د. سيّار الجميل
رحل، قبل أيام، لي كوان يوو، زعيم نهضة سنغافورة المعاصرة، عن 92 عاماً، إذ ولد في 16 سبتمبر/أيلول 1923، وهو من أصل صيني، وكان أول رئيس وزراء لبلاده،
وانتصر برفقة طاقمه الذكي، في تحويلها من شبه جزيرة ضئيلة مشلولة، تزدحم فيها الأوساخ والأوبئة إلى دولة تنموية، لها قوتها الاقتصادية الناظمة في العالم لثلاثين سنة من النهضة الحقيقية، أي بين 1959 و1990، وبعد استقلالها عن ماليزيا عام 1965. استقال برغبته من منصبه عام 1990، فخلفته جوه تشوك تونغ التي كانت ترجع إليه حتى عام 2004، عندما غدا نجله الأكبر، لي هسين لوونج، ثالث رئيس وزراء للبلاد. وبقي الأب لي الأكبر معلماً ومستشاراً لمجلس الوزراء حتى عام 2011. بمعنى أن الرجل بقي بين 56 و60 عاماً في خدمة بلاده حتى رحيله. رحل بعد أن قاد التحولات في بلاده الصغيرة من "العالم الثالث إلى العالم الأول خلال جيل واحد"، تحت قيادته.
جمهورية سنغافورة جزيرة، صغيرة في جنوب شرقي آسيا، جنوبي جزيرة ملايو، مساحتها 710 كيلومترات مربعة، ويفصلها عن ماليزيا مضيق جوهور وعن جزر رياو الإندونيسية مضيق سنغافورة. وتعتبر اليوم رابع أهم مركز مالي في العالم، ومدينة عولمية تلعب دورها المهم في الاقتصاد العالمي. ويُعدّ مرفأ سنغافورة خامس أنشط مرفأ كوسمبوليتاني في العالم. ولها تاريخ حافل بالمهاجرين. يبلغ تعداد سكانها خمسة ملايين، وهم خليط من الصينيين والملاويين والهنود والآسيويين والقوقازيين، وجميعهم متعددو الثقافات. وتعد نسبة 42% من الأجانب الوافدين للعمل أو للدراسة. وتعتبر سنغافورة ثالث دولة في العالم، من ناحية الكثافة السكانية، بعد ماكاو وموناكو.
وفي عام 2006، سميت سنغافورة "المدينة الأكثر عولمة في العالم،" بحسب قوة مؤشرها للعولمة. وعندما نتابع الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة، وحسب الإيكونوميست، حصلت على الدرجة الأولى في آسيا، والمرتبة الحادية عشرة على مستوى العالم. وتمتلك سنغافورة تاسع أعلى احتياطي في العالم. ولدى الدولة جيش وطني مجهز بشكل جيد، ويعتمد على أحدث الأسلحة. ولقد نجحت سنغافورة، بعد الانكماش الاقتصادي عام 2009، في استعادة تنامي اقتصادها في النصف الأول من 2010، لتصبح أسرع دولة في إنعاش اقتصادها، بنمو وصل إلى 17.9%. فمن يقف وراء هذا المنجز التاريخي الحضاري الكبير؟
"لعل ما يثير الدارسين في تجربة لي أنه انتهج نهجاً وطنياً متجنباً السياسات الشعبوية وتناقضاتها، لصالح التدابير الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل" وهذا النهج هو الذي ينبغي ان يتعلمه القادة العرب .
بعد أن درس لي في بلاده إبان زمن ما بين الحربين العالميتين، وعاش تجارب قاسية مع الإنجليز ومع اليابانيين، إبّان احتلالهم سنغافورة في الحرب العالمية الثانية وتعلم لغة الاثنين، سافر ليدرس في بريطانيا، فتخرج بتفوق في كلية فيتزويليام في جامعة كيمبردج، في القانون عام 1950، وأصبح محامياً يمارس القانون حتى 1959. ثم شارك في تأسيس حزب العمل الشعبي (PAP) عام 1954، وغدا أمينه العام الأول، وبقي في قيادته حتى 1992، وقد قاد الحزب نحو ثمانية انتصارات متتالية، بدءاً بحملة التخلي عن حكم بريطانيا الاستعماري، ومما فعلته بريطانيا عام 1963، عندما اندمجت سنغافورة مع الملايو في ما سمي الاتحاد الماليزي. وقاد التهاب الصراع العنصري والتوترات السياسية إلى انفصال سنغافورة عن ذلك "الاتحاد" بعد ذلك بعامين. ثم أشرف لي وحكومته على التحول في سنغافورة، من ثكنة استعمارية متخلفة نسبياً مع ندرة الموارد الطبيعية إلى دولة اقتصاد تعد نمراً من "النمور الآسيوية". وكسبت تجربة لي العملية إعجاب العالم على نطاق واسع، خصوصاً في تأسيس نظام جدارة يخلو من الفساد، واعتماد الكفاءات العالية في الحكومة، ونشر الخدمة المدنية واعتماد اللغة الإنجليزية والحد القانوني الصارم من إثارة الصراعات والانقسامات العرقية والدينية والطائفية واللغوية، حتى أصبحت تجربة لي كوان يو، اليوم، وسياساته الآن مدرسة للسياسة المتمدنة العامة.
لعل ما يثير الدارسين في تجربة لي أنه انتهج نهجاً وطنياً متجنباً السياسات الشعبوية وتناقضاتها، لصالح التدابير الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل، مع الاعتناء بالجدارة والتعددية السياسية، في ظل المبادئ الحاكمة، وجعله الإنجليزية لغة مشتركة للجميع من أجل الاندماج الاجتماعي، وخصوصاً في مجتمع مختلط ومعقد، القدماء فيه قلة، وأغلبه من المهاجرين المتنوعين، ثم تسهيل عمليات التبادل التجاري مع الغرب. ومع ذلك، كان وراء لي فلسفة في ثنائية اللغة، وخصوصاً في المدارس للطلاب من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية السنغافورية الأم.
انتقد الغرب، كالعادة، سياسات لي، كونه عمل على الحد من الحريات المدنية (ووقف ضد الاحتجاجات العامة، ومراقبة وسائط الإعلام)، واستخدم دعاوى التشهير ضد المعارضين السياسيين. وكان لي يدافع عن هذه التدابير السلطوية، واعتبرها ضرورية للاستقرار السياسي، ووقف مع سيادة القانون، وهما أمران أساسيان لتحقيق التقدم الاقتصادي، كما كان يقول، وقد صدق في أفكاره.
سنغافورة بلد صغير جداً، لا موارد له، وكان يتزود بالمياه من ماليزيا، حتى بدأت عام 1974 تجربة إعادة التدوير و"دراسة استصلاح مياه سنغافورة"، وبدأت الجهود الهادفة إلى زيادة إمدادات المياه لاستخدام المياه غير الصالحة للشرب. وتم التركيز على الحلول المستدامة للمياه للمدن. ويبدو من دراسة العلاقات بين لي سنغافورة ومهاتير محمد في ماليزيا أن أحدهما كان ينظر إلى تجربة الآخر بنوع من المنافسة مع تبادل الزيارات وتحسن العلاقات الشخصية، والدبلوماسية بينهما، وعدم تدخل مهاتير في شؤون "السنغافوريين .. وتكلل عام 1988، التوصل في كوالالمبور إلى الاتفاق على بناء سد لينجي على نهر جوهور".
في يونيو/حزيران 2005، نشر لي كتاباً مهماً يمثل خلاصة فلسفته النهضوية عنوانه "الاحتفاظ ببلدي النهضوي على قيد الحياة"، موثقاً وراسماً خارطة الطريق لمستقبل آت، مشدداً على وحدة المجتمع المدني، وعلى العمل المنظم وعلى اللغة الإنجليزية التي وحّدت الناس، وعلى ضرورة تجديد مستمر للمواهب في قيادة البلاد، قائلاً: "في عالم مختلف اليوم، نحتاج إلى إيجاد مكانة لأنفسنا، وأن لا نركن في زوايا الضآلة، فعلى الرغم من صغر حجمنا، يمكننا أن نؤدي دوراً سوف يكون مفيداً للعالم. ومن أجل القيام بذلك، سوف نحتاج إلى أناس من القادة، من أقوى وأعلى البنى الفوقية، ليكونوا صانعي قرارات مبنية على التبصر، كما نحتاج إلى عقول جيدة، منفتحة الأفكار، ويمكن أن يغتنم الفرص جيل جديد، كما فعلنا نحن في جيلنا. وكان عملي الحقيقي فعلاً يتجلى في العثور على خلفاء لي لقيادة التجربة. وأن تكون وظيفتهم البحث عن خلفاء لهم. لذا، يجب أن يكون هذا التجديد المستمر للموهوبين، في سياسة مكرسة للتجديد، وأن يكونوا صادقين، وقادرين على خدمة الناس. وأتمنى عليهم ألا يفعلوا أشياء لأنفسهم، ولكن، لشعبهم ولبلدهم، وأن يحملوا الأمانة إلى جيل آخر، لكي يمضي الركب، وحاذروا من لحظة ينكسر فيها أي شيء، فما ينكسر يذهب ولا رجعة لإصلاحه". وفي كتاب لي الآخر "الحقائق الصعبة .. الاستمرار في سنغافورة"، يبدو الرجل أنه كان يجدد نفسه من زمن إلى آخر، وبدا للعالم في نهايات حياته أنه يمتلك أقصى درجات الحداثة. وليس لي الا ان اقول بأن تجربة الرجل اليوم محل اهتمام كبير جدا في صحافة الغرب والعالم ، والوقوف على منجزاته الخارقة التي غدت انتصارا حقيقيا لجمهورية سنغافورة .. ان العالم يقف اليوم مندهشا باحترام لما قدمه هذا الرجل لبلده بعيدا عن كل التفاهات التي انشغل بها غيره من الحكام . ولكن السؤال الاهم : متى يتعلم العالم الاسلامي قادة وشعوبا من تجارب معاصرة لغيرهم في الشرق ام الغرب ؟
1390 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع