أفرزت الانتخابات الرئاسية الأخيرة انقساما حادا في الشارع المصري، فلم يتمكن مرشح الإخوان محمد مرسي من أن يجتاز القنطرة إلا بصعوبة بالغة، وهذه الحقيقة ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند تحليل الأزمة الراهنة، يضاف إليها أن الأصوات التي ذهبت لمرسي في الجولة الثانية لم تكن كلها حبا بمرسي، بل خوفا من شفيق الذي انحصرت المنافسة بينه وبين مرسي.
تمكن محمد مرسي في فترة قصيرة أن يبدد الكثير من الشكوك والمخاوف حول كفاءته الشخصية وتوجهاته الأيديولوجية، وقدّم نموذجا ناجحا ومنسجما مع حالة الربيع العربي، مما بشّر بالفعل بولادة عصر جديد لمصر، وهذا ما انعكس على الشارع المصري حتى في أوج الأزمة، حيث قدّرت بعض المصادر المحايدة عدد الذين خرجوا في مظاهرة التأييد لسياسة الرئيس بستة ملايين، في مقابل بضعة آلاف تمكنت المعارضة من تهييجهم وحشدهم.
ربما أدركت المعارضة أن الفارق العددي لم يعد في صالحها فراحت تراهن اليوم على حاجة الرئيس إلى الاستقرار لإنجاح تجربته والوفاء بوعوده التي قطعها على نفسه في حملته الانتخابية، وبالتالي فإن استمرار الشغب على أي وجه كان لا يضر بالمعارضة بقدر ما يضر بمرسي.
لا شك أن المعارضة بهذا السلوك ترتكب خطيئة كبيرة بحق مصر وبحق الثورة، فإفشال التجربة الحديثة لن يقود البلاد إلا إلى حالة من الارتباك والفوضى، قد تكون أسوء بكثير من حالة الاستبداد والأحكام العرفية التي عرفتها مصر في تاريخها القريب.
وربما يجمع المراقبون على أن محمد مرسي لم يرتكب من الأخطاء ما يستوجب كل هذا الشغب إلى حد المطالبة بإسقاطه ورحيله! لكننا حينما نفكر بطريقة أعمق ربما ستنكشف أمامنا وجوه أخرى للصراع مختلفة عن تلك التي تتصارع في ميدان التحرير أو حول القصر الرئاسي.
بشكل مفاجئ غيّر الغرب من طريقة تعامله مع الإسلاميين، وكأنه يعطيهم هذه المرة الضوء الأخضر للخروج من السجون والمعتقلات إلى القصور الرئاسية، ولم يكن هذا التغيير رضوخا للنتائج الانتخابية كما يتوهم البعض، فإن جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر قد حصدت أكثر من 80% من الأصوات ولكن الغرب هدد في حينها بالتدخل العسكري، وراح يدعم القوى العسكرية والأمنية المناوئة للإسلاميين حتى تم استبعادهم بالفعل وحرمانهم من استحقاقهم الانتخابي.
ما الذي تغيّر اليوم؟
هناك معلومات عن حوارات مكثفة جرت قبل الربيع العربي بسنوات بين الغربيين وبعض الحركات الإسلامية، تمخضت عن تكوين رؤية مشتركة بضرورة السماح للتجربة الإسلامية بممارسة دورها واختبار قدراتها في الإصلاح وطريقة تعاملها مع الآخر الداخلي والخارجي، وربما كان النموذج التركي حاضرا ومشجعا لتكوين هذه القناعة.
اكتشف الغرب في كل دول الربيع العربي حجم التأييد الشعبي للإسلاميين، ولا شك أن هذا يثير اهتمامهم وربما قلقهم، وحتما إن قلقهم الأكبر ليس من إخفاق التجربة الإسلامية وإنما من نجاحها، حيث سيمثل هذا النجاح مفتاحا لعصر جديد وأمة جديدة وبمنظومة قيمية مختلفة عن كل تلك المفاهيم التي حرص الغرب على نشرها وتعميقها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
إن الغرب يدرك أن «الإسلام المتطرف» رغم ما يسببه من اختراقات أمنية مزعجة له؛ إلا أنه غير قادر على صناعة المشروع النهضوي والحضاري المنافس للمشروع الغربي، وذلك بخلاف «الإسلام المعتدل»، وبمقارنة بسيطة بين التجربة الأفغانية والتجربة التركية تتضح الصورة بشكل أفضل وأدق.
وإذا كان الغرب ولحسابات استثنائية خاصة قد قبل بالتجربة التركية، فإن تعميم هذه التجربة في العالم العربي خاصة مصر قد يضيف له مخاوف جدية تبدأ بتهديد الأمن القومي لإسرائيل، وإحياء ثقافة المقاطعة والمحاصرة، وانتهاء بإنعاش حلم الخلافة الإسلامية الذي ما زالت تختزنه مشاعر المسلمين وعواطفهم بصورة أو بأخرى.
إن الغرب ليس حريصا على حقوق الإنسان ولا نشر الديمقراطية حتى لو تظاهر بهذا، فقد كان باستطاعته أن يصنع نموذجه الديمقراطي في العراق، لكنه آثر عن عمد وقصد أن يصنع نموذجا آخر هو أقرب إلى النموذج الثيوقراطي الذي عرفته أوروبا في عصورها الوسطى، وفي سوريا آثر الغرب أن يبقى مختبئا خلف الفيتو الروسي ومتفرجا على الدماء الجارية والمساكن المدمرة! وعليه فإن مواقفه من الثورات العربية ينبغي ألا تقرأ بمعزل عن هذا السياق.
ربما يفكر الغربيون في أن الطريق الأقصر جهدا ووقتا لضرب المشاريع الإسلامية هو ليس بحجبها عن الضوء وحرمانها من استحقاقاتها «الديمقراطية»، فهذا قد يكسبها قوة داخلية وتعاطفا شعبيا ويعفيها من أية مساءلة أو محاسبة، أما في حالة وصولها إلى دفة الحكم فإن الصورة ستنعكس تماما، وتبقى المراهنة على شيء واحد فقط وهو الأداء العملي لنظرية «الحل الإسلامي» والذي طالما رفعه الإسلاميون كسلاح في مواجهة الإخفاقات البائسة للأنظمة العربية الحاكمة.
يراهن الغربيون على ضعف الخبرة عند الإسلاميين واختلافهم في تصوراتهم عن طبيعة الحل الإسلامي، وقد تجلى هذا في تصريحات مضطربة لبعض «المشايخ» وهم يتناولون هذه الظروف ومن على الفضائيات بعض المسائل مثل «حكم ضرب الزوج لزوجته»! والذي تناولته العربية باهتمام وهي تغطي الأزمة السياسية لمصر!
وحينما يتمكن الإسلاميون من كسب الرهان فإن الغرب لا يعدم وسائله المعهودة في إثارة المشاكل وتوجيه الرياح بالطريقة التي لا تشتهيها سفنهم، وربما تصلح الحالة السودانية نموذجا لهذا، حيث لم يعمد الغرب إلى الإطاحة بالإسلاميين لكنه اكتفى بإثارة المشاكل المركبة التي أدت إلى تقسيم السودان فكان وصمة ثقيلة في تجربتهم المرتبكة، ويقرب من هذا حالة الانقسام الحاد في النسيج الفلسطيني بعد صعود حماس.
في الحالة المصرية ربما لم يعد الليبراليون ودعاة التغريب والحداثة يصلحون لشيء من الإدارة والحكم، لكنهم قد يصلحون لصناعة الفوضى «الخلاقة» التي أصبحت استراتيجية متبعة لدى قادة البيت الأبيض في المرحلة الحالية.
ربما كان السيناريو الأفضل في هذه المرحلة أن يتفق الإسلاميون على دعم العناصر المستقلة التي لا تثير القدر من التحسس الذي تثيره الجماعات الإسلامية نفسها، وبهذا تسقط ورقة الغربيين في المراهنة على إسقاط «الحل الإسلامي» أو التجربة الإسلامية، وبأسوأ الاحتمالات فإن فشل أبو الفتوح أو غيره ليس كفشل الإخوان المسلمين، وقد كان إعلان الإخوان بادئ الأمر عن عدم رغبتهم في المشاركة الانتخابية مؤشرا قويا على وعيهم بطبيعة المرحلة وتحدياتها.
في التاريخ حينما هم عمر بن الخطاب أن يخرج بنفسه لمقارعة الفرس منعه علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقال له: (إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك) الكامل في التاريخ 4/454.
يبقى أن الإخوان في مصر ومعهم النور وكل اللافتات الإسلامية الأخرى هم أعلم بقدراتهم وظروفهم الداخلية والخارجية، وحينما قرروا أخيرا التصدي المباشر لهذه المرحلة فعليهم أن يعدوا للبلاء جلبابه وللحرب لأمتها، وألا يدخروا شيئا من جهدهم، فإن مصر أصبحت أمانة في أعناقهم، وإن المشروع الإسلامي ونظريته في الحل قد أصبحا على المحك، وإن الاعتذار بشراسة الحملات المعادية لهم غير مقبول؛ لأن هذا هو المتوقع من قبل ومن بعد.
إن حجر الأساس لاجتياز هذه المرحلة إنما يكمن بعد التوكل على الله في إقناع المواطن المصري أنكم جئتم بالفعل لخدمته والتخفيف عن كاهله المتعب، وهذا يتطلب التخفيف من الخطاب التعبوي والأيديولوجي، والتركيز على قطاع الخدمات وتوفير متطلبات العيش الكريم لكل المصريين.
إن الغرب سيبقى يتوجس من هذه التجربة ويلاحقها بأدواته المختلفة، لكن الغرب هذه المرة لن يمثل إلا صفحة واحدة من صفحات الحرب الخفية على الإسلاميين ومشروعهم الصاعد.
769 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع