عن الدجاجة التي تبيض لهم ذهبا – محرقة الهولوكوست - حتى دفعت لهم بعض الدول الغربية كألمانيا والنمسا وسويسرا تعويضات مالية كبيرة من أجل التكفير عما يسميه اليهود بالذنوب التي اقترفتها تلك الدول بحق الآلاف من العائلات اليهودية التي قتلت في المذابح النازية. وطاردت الحكومات الغربية – من أجل اليهود - كل من ينكر حدوث المحرقة المزعومة أو عدد ضحاياها سواء من المفكرين أو المؤرخين وهددتهم بالسجن بتهمة معاداة السامية فيما لا يزال العرب والمسلمون يبحثون عن من يعتذر لهم عن الظلم الذي لحق بهم ومنذ عصور طويلة بدء من الحملات الصليبية وما ارتكبه ملوك أوروبا وجيوشهم الصليبية من مجازر وحشية ضد الشعوب الإسلامية فقد دخلوا بجيوشهم الأراضي العربية وعاثوا فيها فسادا فقتلوا وسفكوا دماء الآلاف من الأبرياء حتى غاصت خيولهم بأنهار الدماء وانتهاء بسنوات الاحتلال العسكري البريطاني والفرنسي والإيطالي المليئة بالقتل والتعذيب واغتصاب الحرائر ونهب ثروات الشعوب ليرحلوا عنها في النهاية - رغم أنوفهم - بعدما نشروا فيها الدمار والخراب وزرعوا بذور الفتنة بين الشعوب.
قبل مدة ليست بالبعيدة قررت إحدى المؤسسات الفلسطينية المعنية بتفعيل قضية فلسطينيي الشتات والمطالبة بحقهم في الرجوع إلى ديارهم الإعلان عن حملة دولية لمطالبة بريطانيا بالاعتراف بالمأساة التي سببها وعد بلفور للشعب الفلسطيني بعنوان"بريطانيا. لقد حان وقت الاعتذار" وتهدف الحملة التي يقوم بها "مركز العودة الفلسطيني" إلى جمع أكثر من مليون توقيع من حول العالم في فترة خمس سنوات تنتهي بالذكرى المئوية للوعد المشؤوم لمطالبة بريطانيا بالاعتذار عن أخطائها بحق الشعب الفلسطيني بدءا من وعد وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور عام 1917 لليهود بإقامة دوله لهم على أرض فلسطين - والذي يعتبر نقطة تحول بارزة في تاريخ فلسطين والعالم العربي – مرورا بفترة الانتداب البريطاني ووصولا للنكبة والمساعدة في إنشاء الكيان الصهيوني وتقديم العون والمساعدة له اقتصاديا وعسكريا وإيجاد ما يسمى بإسرائيل وما نتج عنها من اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره وتشريده في دول الشتات لقرابة سبعة عقود.
هذه الحملة تعتبر خطوة موفقة لتسليط الأضواء من جديد على القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ سنوات طويلة وحق اللاجئين في العودة لبيوتهم وقراهم ومدنهم التي هجروا منها بالقوة. وكذلك كشف ازدواجية المعايير لدى الغرب ففي الوقت الذي تسارع أميركا والغرب للاعتذار لليهود عن ما عاناه أسلافهم على يد النازية من قتل وتعذيب. والاعتذار لإفريقيا عن تجارة الرقيق وما عاناه الملايين من الأفارقة جراء العبودية وتسخيرهم لخدمة العرق الأبيض. والضغط على تركيا للاعتذار عن الإبادة الجماعية للآرمن على يد العثمانيين يتم يتجاهل معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ عقود طويلة وحق اللاجئين في العودة إلى أرضهم المحتلة.
حتى وإن كانت الحملة - بنظر البعض- ليست بذات جدوى خاصة أن اعتذارات السياسيين تخضع لحسابات سياسية ومصالح خاصة وعادة لا تنم عن ندم أو توبة حقيقية بل تستخدم غالبا خوفا من رفع قضيه تعويض في المحاكم إلا أن الاعتذار – في حال حصوله - بداية التصحيح وانتصار حقيقي للقضية الفلسطينية وسحب لبساط القضية من المؤسسات الرسمية لصالح الحراك الشعبي خاصة بعد أن أصيبت الشعوب العربية بالإحباط واليأس من عدم تحرك الحكام العرب والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان لنصرة اللاجئين والضغط على بريطانيا للاعتراف بجرائمها بحق الشعب الفلسطيني وتقديم أرضه على طبق من ذهب لمحتل آخر. فلعبة السياسة لا تكترث لحقوق البسطاء ولا للقضايا المشروعة.
د.نوف علي المطيري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1101 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع