د. سيّار الجميل*
الحياة الكلدانية الجديدة في مشيغان
عندما ازورديترويت دوما اكون موضع ترحيب من قبل الاخوات والاخوة الكلدان العراقيين فيها ، وهم يؤلفون جالية عراقية اميركية كبيرة تنتشر في عموم الولايات المتحدة وكندا ، وكان آباؤهم قد استقروا في ولاية مشيغان على امتداد تضاعيف القرن العشرين ، وكان اغلبهم قد تدفق بكثافة واستقر في ديترويت منذ عقد الستينات من القرن العشرين حتى فاق عددهم عبر هجرات متعاقبة اكثـر من 150 الف نسمة ، وفقا لما اعلمتني به مؤسستهم .. ويسعفنا الصديق جاكوب بكال من خلال كتابه بالإنكليزية الكلدانيون في ديترويت Chaldeans in Detroit ( نشر في الولايات المتحدة 2014 ، ص 11) عن معلومات مهمة وصور تاريخية تثبت وجود الكلدان العراقيين من الكاثوليك في ولاية مشيغان كمجموعات مهاجرة مبدعة على امتداد القرن العشرين ليتمتعوا بحرياتهم الاقتصادية والسياسية التي يعتبرون انهم كانوا محرومين منها في العراق ، وقد تكاثروا مستفيدين من القوانين التي صدرت عام 1965 ليزداد عدد المهاجرين الكلدان العراقيين اكثـر فاكثـر .. ولقد تطورت ديترويت بفضل استثماراتهم ومؤسساتهم وفنادقهم واعلامياتهم ومشروعاتهم التنموية ، فضلا عن جمعياتهم الخيرية المتعددة .
واليوم ، يبلغ عددهم تقريبا 150000 كلداني يقطنون ديترويت وتوابعها ، وهناك ايضا 50000 استوطنوا كاليفورنيا ، والينويز ، وايروزونا ، وشيكاغو ومناطق اخرى في الولايات المتحدة ، ويضاف اليهم اكثر من 50000 كلداني آخر في مجاميع تنتشر في مناطق وبلدان اخرى في العالم ، مثل : كندا واستراليا ونيوزيلندا واوروبا .. بمعنى ان اكثر من ربع مليون كلداني عراقي كان العراق قد فقدهم نهائيا ، وهم من ابنائه القدماء ، وقد اتوا جميعا في الاصل من الموصل وتوابعها في سهول الموصل الشرقية المزدحمة بالقرى والاديرة المسيحية ، وخصوصا من ناحية تلكيف وقراها .
الكلدان : لم تزل هويتهم عراقية
لقد وجدت ان الكلدان في العالم يحملون العراق في وجدانهم وضمائرهم ، وقد حملوه معهم ، ولم تبق معهم الا ذاكرتهم التاريخية التي يريدون توريثها لأبنائهم واحفادهم بعد ان هاجروا او اجتثوا بالقوة من وطنهم الام لأسباب لا يمكن ان ينكرها اي عراقي منصف ، وهو يتابع ما يحدث في العراق منذ ستين سنة ، اذ تفاقم حجم الكراهية وتفوقت الاحقاد على قيم التسامح والتعايش المشترك ، فضلا عن انهم كانوا وما زالوا من مشارب سياسية مختلفة : شيوعيون وقاسميون وبعثيون وليبراليون وملكيون وغيرهم ، ولكنهم جميعا ضد النظام الرث الحالي الذي لم يجدوا في عهده اي امان ، ولا اية ثقة ، ولا اي احترام ، ويخشى المسيحيون العراقيون على من تبقى منهم في العراق ، فمشروع اضطهادهم وغيرهم من ابناء الطيف قائم حتى الان من قبل الاحزاب الدينية ومراكز القوى السياسية ورعاع السلطة ، وقد وصل الامر مؤخرا الى فرض الحجاب على بناتهم ونسوتهم ، فكان ذلك محل استنكار شديد من قبل بطريرك الكلدان لويس روفائيل الاول ساكو في العراق .
تعددت أسباب هجرة الكلدان من العراق الى ديترويت ، إلا أن معظمهم توجهوا الى " الحي الكلداني" لكي ينضموا الى الاسر الشريدة والبحث عن حياة جديدة لضمان كرامتهم فيها ، اذ كانوا يشعرون بالاضطهاد ليس السياسي ، بل الاجتماعي وكان يتفاقم خفية منذ سقوط العهد الملكي عام 1958 ، بالرغم من فسحة الحريات التي تمتعوا بها ، الا ان الصراعات السياسية قد عكست ظلالها على المسيحيين الكلدان والسريان والاثوريين والارمن ، وبالأخص الشيوعيين منهم ! لقد بدأ عشرات الآلاف من المهاجرين الكلدان حياتهم العراقية الجديدة فـي هذا الحي الاميركي الذي كان جزءاً من منطقة بينروز. حتى يقال ان استقرار الكلدان في ديترويت قد اثر على طبيعة ديمغرافيتها السكانية ، اذ عاش تقريباً ربع المهاجرين الكلدان فـي عموم منطقة ديترويت ضمن ذلك الحي الذي قدرت مساحته بنحو نصف ميل مربع.
كانت العلاقات بين المهاجرين الكلدان قوية في وشائجها ، اذ التصق بعضهم بالآخر مع توفير الاجواء العراقية التي تجمعهم ، كما ساد التعاون فيما بينهم على افضل درجاته .. وكان الكلدان من القدماء يعتنون بكل من يصل اليهم من الكلدان العراقيين كي يعينوه على مواجهة الحياة الجديدة على مدى ستة اشهر ، ومن ثمّ يبدأ الاعتماد على نفسه في المأوى والعمل ، وبعد مرور اكثر من نصف قرن غدت الجالية الكلدانية في مشيغان قوة مؤثرة على مستوى المدينة والولاية معا ، بحيث امتلكوا اكبر قدر من الاستثمارات ولهم كنيستهم ووسائلهم الدعائية والمعنوية ومرافقهم الحيوية التي بدت لي انها تمتلك القيم العراقية في التعامل ، كما ان لها اعتزازها بالمواريث القديمة ولم تزل تعتز بمواريث عراقية رائعة .
الحي الكلداني : تطور مشيغان
عندما كثر توافد الكلدان فـي عقد الستينات من القرن العشرين ، بدأ المهاجرون الجدد يؤسسون محالهم واسواقهم ومطاعمهم ومخابزهم ومتاجرهم وفنادقهم واستثماراتهم ، وكانوا يوظفون ابناءهم واقاربهم للعمل في مؤسساتهم المربحة .. وبحلول السبعينات ، عجّ بعشرات المخابز الصغيرة والمتاجر المتخصصة والمطاعم المتنوعة والقاعات الاجتماعية والمقاهي . واصبح الحي الكلداني نقطة جذب رئيسية للمهاجرين الجدد. وبلغت قوة الكلدان في ديترويت ومشيغان مداها بحيث سيطروا على اقتصاد الولاية الاميركية واسواقها ، وبدأوا يؤثرون في حياتها السياسية والمؤسساتية ، وكانوا قد تميزوا بالتزامهم القوانين والمصداقية في العمل والتلاحم فيما بينهم .. وبالرغم من التحديات التي واجهتهم في ميشيغان ابان عقد الثمانينات بسبب هجرة البيض عنها ، وتفشي الجريمة والمخدرات وانهيار الشرطة ، فانتقل اغلبهم الى الضواحي فـي مقاطعتي ماكومب وأوكلاند. وكان ان رافقهم النجاح التجاري ، ما جعلهم في مستوى معيشي أفضل فـي مدن مثل وورن وستيرلنغ هايتس وماديسون هايتس وصولا الى الضواحي الراقية فـي مقاطعة أوكلاند. ولكنها كانت تحديات صعبة لم تجعلهم يغادرون مكانهم حتى في السنوات التي انحدرت فيها الحياة بديترويت . لقد عانى الكلدان فـي الثمانينات حين بدأت أحوال ديترويت تتدهور وزادت هجرة السكان البيض من المدينة على نطاق واسع، بعد تفشي الجريمة والمخدرات وانهيار الشرطة،
وكان المجلس العربي الاميركي والكلداني ،وهو منظمة غير ربحية، يقدم منذ ١٩٩٧ خدمات عامة للجالية مثل المشورة والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والتدريب المهني وفصول تعليم اللغة الانكليزية. وبعد مرور عشر سنوات، قام المجلس ببناء مركز آخر مجاور للتعليم. وهو يتقبل أي شخص من المنطقة، سواء أكان كلدانياً أم لا.
ما الانفع .. بناء صوامع ام تأسيس مصانع؟
اثيرت مؤخرا مشكلة من قبل الشيعة العراقيين في ديترويت والذين قدّموا طلبا رسميا للسلطات لبناء جامع او حسينية باسم "مركز ديني" في منطقة سترلنك هايتس بالولاية ، وعندما سئل سكانها رفضوا ، وهم اميركان من اصول مختلفة ومنهم بعض الكلدان ، كونه "مشروعا" له اهداف مبيتة ضدهم ، علما بأن عدد الشيعة قليل في هذه "المنطقة" مقارنة بمنطقة ديربورن التي ينتشرون فيها بكثافة ، اذ غدت منطقة سكن خاصة بهم ، وغدت تعد ذات كثافة واغلبية سكانية من المذهب الشيعي تصل الى اكثر من 70% وفيها جوامع وحسينيات ومراكز دينية شيعية وصحف ومكتبات واذاعات ومراكز تجارية وتسويق خاصة فيها وكلها تحمل يافطات بالعربية وعناوين شيعية، واغلب سكانها من المهاجرين الشيعة العراقيين واللبنانيين ..
وقد علمت من مصادر موثقة ومطلعة في مشيغان ان مساحة الارض التي سيتم بناء الجامع الشيعي عليها في منطقة سترلنك هايتس بالولاية تبلغ 20500 قدم مربع (عشرون الف وخمسمئة قدم مربع) ما يعادل 2000 متر مربع تقريبا (الفي متر مربع) وبكلفة بناء تقدر بين 4 - 6 مليون دولار امريكي .. ولقد تفاقمت المشكلة بين الطرفين الكلدان والشيعة العراقيين الى حد تبادل الاتهامات بين الطرفين في الصحف والاذاعات ، كما وانتقد الكلدان خطبة امام وخطيب مركز الزهراء الاسلامي الشيعي في ديترويت سيد حسن قزويني ، ووصفوها انها خطبة عنصرية واستفزازية وتطاول مرفوض جملة وتفصيلا تتناقض مع روح الدستور والقانون الامريكي وروح العصر ، وهي خطبة تحريض على العنصرية والتفرقة .. وردّت صحيفة شيعية على الكلدان بأقذع التعابير كونهم عارضوا المشروع . ويقول الكلدان بأنهم ليسوا ضد بناء الحسينية او الجامع في أي مكان ، ولكنهم ضد تأسيسه في هذا المكان بالذات !
صحيح ، ان من حق اية جالية ان تتمتع بحريتها واختياراتها ضمن القانون ، ولكن لماذا هذه "المنطقة" بالذات والتي يصر الاخوة الشيعة على بناء مشروعهم فيها ؟ خصوصا وانهم كانوا قد عزلوا انفسهم عن بقية العراقيين في ديربورن منذ سنوات طوال .. انني احترم المبادئ التي يحملها الاخرون من أي طرف ، ولكن اليس من المنطق والعقل ان تبنى بمثل هذه المبالغ التي لا يعرف مصدرها مصانع توظف الناس العاطلين من الشيعة كي يحسنوا ظروفهم المعيشية بدل بناء جوامع وحسينيات وصوامع في ديترويت ؟
ان السلطات القانونية في الولاية بدأت بالاستفسار والتدقيق عن مصدر هذا التمويل لبناء الجامع والجهة التي تقف خلفه علما ان محافظ مدينة سترلنك هايس السيد مايكل تيلر قال انه لا يشجع بناء الجامع في هذه المنطقة المزدهرة التي ستتحول بوجود جامع كبير الى منطقة رثة تسكنها الاشباح السوداء . ويبدو ان الصراع يستفحل الان بين الطرفين مع تفاقم الحرب الاعلامية عبر الاذاعات ، ويبدو ان القائمين على هذا "المشروع" يتلقون الدعم من مراكز قوى سياسية متنفذة في كل من بغداد وطهران . اتمنى مخلصا ان تحلّ هذه "المشكلة" بين العراقيين في مشيغان ، وان يلتفت كل العراقيين فيها الى تطوير انفسهم وحياتهم ومصالحهم ومنافعهم وعقولهم قبل التنازع والاصرار على بناء الجوامع والصوامع !
*مؤرخ عراقي
370 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع