عصام شرتح
يخطئ من يظن أن الخطاب القرآني خطاب لغوي؛ أو إعجاز لغوي فحسب، فهو خطاب معجز ليس باللغة، والإيقاع، وجرس الكلمات فحسب،وإنما هو معجز في جوانبه كلها، هو معجز في شكله، ورسمه، وبنيته التركيبية، وتعاليمه، وإرشاداته الدينية ،وصوره،وموسيقاه الداخلية،وعلاماته القرائية ،وفواصله، وهو يستحيل أن يكون كلام بشر؛لأن محاكاته مستحيلة،
واستنفاد مراميه، ودلالاته، ومكتشفاته، غير متناهية؛ فهو أشبه بخلية حية، أو نابضة في الحياة، والكلمة في القرآن تموج بالخصوبة، والإيحاء وتوالد الدلالات؛ فالقرآن ليس معجزاً في جانب من جوانبه منفصلاً عن الآخر؛ إن كل ما في الخطاب القرآني معجزٌ،ابتداءً من الصوت، والأعداد، والأرقام الحسابية، والفواصل اللغوية،والعلامات الإعرابية؛ وانتهاءً بالتركيب حتى فاصلته الأخيرة؛ ولهذا؛فمقياس الجودة في القرآن، أو مقياس الجمالية في القرآن لا تنطبق بشروطها على الكلام البشري، أو تحتكم بمعاييره،ومنظوماته المعرفية، ويخطئ أولئك المتفيهقون الذين يقيسون كلام الخالق بكلام المخلوق؛ أو الذين حاولوا أن يحايثوا الخطاب القرآني في فواصله،وعلاماته،ولغته؛ ظناً منهم أنهم يمتلكون القدرة على ذلك؛ مستسهلين المحاولة؛ لكنهم لم يعوا أن للقرآن إعجازه جملةً وتفصيلاً،وهو فوق قدرات البشر وتصوراتهم، فسهولة اللغة القرآنية ،ورشاقة جرسها الموسيقي ،وبلاغة الصورة القرآنية كلها من مظاهر جمالية القرآن وإعجازه حتى بعض التراكيب أو المفردات الثقيلة كما يظن البعض فإنها ذات بلاغة لا مثيل لها في سياقها،لأن الموقف أو الحدث القرآني أو المشهد يتطلبها من صميم الرؤية أو الموقف القرآني ،فتعجز البلاغة ذاتها عن إدراك هذا السحر وهذا الجمال والرشاقة والمتعة في هذا الخطاب المقدس لفظاً ودلالة، ومن هذا المنطلق،لا تكتسب لغة الخطاب القرآني إعجازها باللفظ فحسب ،وإنما بالمحتوى والمضمون الجمالي، والمدد القدسي النوراني الذي تشع به المفردات والجواهر المفرداتية في هذا الخطاب الإلهي الجمالي المعجز؛
وبتقديرنا: إن القواعد اللغوية التي تأسست عليها علوم العربية كافة مشتقة من الذخيرة اللغوية لهذا الخطاب، بل من هذا البحر الذي لا ينفد؛ من كلمات الله عز وجلّ؛ وما قوله تعالى:" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا،"؛ إلا دلالة على المخزون اللامتناهي لهذه اللغة التي لا يستطيعها البشر،ولو اجتمعوا على نسق واحد في محاكاة هذه الكلمات، أو محاولة استنفاد طاقتها الروحانية والدلالية والقدسية المتموضعة فيها؛ لما استطتعوا الإلمام بمتغيراتها؛ ودليلنا: إن هذه الآية لو وضعت بمقابلها بحور من الكلام البشري لرجحت عليها؛ وهذا رد منا على أولئك المتفيهقين الذين يقيسون كلام الله بكلام المخلوق، أو الذين يقيسون كلام الله بكلام الخلق ومعاييره الدونية في التقادم والتلاشي الدلالي؛ فالكلام البشري مهما ارتقى جمالياً في أي خطاب أدبي يبقى في حيز التقليد أو المحاكاة التي لا تتجاوز حدود الآنية، ولحظتها المتقادمة، أو الزائلة، في حين تبقى اللغة القرآنية في عالم من الرفعة والسمو والتحليق الجمالي المطلق؛ وهذا يعني أن الخطاب القرآني لا يتقادم زمنياً، في حين أن الكلام الأدبي يتلاشى ويتقادم زمنياً،وهذا من مصدر جمالية اللغة القرآنية وسموها ورفعتها؛ وبتقديرنا إن محاولة بعض الشعراء تقليد القرآن في شكله ومضمونه،إن بنوايا حسنة، أو سلبية،لهي محاولة خاسرة بشكل لا يدع مجالاً للشك، فقد تكفل الله بأن يجعل كلمته العليا، بمعنى أن لغة الخطاب القرآنية متعالية إعجازاً وجمالاً ؛ ومصونة عن التقليد ،ولو اجتمعت كل مواهب الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً؛ لما استطاعوا أن يحايثوا آية، أو يخلقوا رصانة في نسج الجملة القرآنية التي تبقى متعالية حتى فوق اللغة ذاتها؛وشتان في القوة والمنعة والحصانة في المفردة القرآنية مقارنة بالمفردة الشعرية مهما ارتقت وسمت.
والجدير بالذكر أن كل كلمة في القرآن تملك خصوصيتها وبناءها المؤثر فلا يمكن استبدال كلمة بكلمة رديفة، لأن الهالة القدسية للنسق البلاغي القرآني ستخدش،وهذه الخصوصية في المفردة القرآنية من مظاهر إعجازها اللغوي؛ ودليلنا أن الكلمات مخلوقة في سياقها خلقاً فلا تستطيع انتزاع كلمة بكلمة رديفة، لأن للقرآن جرسه الخاص وإيقاعه القدسي الذي نتج عن ذات إلهية خالقة، لهذا الكون،ومدبرة لأموره كافة. في حين أن الكلام الشعري يتم فيه ذلك بسهولة ويسر شريطة المحافظة على الوزن والجرس الموسيقي.
وما ينبغي التأكيد عليه أن الجمال الإلهي معكوس بالمنطوق اللغوي القرآني،ودليلنا أن الكلمة القرآنية هي ومضة جمالية مشرقة من ذات إلهية رائية خالقة لهذا التميز والاختلاف،وهذا يعني أن الإعجاز الفني هو جزء من الإعجاز الجمالي في خصوصية المفردة القرآنية، فكلمة (قل) في نسقها في الآية السابقة متناغمة جملة وتفصيلاً مع مضمون الآية ومحفزاتها، خاصة في قوله عز وجل:(لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي)،فالبحر باتساعه وتدفقه لا ينفد من الماء، فكيف تنفد كلمات الله والبحار كلها كلمة من كلماته.؟!!وهنا تكمن القوة اللغوية ومثار الإعجاز اللغوي في القرآن.
إن الكلمة القرآنية تملك قدسيتها في النسق القرآني المتشكلة فيه،ودليلنا قوله تعالى(فبأي آلاء ريكما تكذبان) ؛ فعلى الرغم من تكرارها مرات كثيرة في سورة الرحمن، لكنها جاءت في كل أية بوصفها رنة لغوية تنماز في صداها النغمي عن رنتها السابقة وجرسها الصوتي السابق، مصحوبة بالجملة السابقة ؛ بمعنى أن النسق النغمي للكلمات القرآنية في سورة الرحمن هو ما يعطيها هذا التميز والاختلاف.والقراء المختصون في هذا الجانب هم على إطلاع أكثر منا بالخلفية النغمية المعجزة في الكلمات القرآنية المتموضعة في نسقها؛ ووفق هذا التصور، فإن ما يحاوله المتسلقة على الفن والأدب من مماحكة الكلمات والتراكيب القرآنية،ظناً منهم باستطاعتهم ذلك إنهم لاشك يصيدون في الماء العكر؛ لأن لكل حرف قدسيته، وجماليته في السياقات القرآنية،وهذه من لمسات الخالق القادر على ذلك بسهولة، في حين يعجز الكلام البشري على إدراك ذلك أو حتى الوعي بخطورة ذلك.
هذا على مستوى الإعجاز اللغوي، أما على مستوى الإعجاز الفني، فإن الصورة القرآنية صورة تمثيلية معجزة في ترسيمها المشهد أو الحدث، أو الموقف، بصرياً وفضاء متخيلاً، بمعنى أنه في الصورة القرآنية يتداخل فيها البصري بالمجرد،والحسي بالمعنوي ،والرؤية البصرية بالرؤيا المتخيلة؛والموسيقا الصوتية بالموسيقا التصويرية، والمشهد اليومي بالمشهد السرمدي،والبلاغة بالإطناب،والإيجاز بالتفصيل؛والفصل بالوصل، إنه كينونة من الحراك الدائب في الدلالات والمعاني والمكتشفات المستمرة اللامتناهية،وهذا ما يجعل لغة هذا الخطاب خالدة باقية فوق سجل الوجود؛ وفوق مدار الزمن المتقادم المتناهي؛ ولا نبالغ في قولنا كل جماليات المتعة، والفن، والأنس،والسكينة، والإدهاش مجسدة في هذا الخطاب،ولهذا؛ له طلاوة وحلاوة تسكر النفوس وتأنس إليه؛ وهذا ما يمنحها خصوصيتها الإعجازية؛وإن المطلع على الإعجاز التصويري في الكثير من الدراسات القرآنية التي تناولت هذا الجانب تحديداً يدرك ذلك،وهذا ما أقدم عليه الباحث القدير أحمد ذكريا ياسوف في كتابه (جمالية الكلمة القرآنية ،وخلص بنتائج قيمة، يمكن الرجوع إليها للإفادة والاضطلاع،وبراعة الاكتشاف.
وصفوة القول :
إن جمال الله وقدسيته معكوس في خطابه القرآني، وهذا يعني أن الخطاب القرآني معجز في اللغة ؛والإيقاع،والصوت،والنغم،والدلالة،والصورة والمشهد،والموقف،والقصص،والسرد،والحوار ...إلخ. وهذا ما يكسبه إعجازه وفوقيته،وروحانيته التي تبقى فوق القدرات البشرية،ومستوى وعيهم وإدراكهم،ويبقى هذا الخطاب مماحكاً بجماليته وفوقيته فوق قدرات الخلق والامحاء، والتقادم الزمني.ورحم الله من أدرك هذه الحقيقة ووعاها منذ قراءته الأولى لهذا الخطاب المتعالي في بنيته اللغوية،والفنية ،والجمالية.
674 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع