د. سيّار الجميل
الحلقة 3
البناء الحديث والتقهقر المعاصر
بدأ العراق الملكي علمانياً متخذاً من مدينة بغداد القديمة عاصمة جديدة للعراق الذي برز للوجود المعاصر مملكة كان الإنكليز وراء تشكيل الدولة الممتدة حدودها من زاخو شمالاً حتى الفاو جنوباً ، إذ اتّحدت الولايات العراقية العثمانية الثلاث : الموصل وبغداد والبصرة في دولة واحدة ضمن الحدود الإدارية القديمة ، وكان العراقيون اجتماعياً قد انصهروا على امتداد قرون طوال في مجتمع بدت ملامحه واضحة ضمن جغرافيته الثقافية ، وكان المثقفون في المجتمع العراقي قد احتفلوا بولادة هذا " الكيان " الملكي للجغرافية القديمة لبلاد ما بين النهرين ، وظهر تاريخياً أنّ العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية كانت قوية في عموم العراق وارتباط كلّ العراق بمركزية بغداد التي كان لها دورها في قلب العراق لتوحيد المجتمع العراقي ..
وقد حظي العراق بمؤسس تاريخي اسمه الملك فيصل الأول ( حكم 1921- 1933 )الذي بدا من خلال حكمه للعراق إبّان عشرينيات القرن العشرين وزياراته المتوالية لكلّ بقاع العراق ومدنه والالتقاء بكلّ عناصره السكانية ورجالات أديانه ومذاهبه وقومياته ، فكان أن كوّن معرفة معمّقة للمجتمع العراقي ، وقام بترجمة الروح الوطنية التي كان يتميز بها كل العراقيين الى جعلها نزعة اساسية في تكوين العراق المعاصر .. ويعتبر هذا من اعظم منجزات فيصل التاريخية ، وكان ان جعل بغداد مركز استقطاب سياسي وثقافي واقتصادي ، وخصها باهتمام من نوع خاص ، وبدا للعراقيين انه كان يعرف تاريخها معرفة ممتازة ، وكان يشيد في خطاباته بها وبمناطقها العريقة ومعابدها وجوامعها وعتباتها المقدسة وكنائسها .. انه يترجم ايضا ارادته باستعادة مجدها العتيق الذي كان زاهيا قبل مئات السنين عندما كانت بغداد صاحبة مركزية عالمية حضارية في قلب العالم .. ولعل من منجزاته المهمة حرصه على فرض الامن والنظام لدى كل العراقيين بعد ان كان الامن مفقودا والنظام غير موجود ، ولأول مرة ينكفئ نشاط قطّاع الطرق وتفرض السلطة قوتها على بغداد والمدن والبلدات العراقية . وامتثل المجتمع لكل من السلطة والقرارات وفرض النظام ، ونشطت الحركات الوطنية وانطلقت التجمعات السياسية واصبحت هناك بلورة لهويّة عراقية واحترام لرموز عراقية ومناهج تعليم قوية وذابت النعرات لدى الجيل الجديد ..
ولكن بالرغم من قوة الاغطية السياسية ، الا ان الطائفية – كما يبدو – كانت باقية ملتهبة تحت الرماد ، ولكن بألبسة وعباءات سياسية وأيديولوجية متنوعة . لقد كان فيصل الاول حكيما في علاقته بالمجتمع العراقي الذي خبره وعرفه اكثر من أي زعيم آخر في القرن العشرين ، كما توضح خطواته التاريخية ، ولكنه رحل قبل ان يكمل مشروعه .. وكنت اتمنى ان يكون العراق اكثر علمنة من تركيا المجاورة له ، اذ ان العراق كان ولم يزل بحاجة الى تجربة أتاتورك ولكنها مضاعفة ليس لقطع علاقة المجتمع العراقي بالدين ، ولكن للحد من تمسك المجتمع العراقي بالتناقضات الطائفية والآفات المذهبية وجعله منسجما مع ذاته اولا ووطنه ثانيا !
إن تقدما كبيرا حظيت به بغداد إبان النصف الاول من القرن العشرين ، فتوسعت في امتدادات باتجاهات مختلفة ، وحوفظ على الابنية الآثارية القديمة وتطورت مكتباتها ومتحفها الوطني وفتحت شوارع عديدة فيها ، وأنيرت مع الزمن وتأسست جملة من المدارس ودور التعليم وتأسست اول جامعة في بغداد وسميت بجامعة آل البيت التي عاشت قرابة سبع سنوات ، وكانت قد هدمت اسوار بغداد القديمة ، وتطور شريان بغداد الذي يمثله شارع الرشيد الذي تدفق بحيوية ونشاط .. اذ كثرت فيه الاسواق والبنوك وانتشرت دور السينما والملاهي وتأسست الحدائق وكثرت جسور بغداد .. وعندما عاشت بغداد في عقد الخمسينيات ، بدت عاصمة جميلة نظيفة كان كل عراقي يحلم بزيارتها وينزل في فنادقها ويتمتع بمشاهدها والجلوس في مطاعمها ويتنزه عند ضفاف دجلة او يتمشى في شوارعها الساحرة .. ويشم روائح زهورها واشجارها .. وينعم نظره الى عمارة بيوتاتها الجميلة . كانت مدينة آمنة تسهر الى ساعات متأخرة من الليل وهكذا وجدنا الحالة الامنية متوفرة في كل مدن العراق مع وجود سلطات من الشرطة لفرض الامن وتنظيم المرور وناس يخدمون شوارعها وحدائقها .. لتنظيفها كل يوم مع رشها بالماء كل مساء ..
مع كل هذا وذاك ، كانت بغداد تلتهب سياسيا من قبل احزاب الجيل الصاعد ضد نظام الحكم الملكي الذي لم يقف طويلا عند مسائل ثقافية وسياسية جوهرية بتبدل الزمن لدى الجيل الجديد ، ولم يدرك حجم تأثير الحرب الباردة والثقافات الجديدة ، بل وتبدل العالم كله اثر الحرب العالمية الثانية .. ولم يتنبه الى تصاعد القوى الشعبية ومطالب العراقيين السياسية وموجة الايديولوجيات الجديدة التي أسماها بالوافدة ، ولكنه اهتم بمشروعات استراتيجية وتحالفات اقليمية ودولية .. كما استمر نظام الحكم على نهج سياسي متحالف مع الغرب الذي اعتبره الجيل الجديد يتناقض مع حركات التحرر من الاستعمار كما كان رائجا وقت ذاك .. ولم يتنبه الى حجم الهجمة الاعلامية المضادة الكاسحة التي كانت تؤججها اذاعة صوت العرب من القاهرة ضد بغداد ..
لقد مرّ العراق بأهم مرحلة تاريخية من تكوينه المعاصر ببناء جيل مستنير ومبدع على العهد الملكي ، ولكنه تغير تغييرا جذريا يوم 14 تموز / يوليو 1958 ليبدأ النظام الجمهوري بتعاقب حكام ومسؤولين عراقيين عسكريين يتّبعون سياسات شعبوية ، ومن ثم تسلم الحكم فيه البعثيون ليتمزق العراق شعبويا من خلال شعارات وسياسة اججّت المجتمع العراقي ، ولم تعد الكفاءة والجدارة مهمة لتبوُّء الرجل المناسب في المكان المناسب .. وتسلّط عليه صدام حسين الذي ازدحم عهده بالحروب والمآسي وخصوصا حرب إيران 1980 – 1988 ، وغزو الكويت 1990 ، وحرب الخليج الثانية 1991 ، والحصار القاسي على العراقيين 1990- 2003 واشتعال الحرب الثالثة 2003 حتى ازيح النظام بغزو امريكي دام ثلاثة اسابيع فقط وفرض الاحتلال .. ليبدأ العراق مرحلة تناقضات تاريخية جديدة وهو يعاني اليوم اشد المآسي والمعاناة التاريخية جراء اتباع عملية سياسية كسيحة ودستور ملئ بالتناقضات ومحاصصات حزبية وطائفية وانقسامات سياسية واختراقات اقليمية واجندة اميركية وصراعات اهلية وثقافات شعبوية سلبية .. وحكام جدد لا يعرفون فن الحكم ولا ادارة الازمات وليس لهم معرفة حقيقية بالعراق واهله .. واغلبهم يقدمون النزعة السياسية والمذهبية والعصبية على الروح الوطنية ! فليس من العقل بمكان ان تضيع المليارات من الدولارات ووضع العاصمة بغداد والمدن العراقية لم تزل في حالة تعيسة . وتغّيب عدة نخب ذكية وقوية عن ممارسة دورها في نهضة العراق ، بل وتضطهد القوى المدنية الفاعلة في المجتمع العراقي اليوم على حساب هيمنة طبقة طفيلية تتخذ الدين والعمامات واللحى شعارات لها وهي تتكون من احزاب طائفية وميليشيات ترتبط باجهزة خارجية ..
إن الفرق التاريخي بين رجال العهد الملكي في العراق عن زعماء العهود الجمهورية .. ان الاوائل من الملكيين لم ينزلوا من ابراجهم العاجية او النخبوية ولكنهم ارادوا ان يرتفع الشعب اليهم ، فكان ان انفصل الشعب عنهم .. في حين اتبع الاواخر من الجمهوريين سياسات شعبوية لإرضاء العراقيين ، وهي سياسات متناقضة اذ نزل الحكام الى مستويات التفكير الشعبوي .. وبدت السياسات صبيانية والقرارات مستعجلة والموارد مبددة والمناهج متخلفة ، واثيرت النعرات والتفرقة .. فتمزق العراق !
إن كليشيهات التاريخ لا تعيد نفسها ، ولكن قد تتكرر المتشابهات منها مرات ومرات على امتداد الازمنة .. ما تمّ وما حصل في مدينة بغداد من انتقالات بين الجماليات العالية كأفضل مكان عبقري لهذه المدينة يسجل قوة متميزة مقارنة بغيرها من الأماكن على وجه الأرض .. ثم تدّمر بانتكاسات وازمنة من الكآبة والمرارات بدخولها في دورات دموية ساخنة بلا هوادة بحيث تسجّل حضورا مأساويا لها ولكل مدن العراق الاخرى ، اذ تمرّ في نفق لا مفر منه فترتخي وتذهب قوتها وتذبل جمالياتها مع انهيار حياتها الثقافية وعبثية اهلها الذين يتعرضون لمواجهات مع الموت ويكونوا جزءا من مشروع الصراعات وإراقة الدماء. ربما لا أحد قد أعرب عن هذه الازدواجية في التاريخ البغدادي الذي شمل كل العراق ، وهو يعيش اليوم مأساة تاريخية سوداء بانتقال الصراع الى دواخل المجتمع الذي مزقته الطائفية بعد ان عاش مرحلة تأججت فيها حمى الأعراق والاستبداد اعقبت مرحلة انقسامات سياسية وأيديولوجية وحزبية .. إنّ أصعب ما يواجهه العراق كثرة المتعصبين لهذا الطرف أو ذاك ، وخصوصاً أولئك الذين لا يعرفون إلا التعصّب الأعمى لطوائفهم أو أطيافهم أو أحزابهم أو عقائدهم أو أيديولوجياتهم السقيمة .. لقد كانت الرحلة مع كتاب جوستن مازوري عن بغداد السلام وبغداد الدم ، ممتعة ومفيدة ولها محطات رائعة يمكننا من خلالها مقارنة ما فات من تاريخ المدينة الى يجري فيها اليوم .. والتأمل في ما سيأتي في قابل الايام .
واخيرا ، إن العراق بحاجة الى مجتمع عاقل ومتوازن ويفكر في المستقبل لا في الماضي وان تديره نخبة نظيفة من المستنيرين المتمدنين .. ان العراقيين ينبغي عليهم الخروج من هذه الدوامة التاريخية المريرة التي بقيت مستمرة معهم قرونا طوالاً ، وهي دوامة منغصة وقاتلة كونها ستبقى مندفعة ومشتعلة في النفوس والضمائر .. مع ولادة ثارات وأحقاد وهي تدخلهم وتخرجهم من دوائر عنف الى ساحات عنف مضاد .. ان التاريخ المتناقض هنا سيضرّنا ولا ينفعنا ، وسيبقى عائقا امام التقدم دوما .. اننا لو بقينا وراء انقسامات التاريخ ، فسوف يضيع مستقبلنا تماما .. وللعلم ، فإن التاريخ الوسيط لو كان باقيا يعيش في اذهان الأوروبيين أو الآسيويين لبقي العالم حتى اليوم يعيش حياة العصور الوسطى ، وربما انتقلنا الى الحياة البدائية .. فمن يخرج من العراقيين من هذا الكابوس ليبدأ حياة جديدة؟ من ينقلنا من بدائيات التاريخ إلى حياة العصر ؟
541 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع