د. سيّار الجميل
"الكل يعلم أنه حتى في النظم الديمقراطية ثمّة خطوط حمراء لا يمكن أن يتعدّاها المعارضون إزاء رموز تاريخية أو مقدسة أو محترمة في المجتمع"
لم يكن رجل الدين يوماً مناضلاً أو مفكراً أو صاحب مشروع، بل هو "داعية"، أو يتسمّى مجاهداً في سبيل الله، وكان عليه أن يكتفي بمهمّته الفقهية ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولكن الموجة الجديدة أبدلت الجهاد الديني والهياج الطائفي ليحلّا محل النضال السياسي والوطني، وترك المجتمع وراءه نهايات رجال حقيقيين، ناضلوا من أجل قضاياهم القوميّة والإنسانيّة، واستسلم لتوّجهات دول وسياسات طوائف وإعلاميات مللٍ ونحلٍ مذهبية، تلبس اسم الإسلام زوراً وبهتاناً، وحلّ السباب والشتم محلّ الحجّة والمناظرة، وأخذ التسقيط والإساءة والتشهير محل الحسنى والمعروف، وسادت الأحقاد والكراهية محل المحبة والاحترام.
يهتاج الإعلام العربي فجأة، وتبدأ الأقلام تجسّم الموقف، وتبثّ الرعب بنذر الحرب، وكأنّ مجتمعاتنا لم تواجه حالاتٍ كهذه، ولا أدري لماذا لم تقم الدنيا وتقعد إثر حوادث أدهى وأمّر جرت من قبل؟ وكثيرون هم الذين أعدمتهم حكوماتهم، بناء على أنشطتهم المعارضة، وسواء كانوا معارضين سلميين، أو مجاهدين صادقين، أو متآمرين خونة، فهم يدركون جيداً طبيعة الخطوط الحمراء التي في كلّ بلد، وإن تجاوزوها فمصيرهم معلّق بيد حكامهم، سواء كانوا مستبدّين أم عادلين. في الماضي، كانت ردود الفعل سياسيّة بحتة، أما اليوم فالمشكلة تتأجّج من خلال ردود فعل طائفيّة عمياء، من دون التمهّل قليلاً، وتغليب العقل على العواطف.
كثيرة هي الأسماء التي مرّت في ذاكرتنا العربية، وخصوصاً من رجال الإسلام السياسي الذين صعدوا إلى المشانق، وقد اعتبرتهم حكوماتهم خونة مارقين، أو عملاء متآمرين، أو دعاة محرّضين على الاضطراب والتمرّد والعنف والفوضى ضدّ المصالح الوطنية. لقد أعدم الرئيس جمال عبد الناصر سيد قطب عام 1966، وأعدم البعثيون عبد العزيز البدري في العراق عام 1969، واختفى السيد موسى الصدر على يد معمر القذافي عام 1978، وأعدم السيد محمد باقر الصدر مع أخته العلوية نور الهدى بأمر من صدام حسين عام 1980، وأعدم خالد الإسلامبولي عام 1982 في مصر، بعد إدانته بقتل الرئيس أنور السادات علناً، وأعدم المصلح المسالم محمود محمد طه عام 1985 في السودان، وكان الرجل زعيم حركة إصلاحية غير تحريضية ولا طائفية، وقتل الصهاينة الشيخ أحمد ياسين عام 2004 كونه يجاهد على أرضه. وكان مصرع الشيخ محمد سعيد البوطي في دمشق عام 2013. كلّ هؤلاء وغيرهم من رجال دين أعدموا وقتلوا، وآخرهم إعدام المجاهدين، مولوي عبدالقدوس ملا زهي ومولوي محمد يوسف سهرابي، في إيران، لكننا لم نجد ما نجده اليوم من ردود فعل طائفيّة عاصفة، ولم تهاجم فيه أيّة سفارة، ولم تقطع علاقات دبلوماسيّة بين دول، بل ويمضي الحدث، من دون أن نسمع أيّ احتجاج أو تنديد.
هنا نسأل: ما الذي يجعل بعضهم يُصاب بهستيريا سياسيّة وإعلاميّة واسعة لمثل حدث معين دون غيره؟ وكلّ هؤلاء الذين ذكرناهم لم يكونوا شرسين جداً في خطبهم، ولم يستخدموا الشتائم، ولم يؤججوا المشاعر المضادة على ابن البلد أن يدرك تماما طبيعة النظام السياسي الحاكم فيه، فقد تربّى في رعايته، وعلى ابن البلد أن لا يكتشف نفسه معارضاً وهو في سن متقدّمة، وكأنهّ اليوم فقط أدرك طبيعة النظام الذي يعارضه، لكي يلقي بخطبه المتّصفة بالعنف وتحريضاته التي تدعو إلى التمرّد والمجابهة، والكلّ يعلم أنه حتىّ في النظم الديمقراطية ثمّة خطوط حمراء لا يمكن أن يتعدّاها المعارضون إزاء رموز تاريخية أو مقدّسة في المجتمع، ولا يمكن التعرّض لها أو تشويه أسمائها. ويستوجب على كلّ المعارضين معرفة نطاق حدودهم، والمجال الذي يمكنهم أن يتحرّكوا فيه، إلا إذا كان بعضهم يسعى إلى الموت بنفسه، ليجعل من نفسه بطلاً في التاريخ. وهنا، لا يمكن لكلّ المتعاطفين معه أن يتمرّدوا على الطريقة الإيرانية في إحراق السفارات وجعل الدبلوماسيين رهائن وتخريب العلاقات بين الدول.
بدأت ردود الفعل إيرانيّة، ثم انتقلت إلى بلدان أخرى تدور في فلك طهران، فالمشكلة إيرانية قبل أن تكون عربيّة، والكلّ يدرك كم أعدم من نشطاء وساسة ومعارضين إيرانيين على امتداد زمن طويل ، اي منذ تأسيس الجمهوريّة الإسلامّيّة الإيرانية قبل 35 عاماً، فهل سمعنا دولة عربيّة أو نظاماً عربيّاً، أو حتّى شارعاً عربياً واحداً تدخّل في شؤون إيران الداخليّة بشكل سافر؟ ربما استخدمت الاحتجاجات في الإعلام، غير أننا لم نجد عربيّاً يعتدي على السفارات، كما هي مهنة الحرس الثوري في إيران.
لم يقتصر الأمر على رجل دين أعدم لمعارضته السلطة وحدها، بل إنه تعرّض للمجتمع عندما سبّ الصحابة جهراً، من دون أن يحسب أيّ حساب لمشاعر الناس، ومن أجل تمرير شعاراته في بلده الذي ينبغي عليه معرفة حدوده فيه، بل لم يعرف الرجل إلا السبّ والقذف والقدح في كلّ ما استمعت إليه من خطب هستيرية صارخة. وكنت تمنيت لو حكم على الشيخ نمر النمر بالسجن المؤبّد بدل الإعدام ، ولكن ما يستغرب له المؤرخ أن تقوم الدنيا ولا تقعد لإعدامه، وعندما نستذكر حوادث إعدام طاولت رؤساء حكومات وجمهوريات ووزراء وقادة، نجد ردود فعل باردة ومتباينة على نهايات رجال وزعماء حقيقيين، كانت لهم مواقفهم ومشروعاتهم وأعمالهم، وقد تباينت ردود الفعل تلك لدى الدول والمجتمعات من إعدامهم ، إذ هناك من صلى صلاة الغائب على موت هذا الذي جاء بطريقة محزنة، وهناك من وقر في بيته وحزن مع أهله وأصدقائه على نهاية ملك رحيم، أو موت رمز قومي، أو زعيم أحبّ شعبه، أو رئيس صاحب مشروع. وهناك من عبّر عن استيائه من طريقة إعدام رجل مفكّر، أو زعيم بلد بقصيدة أو مرثية أو مقالة محزنة، وهناك من مشى في الشوارع بصمتٍ، بربطة عنق سوداء، وهو يحمل الزهور، كي يضعها على رفاته.
أُعدم أنطون سعادة في لبنان عام 1949، وكان صاحب مشروع سياسي ناضج، ناضل ومات من أجله وسيذكره التاريخ، وقد بكاه من أحبوه. وقتل نوري السعيد رئيس وزراء العراق وسحل في الشوارع عام 1958، ويستذكر العراقيون اليوم ذكراه الطيبة بألم وحسرة. وأعدم سعيد قزاز وزير الداخلية في العراق عام 1959، وكان من أكفأ الرجال في إدارة الأزمات، وقال عند شنقه: " سأصعد إلى المشنقة، وأرى تحت أقدامي ناساً لا يستحقون الحياة " . وأعدم عدنان مندرس رئيس وزراء تركيا عام 1960، وكان صاحب مشروع سياسي خطير سينضج بعده، وقد بكاه الناس في بيوتهم وصلّوا من أجله. وأعدم عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق عام 1963 إثر محاكمة صورية، وبطريقة مثيرة للاشمئزاز، وما زالت ذكراه باقية لدى عراقيين يبكون عليه. وأُعدم الزعيم الباكستاني، ذو الفقار علي بوتو، عام 1979، بعد محاكمة مثيرة للجدل، والرجل شهير بتوجهاته الفكرية ومشروعه السياسي، بعد أن لفّقت له تهمة باطلة، وقد مشى الناس مؤبّنين صامتين في الشوارع. وأعدم نظام الحكم في إيران عام 1982 صادق قطب زادة وزير الخارجية الذي لازم الخميني وخدمه سنوات، قبل اتهامه بالخيانة. كما أعدم رئيس أفغانستان محمد نجيب الله شنقاً عام 1996 وسط كابول، ولم تنفع مناشداته للعالم.. هذا قليل من كثير امثال المهاتما غاندي وجون كيندي وسلفادور اليندي وانديرا غاندي ورشيد كرامي ورفيق الحريري ، ناهيكم عن ثوار ومناضلين ومثقفين أعدموا أو قتلوا، وكانوا يخدمون قضاياهم الوطنية والتحررّية، أمثال : عمر المختار وعبد الكريم الخليل وتشي غيفارا وكمال عدوان وكمال جنبلاط وفرج فوده وجبران تويني وشكري بلعيد والإيرانية ريحانة جباري، وغيرهم كثيرون.
كلّ هؤلاء وأولئك يعدمون ظلماً وعدواناً، ومنهم من كان مناضلاً حقيقياً، ولم نسمع قط عن ردود فعل شرسة، ولا عن أّيّة تداعيات بين دول. فمتى يتحكّم العقل وتسود الحكمة في سياسات دولنا، كي تتعلّم منها مجتمعاتنا؟ متى يكيل الناس بمكيالٍ، لا بمكيالين متناقضين؟ متى؟
4789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع