أ.د. محمد الدعمي
لقد حافظ الكرد على وعي إثني قوي، قوامه الشعور أنهم امتداد (داخل العراق) من شعب كردي أكبر وأوسع انتشارًا؛ وعلى ذات المنوال حافظ السنة العرب على وعي موازِ بأنهم امتداد (داخل العراق) من أمة أكبر تنطق اللغة العربية وتحتضن غالبيتها الإسلام السني، مذهبًا. وأخيرًا، وجد الشيعة أنفسهم ممزقين بين نوعهم الإثني الأساس، عربًا، من ناحية، وبين مذهبهم الديني الإسلامي الخاص، من الناحية الثانية.
لقد تعقدت، لسوء طالع الدولة العراقية الفتية، إشكالية الهوية بعدما استحالت خيارًا نهائيًّا جادًّا (بين الهوية العراقية الرئيسة من ناحية، وبين الهويات الطائفية والإثنية الثانوية) سوية مع تعقد طرائق المركز (بغداد) نحو حل شائكية هذه الهويات الثانوية وفك عقدها: فعلى الرغم من جهود حكومات بغداد المتتابعة لدمج الكتل السكانية لتشكيل ولإنماء “شعب عراقي” متفرد، حافظت كل واحدة من الكتل السكانية الرئيسة، بمقادير متفاوتة من أنانية ـ التمركز، على نوع من آليات الولاء الداخلي المبطون لقياداتها المحلية بعيدًا عن الكتل الأخرى، زيادة على ولاء مبطون آخر، عابر للحدود، وهو الولاء إلى الكتلة السكانية الأصل والأكبر التي منها امتد فرعها في العراق، خاصة بعدما خطت اتفاقية سايكس ـ بيكو حدود الدولة الفتية بمشرط حاد. لقد حافظ الكرد على وعي إثني قوي، قوامه الشعور أنهم امتداد (داخل العراق) من شعب كردي أكبر وأوسع انتشارًا؛ وعلى ذات المنوال حافظ السنة العرب على وعي موازِ بأنهم امتداد (داخل العراق) من أمة أكبر تنطق اللغة العربية وتحتضن غالبيتها الإسلام السني، مذهبًا. وأخيرًا، وجد الشيعة أنفسهم ممزقين بين نوعهم الإثني الأساس، عربًا، من ناحية، وبين مذهبهم الديني الإسلامي الخاص، من الناحية الثانية. هذه هي الثنائية التي عقّدت إشكالية الهوية لديهم على نحو أكثر شائكية وإيلامًا مقارنة بسواهم، إذ ركز بعض الشيعة على “عروبته” على حساب مذهبه، والعكس صحيح. في الحال الأولى، نظر الشيعة إلى أنفسهم بوصفهم امتدادًا داخل العراق من أمة عربية مفترضة كما فعل إخوانهم من أهل السنة؛ بينما فضل البعض الآخر النظر لأنفسهم امتدادًا لكتلة سكانية شيعية (يتموضع خزينها السكاني الأساس في إيران وحواليها). أتاحت هذه الازدواجية، في الهوية الديموغرافية وفي تداخل وتعقيد التابعية التي لم تستثنِ أيًّا من الكتل السكانية الرئيسة في العراق، أبوابًا واسعة للتدخل الأجنبي في شؤون العراق الداخلية وشجعته على العبث بها مذ تأسيسه كدولة ذات سيادة. ولأنها التزمت تكريس الهويات الفرعية المنفصلة، أبدت قيادات الكتل السكانية للمركز ميلًا ملتويًا لأن تترك لحالها، مديرة ظهرها للدولة الحديثة العهد التي أسستها بريطانيا، على نحو اعتباطي، من بين حطام الإمبراطورية العثمانية المتوفاة. وقد تواصلت إشكالية الهوية الفرعية عبر مقاومتها جاذبية بغداد التي حاولت بقوة أن تطرد أو تضعف الهويات الثانوية لتحل محلها الهوية العراقية الجديدة الشاملة. ولكن على الرغم من التأكيد المتواصل الذي أبدته حكومات بغداد المتتالية على “عراقية” العراقيين جميعًا، إلا أن ضغوط الهويات الثانوية ما لبثت وأن راحت تتذبذب في دورها وأهميتها، متناغمة، صعودًا ونزولًا، مع قوة سلطة الدولة المركزية وفاعلية سياساتها. ولكن، كنمط عام متكرر، لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ ارتفاع مؤشر الشعور بالانتماء العام الأشمل للعراق في أزمنة الأزمات والحروب والكوارث، بينما هو يلاحظ هبوطه بسرعة خاطفة في أزمنة الاحتكاك الطائفي أو التنافس والارتطام الإثني، كما حدث بعد الغزو الأميركي للعراق على نحو واضح، 2003، للأسف.
1098 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع