بقلم/ حامد خيري الحيدر
بثبات شق المركب المصنوع من حزم القصب عباب البحر،رغم شدة الريح وقسوتها وتلاطم الأمواج فيما بينها، تارة تعلوا لتغدوا كأنها جبل أشم رافعة إياه برجاله السبعة كما لو أنها تريد قذفه بعيداً حيث النجوم وبريقها الأزلي، لتنخفض به تارة أخرى متحولة الى هوّة سحيقة كأنها تهّم بابتلاعه.. ولم يكن ليضاهي غضبة الطبيعة هذه سوى قوة وهمّة تلك السواعد السُمر الصُلبة التي تحرك مجاديف المركب..... (أقوى يا رجال (سومر)، أضربوا بمجاديفكم أقوى، دعوا البحر يرى قسوة سواعدكم وشّدة بأسكم.. دعوه يرى أي رجال هم أولئك الذين تربوا تحت ضلال النخيل وارتشفوا مياه الفرات مع حليب أمهاتهم)..... هكذا صاح (أوندالو) بينما هو ممسكاً الدفة ببحارته الأشداء المنهمكين في التجديف، غير مبالين برشقات الماء العنيفة المتطايرة التي أنقعت أجسادهم وسطح المركب.. كان كل همّهم أن تمّر هذه العاصفة الهوجاء كسابقاتها اللواتي تجرأن على امتحان قوة أرادتهم..... وكما أعتاد من خبر أهوال البحور وفك احجية أمزجتها المتقلبة شيئاً فشيئاً وكما بدأت دون سابق انذار، ما لبثت العاصفة أن بددتها أنفاس البحر، كأنها لم تكن سوى زفرة غضب على من امتطوا عليائه متحدين ثورته، ليعود منكسراً خائباً أمام قوة صبرهم وعزيمتهم.
تهادى المركب على صفحة المياه الزرقاء الساكنة التي أعلنت أن البحر قد حان وقت قيلولته ليأخذ معها قسطاً من الراحة والخمول، فهّدأ من روع أمواجه وعواصفه قبل ان يعاود ممارسة هوايته المفضلة بمشاكسة راكبيه.... ولم يكن ليكسر هذا الهدوء سوى صيحات النوارس البيضاء المحلقة حول المركب، مستغلة ذلك الصفو لتأخذ باستعراض مهارتها في الطيران، كأنها تحوم بحثاً عن وطن نست صورته في مخيلتها، فصارت تبحث عنه بين الرياح وبين البحار علّها تعثر عليه، بعد أن غدا عنواناً للتائهين وحلماً للضائعين الذين نسوا ملامح أرضهم.
استغل الرجال روقان البحر ليريحوا اجسادهم ويزيلوا بعض ما لحق بها من تعب وارهاق، قبل ان يعاودوا التجديف مجدداً في صراعهم الذي بدا من دون نهاية مع البحر الذي أفقدهم طريق الوطن، لتصبح أمواجه ملاذهم ومنفاهم، منذ أن غدوا يبحرون في دوامة مغلقة من الضياع، كلما سلكوا طريقاً جديداً آملين بالخلاص والنجاة، لم يجدوا نفسهم فيما بعد إلا وهم يرجعون لبدايتهم المحيّرة، بعد أن حَجبت عنهم العتمة بغفلة من غرائب ونقائض زمن غادر قناديل الكون، ليفقدوا معها خيوطه الواهية التي تدلهم الى شطآن (أريدو).
أستل (لوبوماش) نايه العتيق الذي لا يفارق نطاقه، ليبدأ عزفه الشجي الحزين الذي تلاعب بخيالات رفاقه، مسافراً بهم الى عالم ساحر جميل مُسكتاً أنينه إياهم، مثيراً لواعج قلوبهم الباكية بفراق الأحبة والوطن، وكأن تلك القصبة النحيلة المجلوبة من أهوار سومر قد احتضنت كل تلك الشجون، فتحدثت عما يجول بين ثنايا صدورهم العامرة بالحنين.. لم تكن تلك أنغام في حقيقتها بل آهات بثتها روحه المتعبة التواقة لرؤيا (أريدو) وشوقه الأبدي لخط شاطئها الساحر.. (أيه يا (أريدو)، أما زلت تذكرين أبنائك؟ ألا يزال في قلبك العامر بالخير مكان لهم؟ حتى متى تظلين كحال هذا الناي لا تعرفين سوى الأنين؟).... (هل ما زلتم يا رفاق تذكرون شاطئ مدينتنا؟).
وكأن ذلك التساؤل كان بالانتظار، ليثير لوعة (أنشوسو) الشاعر المرهف بأشعاره الهائمة بين الحب ومعاناة الغربة، الذي أعتاد تهدئة هموم رفاقه، فيعقب على أحاديثهم بمقطوعات من شعره المتخم بالألم والذكريات، لتصاحب ما يجود به ناي صاحبه (لوبوماش) من أنين، بتناغم فطري يسيل عذوبة وشجن..
أمواج بلا عدد تضرب جدار السفينة
زوابع الظلام سرقتنا من صخب المدينة
أيامك يا (أريدو) تمضي كزبد البحر
حين تلامس بهدوء الارض الحزينة
رد (أتوريا) وهو ممدد على ظهره واضعاً راحتيه تحت رأسه جاعلاً منهما وسادة طرية، ملقياً بصره الى السماء كما أعتاد أن يفعل في وقت راحته حينما كان يعمل في حقول سومر (لقد ضلّت الشمس طريقها الى مدينتنا، فأصبحت مرافئها ظلماء لا يمكن الاسترشاد اليها، وأيام أهلها غدت مالحةً أشد صبراً من مياه البحر، بعد أن أصاب القحط والسَبخ أرضها ليهجروها رغم عشقهم لها).. ثم اردف.. (هل تصدقون يا رفاق.. كلما مرّ شيطان نسيان (أريدو) على ذاكرتي، يدغدغ لساني مذاق حلاوة ليس له مثيل ليعيد لتلك الذاكرة المتعبة صوابها... لابد أنها حلاوة تمر نخلات جدي التي زرعها أمام داره... كنت صغيراً لكني لا زلت أذكر جيداً كيف زرع فسائلها بيديه الحانيتين وكيف سقاها.. كأنه كان يرويها بدموعه وليس من مياه الفرات.. لتغدو تلك النخلات مع مرور الأيام علامة يُستَدل بها بيته، حتى أصبح الناس يسموه بيت النخيل... يا له من حنون.. كان يقول.. النخلة أحدى بركات الآلهة، وحلاوة تمرها من طيبة هذه الأرض وعذوبة مياهها)... (لقد صدق جدي كل الصدق.. فعلاً أن بحور الدنيا وأراضيها لا تساوي جرة نبيذ معتق من ذلك التمر).
صرخات جراحنا بين البحور تبعثرت
أهاتنا كبرت وأرواحنا بالصبر تصدعت
رغم قسوة ضحكات وازدراء الشامتين
لكن ضمائرنا العامرة بالأمل أبداً ما تغيرت
ومن مكمنه في مؤخرة المركب مُمسكاً بدفته، رد (أوندالو) على رفاقه بهدوء (حتماً أنها ستظل تذكرنا.. مؤكد أنها ستذكرنا... هل سمعتم عن أم نست وتنكرت لأبنائها؟).... رغم امتهانه ركوب البحار ألا أنه كان يخاف ويكره السفر.. في كل أبحار له كان صدره يعتصر، مراوداً إياه هاجساً غريباً خفي بأن سفرته هذه ستكون الأخيرة، ولن يكون بعدها من رجوع الى معشوقته (أريدو)... لقد تولد لديه هذا الاحساس منذ أن غادرهم أباه يوماً دون أن يعود.. لازال يذكر جثته الضخمة التي كانت مع عشقه لسومر كل ما ورثه عنه.. لم يعرف حينها الى أين غادرهم أو أين أتجه بسفره.. كل ما عرفه آنذاك (أنه مسافر من أجل سومر).... بهدوء مرر راحته على صدره العاري مُستشعراً دفئ حنين والده، حين أحتضنه ذلك اليوم لدى وداعه الاخير له وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة جميلة لا تتناسب مع ضخامته، لم يقل حينها كلمة واحدة لكنه ظل محدقاً في وجه طويلاً قبل أن يفارقه، ليقرأ في عينيه الحادتين اللامعتين تلك الوصية الخالدة التي كان يود قولها دون أن ينطق بكلماتها، بأن يظل عاشقاً وفياً لبلاده الخيّرة، وأن لا ينساها حتى وأن لاقاه يوماً ألم وجفاء وجحود منها... (خسأت الغربة أن توهمت يوماً بأنها تستطيع أن تنسينا سومر.. تظل بلادنا رغم ما أصابها وأصابنا أقرب الينا من جلودنا).
هو نفسه ثوبي القديم المُرقع ما غَيره النسيان
لا زال يكسوا عظام من ضيعه غدر الزمان
بدا أسمالاً باهتة لكنه ظل يحتضن صبراً وصمود
وخيوطه غدت أوتاراً تتغنى بحلم يعيشه الانسان
(مالنا نراك شارداً بفكرك يا (سوموكي) لم يفارقك داء السرحان حتى وأنت تصارع الموج بمجدافك.. من ذا الذي سرق فكرك وسلبك عقلك حتى جعل منك هائماً تعيش عوالم أخر؟).. قال (أتوريا) مخاطباً رفيقه الشارد بهَّمٍ لا يعلم به سوى قلبه المتعب.. ليرد بصوت مبحوح كاره للكلام (لابد أن زوجتي الحبيبة قد ولدت الان.. ولدت تلك الطفلة الجميلة التي تمنيانها.. طفلة نرى فيها فرحة الحياة التي فارقت بلادنا وضاعت بين دهماء هذا الزمن اللعين.. كنا قد اتفقنا أن نسميها (لامينا).. تخيلناها كملائكة السماء، جبينها مضيء كلمعان القمر، وعيونها سوداء كليل ساكن يلهم قلوب العاشقين، وضحكتها نسمة عذبة تنعش حياتنا وتغسلها من الهموم... لقد ضللنا نحلم بتلك الضحكة الجميلة وهي تطرب آذاننا، حتى جعلنا صدى ترديدها علامة القرب من (أريدو) وأرضها الحزينة).
هنيئاً لك يا أبنتي فراقي ودنيا المتعبين
سامحيني أن بعدت عنك أسوة بالحالمين
دمعي يناجي أمنياتي بأن تجمعنا الاقدار
فالربيع لابد أن يرطب يوماً حياة البائسين
(أن لك أملاً تركته في (أريدو) يا (سوموكي)، ربما طفلتك الموعودة تشعرك بأيام قادمة أجمل، لكن ماذا بشأن من أضاع نشوة الأمل وفقد كرامة العيش).... من مكانهما في مقدمة المركب رد كلاً من (آنوزير) وشقيقه التوأم (أونري)، الأخوين الحالمين بالسفر منذ صباهما سعياً لعالم آخر جديد خال من الموت والحروب، متنقلين بترحالهم من مكان لأخر من مشرق الارض لمغربها بحثاً عن أرض يشعرون معها بنسمة الأمان، ويشمّون فيها شيئاً من عبق الانسانية التي افتقدوها في (أريدو)... لتنتهي بهم الرحلة بفشل سعيهم للوصول لذلك الفردوس المفقود الذي لا يوجد سوى في مخيلة السراب، عندها فقط قررا الرجوع الى الوطن حتى وأن كان مجرد خرائب متهاوية، كي يبكوا على أطلالها المقدسة المقتادة على النحيب، فكان الضياع وسط الامواج مصيرهم... (لا يمكن أن تدوم الظلمة الى الأبد.. أن الأفلاك دائمة الدوران، ومن المؤكد أن فجراً جديداً لامع الضياء سينير أيامنا ليبعث فينا الحياة مرة أخرى).
حتى متى نبقى ضائعين بين البحور الهائمة؟
أنظل نحلم بوطنٍ مرسوم على الوجوه الباسمة؟
أنقضي أيامنا باحثين عن معنى الانعتاق؟
أنظل نترقب فجراً جديداً ينير أيامنا القادمة؟
ما أن أنتهى (أنشوسو) من ترديد مقاطع أشعاره التي كوت قلوب رفاقه حتى أخذت أمواج البحر تعلو مجدداً، منذرة الرجال بأن وقت راحتهم قد أنتهى وأنهم على موعد مع نزال جديد ضد غريمهم اللدود... حتى النوارس المحلقة خضعت لتهديد الطبيعة ففضلت أن تطير بعيداً، تاركة ساحة الصراع لمن هم أهل لها.... (هيا يا رفاق.. لم تعرف سواعدنا يوماً الراحة ولا أجسادنا الخدر.. لقد كتب لنا ظلم الأقدار أن نظل نبحث عن وطننا المفقود بين دروب البحار الغاضبة... سنأخذ طريقاً آخر لعل فيه النجاة من ضياعنا)... أخذ كل مكانه المعتاد خلف مجدافه، لتواصل تلك المجاديف ضرباتها بنفس الرتابة والنسق، بلا أدنى أمل في الخلاص.. بتوجيه وتحفيز من ربانهم (أوندالو) الذي كان كقائد فرقة موسيقية يدير وينسق العزف على آلات أعضائها.... فجأة توقف (سوموكي) عن التجديف دون الآخرين، موجهاً أذنه باتجاه الأفق كأنه يريد أستراق السمع لصوت يتردد بهدوء قادم من هناك.. ثم نهض بسرعة رافعاً يده للأعلى كي يتوقف رفاقه.. صرخ بعلو صوته المبحوح... (أنها (لامينا)، أنصتوا معي.. أني اسمع ضحكتها تأتي من عند الأفق).. سكون مُطبق خيّم على المركب.. الجميع ينصت.. الكل يتأمل.. ينتظر حلم العودة... همهمات الرجال تتعالى شيئاً فشيئاً.. صاح (لوباماش).... (نعم أنها تأتي من هناك.. أني أسمعها بوضوح).. أعقبه (أتوريا) والآخرون واحداً تلو الآخر.. (نعم .. أنها (لامينا).. ما أرق وأجمل تلك الضحكة... أخيراً لاحت نسمات الوطن)... توالت صيحات الفرح الممتزجة بضحكات النصر.. دمعات الفرح بللت وجوه رفاق الغربة والسفر البعيد...... صاح (اوندالو) بالجميع.. (هلموا الى مجاديفكم يا رفقة الدرب، لقد اقتربت ساعة اللقاء.. أن لنا وطناً ينتظر)..... (أقوى.. أقوى.. أقوى)... ضربت سواعد الرجال المفتولة القوية بمجاديفها الثقيلة مياه البحر المبهورة ببأسهم، ليسيروا بمركبهم نحو الأفق، حيث الوطن المنشود، حيث تصدح (لامينا) هناك بضحكاتها الساحرة.
**************
*(أريدو)... مدينة سومرية شهيرة، تسمى بقاياها الآن (تلول أبو شهرين)، تقع الى الجنوب الغربي من مدينة (أور) الأثرية بمسافة حوالي سبعة أميال، كان لها ساحل كبير يطل على (هور) واسع يشرف على البحر (الخليج العربي).... ولهذه المدينة مكانتها الرمزية وقدسيتها الدينية باعتبارها الأقدم في بلاد سومر استناداً الى قوائم الملوك السومريين... وكان إلهها الراعي هو (أينكي) لدى السومريين الذي يقابله (أيا) لدى الأكديين، وهو سيد الأرض والمياه العذبة... لقد أثبتت التنقيبات التي أجرتها مؤسسة الآثار العراقية في المدينة بين عامي 1946 و1949، صحة ما ذهبت اليه قوائم أولئك الملوك، بأن المدينة كانت تمثل أول استيطان للشعب السومري في جنوب وادي الرافدين، حيث يرجع تاريخ الاستيطان فيها الى حوالي 5000 سنة ق.م.. وقد ظلت المدينة مأهولة حتى حوالي 600 ق.م.
4726 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع