ماهر حربي: ذبيح بغير سكين

                                  

                           جورجينا بهنام

"بين ازقة الموصل القديمة وأروقة معهد الفنون الجميلة  نبتت وترعرعت موهبة فتية، تبلورت في أكاديمية الفنون الجميلة، لترفد الساحة الابداعية العراقية برافد جديد يسري نهرا من الابتكار والعطاء الفني الثَّر، يسقي هذه الارض المباركة بفيض من الحذق الفني والروحي والجمالي، انه الفنان العراقي  المبدع ماهر حربي"،

هذه الكلمات سطرتها في مطلع الحوار الشيق الذي أجريته مع فقيد الفن العراقي الفنان الكبير ماهر حربي المنشور في مجلة صوت الاخر العدد(326) بتاريخ 9-2-2011 الذي فجعت الأوساط الفنية، لاسيما التشكيلية منها، بخبر وفاته المفاجئ يوم الثلاثاء 3 آذار 2015، لينظم الى قافلة الشهداء الذين أردتهم داعش بوحشيتها وهمجيتها وبربريتها المفرطة، لكنه ذبح بغير سكين!
انجذب الفقيد بشكل خاص لآثار مابين النهرين القديمة من خلال المتاحف والمواقع الاثرية، وتعمقت صلته الوجدانية بحضارة الاجداد حين اشتغل بترميم قصر سنحاريب الآشوري، فكانت تظهر شذرات من تلك الفنون الرفيعة في أعماله. مال أيام الدراسة الأكاديمية كثيرا الى التجريب، لكنه مارس الفن بأساليبه المتنوعة ابتداء بالواقعية الأكاديمية والسريالية، كما استخدم حروف الكتابة ممزوجة بالرسم واشتغل أعمالاً بتقنية (الكولاج)، منجذبا أكثر الى التجريد.
بعيدا بعض الشيء عن مفهومها التقليدي، تميز الراحل كثيرا برسم الأيقونة (icon) المعاصرة، مستلهما بعض الرموز الروحية باستخدام الوسائل المعتادة بعد إخضاعها لأسلوبه الفني الذي طوره عبر سنوات طويلة من العمل، مازجا الموضوع الروحي ومعطياته مع أساليب وتقنيات الفن الحديث. سعى دوما نحو التجديد والى انتاج أعمال تشكل لديه انعطافة أو إضافة نوعية، لاسيما الاعمال المستلهمة من غنى وحكمة أساطير ما بين النهرين والرمزية الإنسانية التي تحويها مع التركيز على موضوعة الإنسان والحب وكل ما يذكرنا برهافة فن المنمنمات الشرقية. قدم تاليا شكل (المعلقة) بدل اللوحة التقليدية، مستخدما تقنية الرسم على الجنفاص لما يوحيه من مناخ فكري و روحانية وبساطة.
سمعت كثيرا عن ماهر حربي الفنان المتألق والاستاذ المتمرس والإنسان الرائع المكنى بالقديس قبل أن أتعرف إليه شخصيا في إحدى الحلقات الدراسية بألقوش، حيث كان يقيم بعد نزوحه قسرا من الموصل إثر تعرض ابنه للخطف، وتعرضه هو لطلق ناري كاد يودي بحياته، عندها علمت أن كل ما سمعته كان مرآة ناصعة لحقيقة إنسان وفنان بكل ما تحملانه هاتان الكلمتان من معانٍ، فضلا عن كونه مثقفا من الطراز الاول سعى لمشاركة فيض من المعلومات مع اصدقائه (وانا منهم) عبر الايميل، وكان آخر ما وصلني منه بتاريخ 2-3 عن مخلوق اشوري خرافي اسمه (قارابو) طار به كثيرون عبر التاريخ، من ضمنهم زرادشت، الى السماء السابعة حيث التقى بالاله اهورا مازدا وتفاصيل اخرى لايتسع المجال لذكرها.
دعا على مدى سنوات حياته الحافلة بالابداع إلى أن تؤخذ قضية تربية الذوق الفني والجمالي بكل الجدية التي تستحقها على صعيد المدرسة ووسائل الإعلام. ورأى من الضروري أن تحتل تربية التذوق مجتمعيا مساحة أوسع في الصحافة ووقتا أكبر في القنوات الفضائية، من أجل ترميم الانكسارات التي نعيشها وتعزيز التطور الحضاري الذي لا يأتي من تربية عرجاء.
لو أن هذه الافكار ومثيلاتها وجدت حيزا جادا للتنفيذ في وطننا الجريح وسائر بلدان الدنيا لما كنا شهودا، مع بالغ الاسى وعميق الحزن، على تدمير شواهد حضارية فنية عمرها آلاف السنين وجرف أوابد حضارية عاشت قرونا عصية على التدمير متحدية الغزاة والمحتلين فضلا عن عوامل التعرية الجوية والتقلبات المناخية، حتى بلغها شذاذ الافاق الذين اجتمعوا على الإثم والعدوان، فبلغت جرائمهم ذروتها متجاوزة البشر الى الحجر بتحطيم تماثيل المتحف الحضاري بالموصل، تلتها بعد أيام قلائل جريمة تجريف مدينة النمرود (كلحو) الاشورية وطمس معالمها ثم نالت المصير ذاته مدينة الحضر، لكن بعد سرقة الثمين غير المقـلـّد منها وتهريب ما تيسر تهريبه، فكانت فاجعة أخرى في سلسلة فواجع التهجير والتقتيل والسبي، لكنها قصمت ظهر البعير، فلم يحتملها قلب وعقل ووجدان الفنان الكبير ماهر حربي، وكيف لمن عمل في ترميم قصر سنحاريب أن يحتمل؟ فسقط شهيدا ذبيحا بأيدي الدواعش ....لكن بغير سكين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

558 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع