على ظهري حقيبة زرقاء....

                                           

على ظهري حقيبة زرقاء ليست لي وإنما استوليت عليها من غرفة ابنتي، في الحقيبة سحر يعيدني إلى المراهقة وإلى بداية الشباب، فما أن تستقر على ظهري حتى تخف قدماي وتتسع خطوتي ويسقط وزنا من حمولة كانت راقدة على قلبي وأبتهج.

اليوم حملتها وسرت جنبا إلى جنب بجوار الشباب المتجه إلى الجامعة صادفت شيئا صغيرا يشبه الكرة فدفعتها، تدحرجت بضعة أمتار وانتظرتني، وصلت إليها ثم قذفتها مرة أخرى فطارت بعيدا لكنها ظلت ترقبني، الشباب الذي كان يسير أمامي أفسح لي الطريق للحاق بكرتي «ارتبط طريقي بطريقها فإن مالت يمينا أميل إليها وإن رانت شمالا أعيدها، فوجئت أني ألاحق الكرة أو ما أطلقت عليها كرة، عقب أن خلعت عني الحقيبة تساءلت كم من مرة قابلتني الكرة وفي لحاقي بها ضاع مني الطريق؟
لا أعرف الإجابة بالطبع لأني كنت قد أعدت الحقيبة إلى ظهري وحملتها مرة أخرى وعدت للسير أبحث عن اسم هذا اليوم؟ لم أجده، غالبا سقطت مني الأسماء في مكان ما أو نسيتها في المنزل، لم أكترث، فلم أعد أهتم كثيرا بأسماء الأيام منذ سافرت، واسترخى عقلي عند فكرة أن بشرا آخرين هم من أطلقوا الأسماء على الأيام، وقد آن الأوان لكي نغيرها وأن نترجم قدرتنا على الفعل. يمر الجنون على من دون شك لكن الخيال الثوري الجامح يعود إلى تأثيرها وليس إلي، وبما أن أمس كان يوم القهوة فاليوم هو يوم الأمهات، كأنما قررن الظهور فجأة في المدينة الأميركية الجامعية. أمهات يدفعن أطفالهن الصغار في عرباتهم وأخريات يحملهم على صدورهم وأمهات تدخل لشراء الأيس كريم لصغار أكبر سنا، وأمهات توهمن أنهم سيقرؤون بجانب صغارهن. أمهات يشبهن كل الأمهات في كل البلاد يحملن أطفالا وحنانا وحبا يفيض عنهن ويعطر الهواء بعدهن وترق الحياة.
لكني رأيت تناقضا أربكني. الأم التي جلست أمامي وأنا ارتشف القهوة جلست بجوار ولديها، الأكبر عن يمينها والأصغر على يسارها، نظرت إلى الأكبر ولم تعلق ثم اتجهت إلى الأصغر وأخذت تصف له كيف يأكل كرة الأيس كريم وحين انتهى منها بدأت تعلمه كيف يأكل قمع البسكويت ذهبي اللون، تذكرت نفسي وأنا في معمل الكيمياء في المرحلة الثانوية، حين كان علينا أن نتبع القواعد بدقة متناهية حتى ننجز التجربة المعملية، ولا أذكر أني أنجزتها أبداً لأن فضولي كان يسول لي التعرف على النتيجة إن لم نتبع القواعد.
وأنا عائدة وجدته يقطع الطريق منتصبا في منتصف الرصيف بين شجرتين وفرحة المغامرة تتلألأ على وجهه، بينما أمه مستندة على مقعد حجري بجانب شجرة تراقبه بابتسامة واسعة، كان الطفل ذو العامين قد قرر أن يفرد ذراعيه كالطائرة، وعلى المارة أن يجدوا سبيلهم للمرور، وقف أمامه عجوز فشعر الطفل بالإحراج وآمال طائرته ليمر الرجل، لكن فتاة دون العشرين خلفته فلم يتحرك «استدارت الفتاة ومرت خلف الشجرة فقفز فرحا، حين وصلت إليه وقفت وقلت له: ممكن أمر من فضلك؟ أخرجه صوت الرجاء في صوتا ونظر لي قليلا ثم أفسح الطريق.
سمعت فيما بعد رجلا يحدث آخر مفتخرا أنه لم يملك شيئا في حياته حتى الكتب العشر التي ألفها أهدى نسختها الأولى لمكتبة الجامعة، ورأيت شجرة نصفها يتلألأ كالبلور في ضوء الشمس ونصفها الآخر مطفأ، ثم فوجئت أن الشارع الذي أسكن فيه قد أغلق في وجه السيارات فابتسمت واثقة أنها منعت من أجلي برغم أن أولياء الأمور تظاهروا الأسبوع الماضي لحجب السيارات عن مدرسة أبنائهم. وحين عدت إلى المنزل روت لي صديقتي أن جارتها أخيرا ستتزوج يوم الأحد من الرجل الوحيد الذي خفق له قلبها، بعدها سيقلع العروسان إلى هاواي تماماً كما قررا في لقائهما الأول قبل ستين عاما حينما كانا كلاهما في الخامسة عشرة من عمره.
أخيرا نطق هاتفي وسمعت صوتها: كل سنة وأنت طيبة يا ماما، عرفت الآن لماذا ابتسم الطفل ذو الجناحين، ولماذا كانت تلاعبني الكرة، ثم عرفت أن حقيبة الظهر الزرقاء كانت تخبئ شيئا له شكل الفرح ولما نظرت مليا وجدته العيد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

605 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع