شعرية التفاعل وإنتاج الدلالة في قصائد شوقي بزيع

                                                     

                                عصام شرتح

ما من شك في أن لخاصية التفاعل دورها المؤثر في النص الشعري، خاصة إذا أدركنا أن النص الشعري حصيلة رؤى،ومؤثرات،وتجارب، ودلالات،وأحاسيس، ومنظورات متفاعلة في شكلها البنائي،وطاقتها التخييلية العالية،وحراكها البنائي الإيحائي المستمر؛وبتقديرنا:

إن النص الإبداعي الحقيقي نص تفاعلي، لامحالة، يحقق أقصى منتوجه الإبداعي؛ حينما يكون النص متفاعلاً شكلاً لغوياً،وفضاءً بصرياً؛ ومنتوجاً إيحائياً لسلسلة من المؤثرات،والمرجعيات، والرؤى،والتداخلات النصية التي تمنح النص سمته الفنية ،وخصوصيته الإبداعية؛ ولعل أبرز التعريفات النصية المؤثرة في التعبير عن مقصودنا بخاصية (التفاعل) تعريف (جوليا كريستيفا) للنص قائلة:" النص ليس مجرد إعادة إنتاج للغة، والمعرفة السائدتين تقوم بها ذات عاقلة متمركزة داخل العالم، تتعلم  بهدوء كيف تفسر معنىً مفترضاً بصورة مسبقة في النص المقروء؛ وإنما هو قبل كل شيء تحويل شامل للخطاب الأدبي؛ أي تشغيل ثوري للغة الإبداعية،وقدرة إنتاجية هائلة للنص الثقافي"(1).
وتأسيساً على هذا، تتحدد تقنية(التفاعل) بوصفها طاقة تحويلية توليدية خصبة في النص الشعري، تخلق متعته، وجاذبيته،ومساره الإبداعي؛وهذا دليل" أن النص الأدبي؛ يتحدد أساساً، كفضاء اختراقي،بامتياز، الأمر الذي يعني أنه فضاء تحويلي- بالدرجة الأولى- فضاء يتيح للعبة الدال، داخل تلفظ فارغ بالقيام بتآلفات لانهائية،وتنويعات دلالية غير منتظرة بواسطة كتابة بيضاء تعمل على إنتاج الدلالية الجديدة لا الدلالة السائدة"(2).
وبما أن اللغة الشعرية – هي بالأساس- لغة الاستبدال والإخبار، والإحاطة النسقية الواعية،والتفاعلات النصية القابلة للتوالد،والتكثيف،والإيحاء،فإن ما يحفزها إحالتها النصية، ومحاورتها النسقية الكاشفة؛ومن هذا المنظور، نقول:" من اللازم أن يحيل كل نص أدبي حداثي مقروء في نسيجه المتفاعل للتحويل والتوليد- على جملة غير معلومة سلفاً من النصوص الأدبية السابقة التي يستحضرها استحضاراً ثورياً؛ويشتغل على نسق دوالها اشتغالاً ثورياً منتجاً"(3).
وتعد خاصية(التفاعل) بؤرة التدليل على فاعلية الانزياحات اللغوية، وتقاطعاتها النصية التي تولد سلسلة من الدلالات،والإيحاءات في بؤرة النص الداخلية، ومساراتها الباطنية المستكنة في أعماقه وركائزه الفنية؛ ولهذا؛ فإن خصوبة هذه التقنية تتحقق عندما يملك المبدع أسلوبه التقني المميز من حيث التجاذبات اللغوية الفاعلة؛ وقرائنها الإسنادية،والعلائقية المرجحة لنسق لغوي دون آخر؛ يحقق أقصى درجات التفاعل،والاستثارة النصية؛وهذا يعني أن القيمة الحجاجية للتفاعلات النصية تكمن في مستوى إثارتها للأنساق اللغوية؛ ومدلولاتها المراوغة؛ولهذا ؛ فإن القول الشائع( اللغة مواربة واختلاف)؛ إنما يدلل على أن اللغة مجموعة متشاكلات؛وتفاعلات،وأنساق لغوية منزاحة في  شكها وأسلوبها الفني؛ فهي كما تقوم على الائتلاف فإنها تتأسس على الاختلاف؛ ولهذا؛ فإن المنطق الجمالي الذي يحكم الطرفين المتقابلين هو منطق التفاعل،والتلاحم النصي، يقول شوقي بزيع:" النص الذي لا يملك أطره التفاعلية نص سطحي ينوء بثقله، لدرجة لا يملك ديناميته، وتداخله الحيوي الخصب أو المؤثر؛لأن النص شبكة علائقية من الصور والأشكال اللغوية التي تتفاعل فيما بينها للتعبير عن المواقف المحتدمة؛ والمشاعر الصاخبة، بكل توترها،واحتدامها وتمثيلها الشعوري الدقيق"(4).
وبهذا المنظور؛تبدو خاصية( التفاعل) ذات مرجعية مؤثرة في تشكيل بنية القصيدة الشعرية عند شوقي بزيع؛ بوصفها خاصية تملك مؤثرها الفاعل، واقتضاءها الحجاجي البالغ الأهمية والتأثير في التدليل على عمق المحمولات النصية،ومقتضياتها ضمن النسق الشعري لديه؛ وللبحث في أثره هذه التفاعلات،ومصدرها الجمالي؛ فقد عمدنا إلى تقسيم هذه الخاصية،تبعاً لأثرها، وفاعليتها في قصائد شوقي بزيع؛ ابتداءً من أدنى مستويات هذه الخاصية؛ وصولاً إلى أعلاها في التشكيل النصي؛ وهي كما يلي:
1-التفاعل الصوتي:
ما من شك في أن للأصوات تفاعلاتها، وموحياتها، ومؤثراتها ضمن النسق الشعري الذي يتضمنها؛ خاصة إذا علمنا أن النسق الشعري المؤثر يقوم على أصوات متناغمة،ومتنافرة؛ تحقق أثرها، ووقعها  الشاعري الخصيب؛ وبقدر ما يزداد النسق تنوعاً واختلافاً في تشكيل أصواته من مخارج متباعدة، بقدر ما يزداد تناغماً، وتفاعلاً، وإبرازاً صوتياً موقَّعاً لمخارج الأصوات،وصفاتها، ومعانيها،ومؤثراتها ضمن السياق الشعري،وهذا دليل أنه:" في اللغة الشعرية يتجلى التناغم والتنافر في أصوات الكلمات من خلال مخارج الأصوات،وترتيبها،وتصور المعاني وانسجامها. فترتيب أصوات الحروف في الكلمة له تأثير كبير في محصلة معانيها سواء بما يضفي الانسجام على جملتها الصوتية؛ أو بما يشيع الاضطراب والنشوز فيها. فالكلمة التي في جملتها الصوتية تنافر، ونشوز، تتوافق مع المعاني التي فيها غلظة وخشونة. وعلى هذا فإن الانسجام الصوتي للكلمة يتحقق من خلال مراعاة خصائص مخارج الأصوات،ومعانيها،وكيفية ترتيبها،وتأثيرها الصوتي؛وهذا كله يتجلى في اللغة العربية بشكل أوضح بسبب مرونة اللغة العربية أولاً؛وموهبة الشاعر المبدع لجمالياتها ثانياً""(5).
وبهذا التصور المعرفي الدقيق الذي أثارته الناقدة خلود ترمانيني تحفزنا لنضيف إلى قولها ما يلي:
"إن التفاعل الصوتي على مستوى الكلمات يحقق أثره الفاعل، سواء أكان ذلك على مستوى البنى اللفظية داخل نطاق الكلمة، أم على مستوى البنى الصوتية خارج نطاق الكلمة،وصولاً إلى الجملة،والنسق الكلي؛ مما يدل على أن الأصوات تتفاعل،وتتناغم، بحيث يأخذ بعضها برقاب بعضها الآخر"ولعل تكوين الحروف،وتناغم الأصوات أو تكرارها، أو تقابلها كلها أشياء تضفي على النص الشعري وقعاً نفسياً، وموسيقياً يؤثر في السامع. وهنا؛لابد من الإشارة إلى أن الانسجام لا يتجلى في التناغم دون التنافر؛ذلك أن الألفاظ الثقيلة على اللسان قد تشي بمواقف تنسجم مع ذلك الثقل فيحصل الانسجام حتى وإن كانت الأصوات متنافرة،وذات وقع نفسي ثقيل؛ بل إن الانسجام قد يتولد من المتباينات؛ إذ ليس من الضروري أن يستخدم الشاعر الأصوات السلسة اللينة المخارج ليحقق لقصيدته جمالية الإيقاع؛ ومن هنا؛ فإن الشاعر المبدع يرى الخيط  الخفي الذي يربط بين المتباينات فيتحقق الانسجام"(6).
وبتقديرنا: إن التفاعل الصوتي هو الذي يخلق المجاذبة بين الأصوات المتنافرة، لتوليد إيقاعها الشاعري؛ فالصوت لا يتفاعل مع مثيله المخرجي بقدر ما يتفاعل مع نقيضه في المخرج،وهذه الحقيقة يعيها علماء الألسنية منذ القدم؛ فالأصوات المتناغمة هي أشد الأصوات اختلافاً،وليس مشابهة أو مجانسة؛صحيح أن لبعض الأصوات المتجانسة موسقة ما من داخلها وارتباطاتها بالنسق،لكن أوج الموسقة الشاعرية تخرج من الأصوات المتخالفة أو النغمات المتباعدة،التي تحقق نوسة في الحركة الإيقاعية ، لإضفاء جو من التناغم الشاعري الآسر الذي يلوح من ذات مفعمة حساسية وإحساساً،مما يؤدي إلى التصعيد الدلالي،والمجاذبة الصوتية المتوازنة؛ وبهذا المعنى المقارب يقول شوقي بزيع:" إن المفاعلة الصوتية هي جزء من التنغيم؛ فالشاعر لا يهندس الكلمات فحسب؛ وإنما يهندس الأصوات والحروف كذلك؛ متوسماً جمالية مخارجها في بنية صوتية شديدة الخصوصية والتأثير؛وهذا لا يعني أن الشاعر يتكلف ذلك قصداً،وإنما تجري الأصوات بإيقاعها التنغيمي الآسر عفوَ الخاطر، كما هي حال الصورة التي يثيرها الموقف،وحجم الشعور الضاغط لحظة تقبل المشهد أو تحقق المثير"(7).
وعلى هذا؛ تتحدد إمكانية الشاعر،ودرجة شعريته، بمقدار استثارته للمتفاعلات الصوتية المتناغمة التي تخلق لذتها من تناغم الحروف،وانسجامها حيناً،ومن تنافرها،وتناقضها الصوتي حيناً آخر؛وتبعاً لهذا، يتفاوت الشعراء فيما بينهم موسيقياً،بناءً على مستوى وعيهم اللغوي،وتوليفهم الصوتي للأنساق الشعرية؛ بما يحفزها جمالياً؛ومن هذا المنظور، نلحظ:" أن الشاعر المبدع يتلمس الخيط الخفي الذي يربط بين المتباينات؛ مفجراً-بذلك- إيقاعات خاصة تتحقق عن طريق التناقض اللفظي؛ فالجملة الصوتية-  بما تتضمنه من عناصر الانسجام والتوافق بين الحروف أو التباعد بين مخارجها- يفرضها الاستخدام،والقصد الدلالي؛تتعدى الإطار المحدود لها في اللغة؛ لتصبح ذات أثر مهم في إضفاء جماليات صوتية تضفي على التعبير أنغاماً متداخلة؛ فيتجلى- بذلك- التأثير الصوتي من خلال التناغم الحاصل بين منطق اللغة،والإبداع اللغوي الخاص"(8).
وبتقديرنا: إن درجة شعرية المفاعلة الصوتية- في قصائد شوقي بزيع- تتحقق بالمجاذبة التي تخلقها الكلمات في نسقها الشعري المتموضعة فيه؛ لتُصَعِّد من درجة حدة الصوت قوة وتنغيماً،وبلاغة صوتية مؤثرة؛ مما يدل على غنى قوافيه بالحركة والأنغام المتداخلة؛ كما في قوله:
"وتشهقُ ريحٌ حليبيةُ الطعمِ
 في جسمها المتثائبِ
 والأرضُ تغدو إذا ضحكتْ
موئلاً للأغاريدِ
والياسمينُ إذا أغرورقتْ بالدموع
يقيمُ على ريفِ أهدابها
مجلساً للعزاء"(9).
ما ينبغي الإشارة إليه بداية :أن التفاعل الصوتي- في قصائد شوقي بزيع- يعتمد الإيقاع التناوبي بين الأصوات المجهورة والمهموسة؛ إذ يلحظ القارئ - في أنساقه الشعرية- ارتفاع وتيرة الأصوات المهموسة على حساب الأصوات المجهورة  أو العكس، في حين أن الأصوات المهموسة تتفاعل مع الأصوات المجهورة في بعض السياقات،لإثارة الإيقاع الداخلي،والتعبير عن الانفجار النفسي،والتوتر الشعوري الداخلي المحتدم؛وبهذا الخصوص يقول شوقي بزيع:" إن المتأمل في التفاعلات الصوتية- في قصائدي الغزلية- يلحظ غلبة الأصوات المجهورة على المهموسة؛ دلالة على حدة توتر مشاعري العاطفية، وتناغمها مع أصداء نفسي الداخلية،وانفعالاتي الشعورية المكثفة؛وهذا لا يعني أن الأصوات المهموسة لا تدخل في نطاق قصائدي بكثافة كذلك، بل استظهرها في الكثير من القصائد؛وأحياناً تتم الغلبة للأصوات المهموسة على المجهورة؛ دون أن تتخلى تلكم الأصوات عن تمثيلها للحالة الشعرية، بكل صخبها،وتوترها الشعوري المحتدم، سواء أكانت الغلبة للأصوات الجهيرة على المهموسة، إذ إنها بتفاعلها داخل النسق الشعري تحوِّل الأصوات من خصائصها، لتلبس لبوساً جديداً رغم جهر الصوت أو همسه في السياق أحياناً"(10).
وبالنظر- في جماليات التفاعلات الصوتية في المقطع الشعري السابق- نلحظ أن الغلبة للأصوات الجهيرة على الأصوات المهموسة؛ إذ تتفاعل الأصوات فيما بينها خاصة صوتي:[ الميم –والهمزة] في الأنساق التالية:[موئلاً للأغاريد- مجلساً للعزاء- جسمها المتثائب]؛ لقلقة النسق،ورصد هيجان الحالة العاطفية،بكل توترها،واحتدامها؛ وصخبها الشعوري؛ فعلى الرغم من أن صوت(الميم) من الأصوات الجهرية القوية، فإنه- بتفاعله مع صوت الهمزة- ينخفض إيقاعه الجهري،ويستطيل- تدريجياً- إلى الهمس لتمثيل الحالة الشعورية بكامل هيجانها العاطفي،ولحظة تفريغها المطلق؛ولعل غلبة صوت المد في بعض الكلمات دليل إيحائي على إحساس الشاعر المتوتر،وتمثيله للحالة الشعورية بكامل منعرجاتها الصوتية المرتفعة أو الصاخبة، لمضاعفة أثرها في نفس المتلقي؛كما في الكلمات التالية:[ المتثاءب- الأغاريد- الياسمين - الدموع- أهدابها- العزاء]؛تحريضاً لتلقي رؤاه،وانفعالاته، وتمثيلها بدقة، وعلى هذا،نستشف:"أن الصوت في الشعر يستمد خصائصه ودلالاته من مقدرة الشاعر على توظيفه في خدمة الفكرة التي يريد التعبير عنها. فالشاعر يتحكم في أحايين كثيرة بنبرة الصوت، أو يضغط على أصوات بعينها لأهداف نفسية،ودلالية،وإيقاعية"(11)؛ومن هنا؛ فإن الشاعر المبدع هو من يحسن توزيع الأصوات، وبنائها على أسس (نفسية- شعورية)عميقة؛ تتسق بالمعنى،وتحقق وظيفتها الإيحائية المثيرة؛و قد لا نبالغ في قولنا:
إن شعرية التفاعلات الصوتية تعد المحك في إبراز إمكانية الشاعر الإيقاعية في اختيار القرائن الصوتية المرجحة لنسق مفرداتي دون آخر؛وهنا؛ تكمن درجة وعي الشاعر،ومنبع حساسيته الشعرية؛وبمقدار ما يمتلك الشاعر مرجعيته الصوتية المؤثرة في توليف الأصوات الشعرية المناسبة لتجسيد حالته الشعورية،وتخليق تفاعلاتها المثيرة للموقف الشعري المجسد، بقدر ما تزداد شعرية الأصوات، والتفاعلات الصوتية في تمثيل الحالة الشعورية بكل بعدها النفسي وصداها الشعوري المتوتر؛ ومن ثم، فإنه يستحيل رصد تحولات النسق شعرياً دون الارتكاز على مصدر تفاعلاته الصوتية في تخصيب الرؤية،وتمثيلها بتمامها وكمالها؛ لأن للصوت مرجعيته المؤثرة،وتفاعلاته المثيرة التي تكشف عن بواطنه الشعورية بعمق،وانفتاح رؤيوي عميق في الحساسية، والرؤية الشعرية الخلاقة؛ وهذا ما نستشفه في المقطع الشعري التالي:"
" تلتفُ حولَ انحناءاتها كالنهود
وينحلُّ نعناعها العذبُ كالدمعِ
من شدةِ الاشتهاءْ
 أميناً لمجراهُ يمضي بها النهرُ
مثل نساءِ الأساطير نحو القصيدة
دون التفاتٍ
إلى ما تعاظم من صرختي
 في أديمِ المساء"(12).    
بداية، نشير إلى أن: التفاعلات الصوتية- في قصائد شوقي بزيع- تكتسب مشروعيتها التأثيرية من ثرائها الدلالي؛ من خلال ما تبثه من نغمات صوتية مموسقة، وممازجات صوتية متآلفة خصبة بالدلالات،والإيحاءات المبتكرة؛ وهذا ما أشار إليه شوقي بزيع قائلا:"إن ثمة ممازجات صوتية متفاعلة – في قصائدي- ترجع إلى ولعي بالموسيقا؛كفن إبداعي عذب أتحثثه في كلماتي الشعرية عبر اختيار الكلمة المموسقة في لفظها دون غيرها من الكلمات؛وبمقدر ما يزداد تفاعل الكلمات صوتياً في النسق الشعري بمقدار ما تخلق الأصوات نغمتها واستطالتها،وجوهر بلاغتها في النسق الشعري"(13).
وبهذا  الحس المرهف ندخل رحاب المقطع الشعري الذي يثيرنا أول ما يثيرنا بالتفاعلات الصوتية التي تخلقها حروف المد،والاستطالة التي تخلقها حروف اللين؛ وكأن ثمة تفاعلاً صوتياً بين الحروف والأصوات[الجهرية/والمهموسة]؛و[التقفوية/والشعرية]؛و[الصائتة/والصامتة]؛و[الشدة/والرخاوة]،و[الاستعلاء/والانخفاض]؛وهذه التفاعلات تحدث بين الأصوات الجهرية،سواء أكانت تحدث ضمن الأصوات الجهرية ذاتها كصوتي[ الكاف/ والميم]،و[ اللام/ والميم]، أم ضمن الأصوات المهموسة ذاتها كصوتي[الضاد/والعين]،و[ القاف/والهاء]؛أو مابين الأصوات الجهرية/ والأصوات المهموسة؛ كما نلحظ تنامي حركة المد المشدودة إلى القصر بالتسكين:[ الاشتهاء= السماء]؛ لتبيان عمق الحالة،واصطهاجها شعورياً لترسيم الحدث الشعوري،وتوتير النسق جمالياً؛وتأسيساً على هذا تكتسب المتفاعلات الصوتية قيمتها المثلى من النسق الشعري الذي يفجرها،ويحفزها جمالياً؛ وهذا دليل:" أن اندماج الحروف المجهورة أو المهموسة ضمن تراكيب اللغة الشعرية يحمل دلالات مختلفة لا تلتزم الأصوات المهموسة بدلالة انخفاض الصوت، وإنما تعتمد صفات الأصوات المهموسة بدلالة انخفاض الصوت. ولهذا، تعتمد صفات الأصوات في الشعر على علاقات التجاور فيما بينها، أي على ذاتها لا على صفات خارجة  عنها"(14).
وتأسيساً على هذا؛ أدت المتفاعلات الصوتية على مستوى الأنساق الشعرية دورها الإيقاعي في بنية القصيدة الشعرية عند شوقي بزيع؛ لتشتغل على إيقاعات التجاور،والتفاعل،والالتحام؛ محققة أقصى درجات شعريتها،وموسقتها الصوتية المتناغمة،وبلاغتها الإيحائية الخصبة. وهذا ما يحسب للمنظومات الصوتية في قصائد شوقي بزيع أنها مهندسة صوتياً بإيقاعات تخرج من عمق الرؤية وتكثيفها الإيحائي.
2-التفاعل الإشاري:
يعد التفاعل الإشاري مكمن خصوبة النص الشعري الحديث الذي تخطى كل الأشكال، والرؤى النصية المتوقعة إلى استقطاب إشارات نصية منفتحة على آفاق رؤيوية غير متوقعة؛وبهذا المعنى أضحى النص الشعري الحديث شبكة علائقية من الإشارات،والعلائق النصية المعقدة والمتشابكة التي يتطلب الكشف عنها طاقة رؤيوية فذة؛وهذا يعني أن النص الشعري الحديث ما عاد نصاً موحداً برؤية، أو منظور؛أو هدف نصي واضح يشير إليه؛ لقد أصبح النص الشعري الحديث يشكل:" مجموعة من النتوءات والثغرات والثقوب"(15).التي يتطلب الكشف عنها خبرة معرفية،وقدرة تأويلية فائقة على فهم العلائق اللغوية،ورصد متحولاتها النصية ضمن النسق الشعري.
وما ينبغي الإشارة إليه أن التفاعل الإشاري يمثل جوهر الحركة النصية في القصيدة الحديثة؛من حيث الإيحاء،والعمق،والانفتاح،والتكثيف الدلالي؛ ولاغرو إزاء هذه الحالة أن
" تتعدد أشكال الإشارات النصية في الشعر العربي الحديث؛ إذ يتم استحضار لمحات مضيئة من القرآن الكريم لا تتجاوز الكلمة أو الكلمتين، أو قبسات من قصص السيرة النبوية الشريفة؛ أو إشارات إلى نصوص أدبية موروثة؛ أو مستوردة من الغرب؛ وهذا بالإضافة إلى ذكر شخصيات قديمة أو معاصرة؛وهذا كله لابد أن يؤثر في تشكيلات الإيقاع،ومساراته في الشعر العربي الحديث"(16)
 وبتقديرنا: إن فاعلية التفاعلات النصية الإشارية تتوقف على مدى تغلغل الإشارات النصية مع بعضها بعضاً وتداخلها بما يمغنط الرؤية،ويضاعف من ثرائها الدلالي،وقيمتها البؤرية النصية على مستوى الرؤية النصية،ومساراتها الإبداعية كافة؛ وبهذا المقترب يقول شوقي بزيع:"
النص الشعري الذي لا يملك إشاراته التناصية الفاعلة التي ترفع وتيرة الرؤية،وتضاعف من دلالاتها،لأشك في أنه نص سطحي عائم لا يملك أي مرجعية رؤيوية عميقة، أو مقصدية متأصلة إبداعياً،لأن النص الشعري الممتع هو كتلة تفاعلات،وإيحاءات،وشذرات تناصية عميقة تشي بمرجعها الإشاري،وتنفصل عنه بفاعلية الخلق الفني،والنسق الرؤيوي الجديد، أو المكتسب"(17).
وبهذا المقترب الرؤيوي نقول:
إن النص الشعري المنفتح هو النص الفاعل الذي يتضمن سلسلة لا متناهية من الإشارات والدلالات النصية المفتوحة؛ولهذا، لا يمكن الادعاء بأن "النصوص الأدبية الخالدة، إنما خلدت فنياً لمواقفها الإيديولوجية، أو توجهاتها الفكرية، وإنما كثافة النص الأسلوبية، وطاقاتها التعبيرية هي ملمح من ملامح البقاء الفني، بل هي تعطي شرعية تجاوز الإطار الفكري الضيق إلى آفاق نقدية رحيبة؛ فالنص قد شُكِّل من   إشارات،ورموز حرة طليقة تأبى السر، وتنأى عن القهر،وترفض الانقياد؛ إنها تعشق الانقياد،والتمرد المستمر؛ولعل هذا التحرر تسوغه طبيعة النص الفنية والجمالية؛ومن ثم لا مجال للتسلط والتحكم ،وتبقى العلامة اللغوية  محافظة على بكارتها،وغير خاضعة إلى مساومة الاستنطاق القهري"(18).
هذا الاستنطاق الذي يسلبها مرجعيتها الإيحائية،وحركتها المفتوحة ضمن النسق؛والشاعر الإبداعي المتميز هو الذي يترك إشاراته النصية بتفاعلاتها الحرة والمفتوحة ضمن النسق على آفاق رؤيوية لا حصر لها؛ ولهذا؛ فإن الإشارات النصية تتعدى مرجعيتها في قصائد شوقي بزيع؛وتكتسب دلالات إضافية؛وهذا مكمن جودة التفاعل الإشاري في قصائده؛ بل مكمن غناها الدلالي وخصوبتها الإيحائية؛وللتدليل على ذلك، نأخذ قوله:
"وألقِ عصا ارتحالكَ فوقَ هاويةِ السؤالِ المرِّ
ترجعْ نحو كفكَ
حيةً تسعى
وكأنَّ العمرَ صبوةُ عاشق ٍ يذوي
وتحملُهُ رياحُ الموتِ نحوَ
المرأةِ الأفعى"(19).
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التفاعلات النصية الإشارية- في شعر شوقي بزيع – تحقق أقصى درجات تفاعلها النصي من خلال تجاورها النسقي الفاعل مع شذرات نصية أخرى تسعى إلى تأكيد قوة انتمائها النصي؛ وتفعيلها لباقي الشذرات النصية  المستحضرة من نصوص أخرى؛وبما أن النص الشعري المنفتح محصلة خيوط تتناسل وتتداخل في علائق نصية منفتحة،وتعالقات نصية أخرى؛ فإن أبرز ما يشكل منتجها التأويلي هذه التفاعلات الإشارية التي تنبني على أنظمة تأويلية منفتحة،غاية في الإثارة والتعقيد.
وبالنظر- فيما تفرزه الإشارات النصية المنفتحة من رؤى ودلالات في المقطع الشعري- نلحظ إشارته النصية الفاعلة المقتنصة من آيات الذكر الحكيم؛ مستحضراً الموقف البرهاني الكاشف على صحة ما يدعيه موسى من معجزات(فإذا هي حية تسعى.. قلنا خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى.. وأضمم يدك إلى جناحكَ تخرج بيضاء من غير سوءٍ آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)؛وهنا استطاع الشاعر أن يبلور هذا المشهد؛ويستحضره بمنظار إشاري دلائلي يدلل عليه بوضوح عبر قرائن لغوية دالة هي:[ حية تسعى- ألقِ عصا ارتحالك- المرأة الأفعى]؛ والملاحظ أن كل قرينة نصية تكشف- بشكل أو بآخر- على مفاعلتها النصية للقرينة الأخرى- محققة تفاعلها النصي الأمثل في السياق الشعري؛وهو- بهذا التفاعل الإشاري-  يؤكد استثارته  للنسق الشعري؛وبما يحقق  إثارته النصية،وإجادته الفائقة في امتصاص الخطاب القرآني؛وتفعيله بمنظورات جديدة تغني تجربته،وتزيدها عمقاً،وتفاعلاً  خلاقاً مبدعاً، وتبعاً لهذا؛" تشكل الإشارة النصية القرآنية عنصراً بارزاً في عمارة النص الشعري؛ومن ثم في رسم دلالاته الشعرية، وإيقاعاته النفسية؛ذلك أن ما توحي به الإشارة النصية من صلة بمرجعها جزء لا ينفصل من بنية النص الشعري؛وطاقاته الإبداعية"(20).
ولعل الطابع الفني لقصائد شوقي بزيع من حيث الأفكار،والرؤى،والدلالات،والمؤثرات، والمنظورات،والتصورات المنفتحة قد جعلها تحتفي بالتفاعلات النصية بوصفها جزءاً لا يتجزأ من مثيراتها ومحفزاتها الجمالية؛ وكلما تفاعلت الإشارة النصية مع الرؤية الشعرية؛كلما استطاعت أن تثير الدلالة،وتسهم في إنتاجها؛ وهذا ما امتازت به القصيدة الشعرية عند شوقي بزيع؛ إذ نلحظ أن قصائده تحتفي بالتفاعلات النصية الإشارية بكثافة رؤيوية وحس شاعري مرهف ،ولا نبالغ إذا قلنا: كلما تفاعلت الإشارات النصية في القصيدة كلما كانت إمكانياتها،وقدرتها التأثيرية أعمق على توظيف الإشارات النصية في سياق تقابلي شاعري محتدم يملك فاعلية القدح،والتبئير النصي؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:"
"يتحلَّقُ الزيتونُ حول جذوعهِ
ليضيءَ دمعةَ مريم
وصراخُها خلفَ الرمادِ،
وسؤالُ مريمَ تعتلي قمماً
يؤبِّدها الصدى
ويصبُّها في كل ريحْ
هل من مسيحْ
فيردّ صوتٌ من شقوقِ الغيمِ
-ما صلبوهُ
-بل صلبوهُ
-ما صلبوهُ
-بل صلبوه..
ثم تضيء أطرافَ الجبالِ غمامةٌ حمراءُ
تحملُ نعشَهُ الدامي
على غسق ٍ جريحْ"(21).
ولعل ما ينبغي الإشارة إليه- بداية- أن التفاعل النصي الإشاري-في قصائد شوقي بزيع- ينبني على مرجعية نصية إشارية فاعلة في التقاط الإشارات اللامعة؛ وتوظيفها في سياق رؤيوي حداثوي جدلي؛ يستحث القارئ إلى ملاحظة علائقها،وإدراك  كنهها؛ بالارتكاز على القرائن الإشارية المرجعية،ومنظومة علائقها الجديدة؛وهذا يعني أن شوقي بزيع لا يأتي بالتفاعلات الإشارية بوصفها منظومة لعلائق جدلية ممغنطة للرؤية الشعرية فحسب؛وإنما بوصفها طاقة إيحائية لا غنى عنها في إكساب الرؤية طابعها الفني الإيحائي المميز؛ومنتوجها الديالكتيكي الثر؛ يقول شوقي بزيع: "إن الإشارة النصية الفاعلة لا توجد إلا من حيث هي منظومة علائقية تفاعلية مؤثرة في استجرار الدلالات الجديدة،وتركيز أبعادها؛وبقدر ما تأتي الإشارة النصية محملة بشحنات جديدة،ومدلولات  متعددة بقدر ما تبرز بوصفها إشارات منفتحة ناطقة بالماضوية حيناً،وبالمستقبلية أو اللحظة التأثيرية المعاصرة أو الراهنة حيناً آخر؛بكل شحناتها الانفعالية،وموجتها الحية"(22).
وبالنظر- في حصيلة التفاعلات الإشارية التي يتضمنها المقطع الشعري نلحظ أن درجة تفاعلها الإشاري المرجعي يشير إلى استحضار القرائن الإشارية التي تعود إلى قصة صلب المسيح،وتساؤل مريم العذراء عن ابنها المسيح (هل صلب أم لم يصلب)؛وهذا الاستحضار على الرغم من دلالته الإشارية الموجزة جاء استحضاراً تفاعلياً كاشفاً عن حالة التردد الشعوري،والانكسار الداخلي، والتصدع النفسي المرير على واقعه المؤلم؛متقمصاً صورة مريم العذراء في مخيلته الإبداعية؛واستنطاقها بما يلاءم  الحدث الشعري المعاصر؛ليفشي على لسانها بمعاناته،وهواجسه الشعورية الداخلية؛معبراً من خلالها على الواقع الجريح الذي مرت به بيروت في مرحلة من المراحل. والحق أن الشاعر وفِّق- إلى حدِّ كبير- في هذا التوظيف التفاعلي الإشاري،بما يحقق لرؤيته التفاعل،والتنامي،والثراء الدلالي؛ومن هذا المنطلق،نقول: إن الشعرية العظيمة تجذر وجودها ومفاعلتها النصية على إشارات نصية منفتحة تحقق أقصى درجات التفاعل،والإثارة،والمغنطة النصية،والتنامي الإيحائي؛ خاصة عندما" يتمكن الشاعر بمهارة فنية شديدة من استلهام المواقف القديمة لصالح نصه الشعري؛فيُخرج النسق التعبيري قوياً متلاحماً يظهر مقدرة الشاعر على إعادة صياغة مواقف قديمة وملامح جديدة مشهورة،وجعلها تفصح عن تجربة الشاعر الخاصة التي هي في النهاية تعبير عن كل إنسان في كل زمان ومكان؛ومن هنا ،يتم طيّ مسافات الزمن في وحدة شعرية إنسانية تأخذ مجالها من ضمير القارئ العربي"(23).
وبهذا المقترب الرؤيوي نقول: إن النصوص الإبداعية العظيمة هي التي تثير القارئ بآفاق تفاعلاتها المنفتحة وإشارتها النصية الممتدة؛وهي التي"تستجيب لأساليب التناول اللغوي والأسلوبي،وتنأى عن المذاهب، والمشارب،والمعتقدات"(24).لأن شغل المعتقدات،والمذاهب شغل المفكرين،وأهل الشريعة والدين،لا شغل الشعراء والفنانين الذين يرومون السبل المفضية إلى كل ما يحقق لإبداعاتهم الخصوبة،والتنامي،والازدهار؛ وهذا ما نلحظه عند الشاعر شوقي بزيع الذي يرفع الوتيرة الشعرية بالأساليب اللغوية المبتكرة،والقرائن الإشارية التفاعلية المرجحة التي تحفز أنساقه الشعرية،وتزيد من فاعلية انفتاحها،وخصوبتها الإيحائية.
3-التفاعل الاقتضائي- الاقتضائي:
ما من شك في أن لكل نسق لغوي شعري اقتضاءاته النسقية المؤثرة؛ وتفاعلاته النصية الخصبة، التي تستمد طاقتها من جمالية النسق اللغوي،وقرائنه العلائقية المرجحة لنسق لغوي دون آخر؛وفق معيار الحساسية الشعرية،والجودة الفنية، والمعنى الدلالي المقصود من سلسلة من العلائق اللغوية التي يحاول الشاعر إبرازها؛ للتدليل على قيمة جمالية مؤثرة؛ بفعل القدرة الاقتضائية التي تولدها الصفة بالموصوف، أو المضاف بالمضاف إليه، أو المبتدأ بالخبر،وملصقاته الإسنادية المبتكرة؛ مما يدل على أن المنطق الشعري منطق تفاعلي اقتضائي ؛ وهذا يعني أن  الجملة تقتضي رديفتها أو مثيلتها في التركيب،وفق منظومة علائقية تفاعلية خصبة الإيحاء والتأثير؛وعلى هذا تبدو القدرة الاقتضائية في التفاعل النسقي،ومقتضيات قرائنه اللغوية؛وهذا دليل أن " عمل الاقتضاء يعتبر عملاً توجيهياً للخطاب مادام يتحكم في ذهنية المخَاطب،ويتوقف عليه الربط"(25).
وبما أن النسق اللغوي يتشكل من دوال لغوية مرجَّحة اقتضائياً لنسق دون أخرى،وفقاً لمنطق الشاعر وإحساسه الشعري،وحساسيته الجمالية؛فهذا يعني أن القدرة الاقتضائية للنسق تتبدى في قدرة هذه الدوال على التفاعل النسقي وفق مقتضى الملفوظ الشعري جمالياً ولغوياً،وعبر توليد أنساق لغوية متفاعلة تربط العامل بالمعمول، أو السبب بالمسبب، أو المقتضى بالمقتضى لأجله؛ وبقدر ما يكون ثمة مجاذبة بين هذه المقتضيات بقدر ما تبرز دينامية التفاعل الاقتضائي،وتحقق الأنساق الشعرية بكارتها،ومصدر جاذبيتها،ومنطقها الاقتضائي الدينامي المؤثر.
وبمنظورنا: إن شعرية المتفاعلات الاقتضائية النسقية تتحدد بالمقتضيات التي تربط الدوال اللغوية مع بعضها بعضاً في منظومة علائقية تفاعلية منتجة؛وتظهر قيمة هذه المتقابلات من خلال:" العلاقة التي يقيمها الملفوظ مع طبقة من الملفوظات الأخرى التي تشترك معه في الانتماء إلى المقتضى الحجاجي نفسه، حيث يتضمن كل ملفوظ خاصية معيارية في صورة محموله يحتل رتبة معينة على السلم الاقتضائي الحجاجي"(26).
وبهذا المنظور؛ فإن ما يمنح الملفوظ الشعري قيمته الاقتضائية الفاعلة ليس النسق اللغوي فحسب؛وإنما البنى التفاعلية في النسق الشعري التي تقتضي دوالاً لغوية دون أخرى؛ليشكل المكونات الشعرية من داخل الفعل اللغوي- الشعري ذاته؛وبهذا، فقط تتحدد قيمة التفاعل الاقتضائي النسقي التي تربط بين ملفوظين ربطاً اقتضائياً فاعلاً يمتلك قوته الشعرية الاقتضائية البليغة؛وهذا ما " يجعل سيرورة التدليل أو(السيميوزيس)- بحسب بورس- لا متناهية؛ وهو يرى أن العلامة شيء آخر؛سواء أكان ذلك على مستوى التقرير أم على مستوى الإيحاء"(27).
ولهذا؛فإن الرابط النسقي الفني الموحي هو الذي يدلل على شعرية التفاعل الاقتضائي في النسق اللغوي- الشعري،ومدى مهارة الشاعر في اختيار البنى اللغوية الفاعلة التي تعدد الدلالات،وتفتح سيرورة التدليل على علاماتها اللغوية لتتعدد،وتتنامى باستمرار؛وهنا،نقف على النقيض من قول الطاهر رواينية:" العمل الفني سواء أكانت علامة أم ملتقى للعلامات اللغوية أو الأيقونية يتميز بالواحدية، وعدم التعدد،كونها تشكل تجارب، وممارسات فائقة مستقلة لا تنجز إلا مرة واحدة"(28).
ومصدر خلافنا للرواينية أن النص أيا كان مستواه،وخاصيته اللغوية لا يتميز بالواحدية؛وإنما بالتعدد؛وهذا ما يجعل من النص الشعري محطَ َاستقطاب لتأويلات عدة،ومداليل متجددة؛وبقدر ما تتفاعل الأنساق اللغوية؛ بمقتضياتها البؤرية المعمقة؛ بقدر ما تخلق تعددها، وثراءها الدلالي ضمن النسق؛ ولاغرو إزاء هذه الحالة أن يقول شوقي بزيع:" إن التفاعل خاصية كل فن إبداعي منتج، وهذا التفاعل يبدأ من أدنى وحدة نصية في القصيدة،وصولاً إلى أعلاها،و الانزياحات التي لا تحمل طابعاً تفاعلياً في النص،وتحولاته؛ليست بشعرية أو بعيدة عن سلم الإثارة الشعرية،ومعطياتها الإبداعية الحقيقية"(29).
 وبهذا المقترب الرؤيوي الدقيق نقول: إن مصدر خصوبة التفاعل الاقتضائي النسقي – في المنتجات الشعرية المؤثرة يكمن في الربط النسقي الدلائلي الموحي الذي يربط علاقة بأخرى،ربطاً فنياً موحياً؛ أو ربطاً علائقياً مؤثراً(غير مسبوق) على هذه الشاكلة الاقتضائية في الربط والتشكيل اللغوي الموارب. ولعل المتأمل –بعمق- في قصائد شوقي بزيع-يدرك مدى شاعرية المتفاعلات الاقتضائية النسقية التي تتضمن أعلى درجات المباغتة الإسنادية والإدهاش في اختيار الدوال المتجانسة التي تنم على سيرورة تدليلية مفتوحة،وخصوبة رؤيوية عميقة في استجرار الدلالات المؤثرة؛وهذا ما يدلل عليه المقطع الشعري التالي:
" محضُ يدينِ فارغتينِ
في أبديةٍ ثكلى يداي،
وإذ تداهمني
عواصفُ نأيكِ الهوجاءُ
تنشبُ حيرتي أظفارها
كالقطةِ العمياءِ
في الغبشِ المرائي"(30).
ما ينبغي ملاحظته بداية : أن المتفاعلات الاقتضائية النسقية- في معظم قصائد شوقي بزيع تتوافر على علامات جمالية تقيمها الجملة في نسقها الاقتضائي مع الجملة الأخرى،سواء أكانت على مستوى سيرورة دوالها وتفاعلها ضمن الجملة ذاتها، أم على مستوى تفاعلها ومقتضيات الدوال الأخرى في الجمل السابقة أو اللاحقة في النسق الشعري الذي يتضمنها؛ وهذا يدلل على القدرة الاقتضائية التفاعلية الجسورة التي تمتلكها أنساقه الشعرية في تفاعل دوالها ومدلولاتها على مستوى البنى الداخلية  ومحرضاتها الإيحائية في مساقات قصائده كلها تقريباً؛ ولعل هذه الإشارة الصريحة يوضح بها شوقي بزيع رؤيته لهذه المسألة قائلاً:
" إن كل قصيدة مؤثرة تقتفي تفاعلاتها الشاعرية من بناها وحيز تفاعلها الرؤيوي،وتحريضها للدلالات الأخرى،وبقدر ما تبرز  هذه التفاعلات وتحتدم بقدر ما تزداد وتيرة المفرزات الفنية في القصيدة، وترتقي ذروة سنامها الجمالي،ومنتوجها الإيحائي الثر"(31).
 إن هذا الرأي يوضح لنا مدى الوعي والفهم الذي يدركه الشاعر لهذه الخاصية المهمة في قصائده من خلال فاعليتها في الكشف عن مؤثراتها ضمن السياق الشعري،ومستواها الإبداعي الفائق في قصائده على مستوى بناها الجزئية،وصولاً إلى رؤيتها الكلية.
وبالنظر – في المقومات الجمالية للتفاعلات الاقتضائية النسقية في النسق الشعري السابق -نلحظ أن كل مقتضى تفاعلي لغوي استعاري يقتضي النسق الآخر،وفق نسق علائقي تفاعلي محكم على شاكلة المقتضات اللغوية التالية:[ محض يدين فارغتين في أبدية ثكلى يداي]؛ فإذا أنعمنا النظر في الدوال اللغوية،ومستوى تفاعلها أدركنا  أن كل مقتضى لغوي نسقي يستجر الآخر بجامع التدليل على قيمة الجملة بلاغياً؛وهذه الجملة تستجر بمقتضاها التفاعلي الجملة الأخرى لتحقق تواصلها الفني ووظيفتها الجمالية؛وهذا ما ينطبق تماماً على مقتضى الجملة الأخرى:[ تنشب حيرتي أظفرها كالقطة العمياء في الغبش المرائي]؛ إذ إن القارئ يلحظ استثمار الشاعر للتفاعلات الاقتضائية المؤثرة، ليجعل بلاغة الجملة في وقفتها الأخيرة، بوصفها ملتقى للعلامات اللغوية الفنية الكاشفة،ومردودها الثر:[الغبش المرائي]؛ إذ إن هذا الاقتضاء التفاعلي لهو الأبرز في المقطع الشعري للتدليل على عمق الحالة في ترسيم  مشهد الحيرة التي آل إليها الشاعر؛ مشبهاً حيرته بصورة القطة العمياء التي تتخبط في ليل دامس من الغبش، والحيرة، والقلق، والضياع، والاضطراب؛وهذا يدلنا على أن التفاعل الاقتضائي النسقي المؤثر يكشف عن قيمة العلامات اللغوية المثلى، وبلاغتها في نسقها الشعري،وفق تموضعها الشاعري التفاعلي الاقتضائي المؤثر،وتبعاً لهذا يبدو لنا أن" العلامة اللغوية تعد دليلاً مفرغاً لا يمتلئ إلا داخل السياق النصي،وعبر سيرورة التدليل"(32).وبذلك تصبح العلامات اللغوية أشبه ببؤر دلالية خصبة ذات مرجعية نصية متوازنة،وتحقيق جمالي – بلاغي مؤثر.
وما ينبغي التأكيد عليه: أن التفاعل الاقتضائي النسقي الثر في لغة الشعر عموماً ولغة شوقي بزيع خصوصاً؛ينبني على قوة الاقتضاء وبلاغته في توصيل العلامة اللغوية المؤثرة في نسق جمالي إيحائي بلاغي مؤثر ؛ سواء أكانت القوة الاقتضائية مرتكزة على علامات مجازية وتعالقات نصية فاعلة، أم كانت مرتكزة على قيمة جمالية تفرضها الصورة في فضاءاتها التخييلية المبتكرة؛ وهذا يؤكد دقة المقولة التالية:
" إن اللغة الشعرية ليست فقط لغة صور،وإنما هي رؤى ودلالات باطنية، فهي  ليست فقط عناصر لهرمونية خارجية،وإنما هي العناصر لا تصاحب  المعنى فحسب، بل إن لها في ذاتها معنى مستقلاً"(33)".
 وبهذا التصور، ينماز التفاعل الاقتضائي النسقي المؤثر بخصوصية قيمته اللغوية والتعبيرية الفاعلة، وإصابة المقتضى الفني اللغوي المؤثر؛ وتبعاً لهذا؛ فإن " الاختلاف النوعي للفن لا يعبر عن نفسه في العناصر التي تشكل العمل الأدبي،وإنما في الاستعمال المتميز لتلك العناصر"(34).
وهذا الاستعمال ينبني على العلائق اللغوية المتفاعلة،وخصوبتها الإيحائية في نسقها النصي التفاعلي، مما يجعلها دائماً في حيز التفاعل والانفتاح؛ ذلك أن
" النص،وإن كان له نظامه وسياقه،وإن كانت له قواعد انبنائه واشتغاله، فهو يبقى مجالاً مفتوحاً،ويشكل مساحة يمكن التسلل من فجواتها،للكشف عن شرك الكلام،وخديعة القول،وتستر الخطاب"(35).
 وبما أن الشاعر المبدع ابن ركيزة تفاعلية إبداعية مؤثرة تملك خصوصية الاستعمال والتوظيف الشاعري المؤثر للغة فإن درجة شعريته ترقى برقي هذه التفاعلات الاقتضائية النسقية،ومفرزاتها الإبداعية ضمن القصيدة، لتحقق أقصى منتوج دلالي إيحائي متكامل، على شاكلة المقطع الشعري التالي:"
كم أنتِ بالغةُ الخفاءِ
كأنما تتجاوزين هشاشةَ الأجسامِ
كي تتصالحي مع رغبةِ الفانينَ
في ترميمِ ما خسروه
من حلمِ البقاء"(36).
وبالنظر في المقوم الجمالي للتفاعل الاقتضائي النسقي -في المقطع الشعري- نلحظ  أن المقتضى اللغوي النسقي الأول[كم أنت بالغة الخفاء] بتفاعله مع المقتضى النسقي الاخر [كأنما تتجاوزين هشاشة الأجسام] قد أدى إلى توليد تفاعل نسقي اقتضائي بالغ الإثارة والتحفيز؛ هو:[كي تتصالحي مع رغبة الفانين في ترميم ما خسروه من حلم البقاء]؛وهذا التمهيد النسقي بدأ بتفاعل جزئي مقصدي، ثم بتفاعل نسقي آخر أشد بلاغة ،وقوة،ودلالة ومعنى،وهو نسق اقتضائي توكيدي، ثم استتبع النسق بموجة تفاعلية من الدوال التي أدت إلى سيرورة التناغم والتآلف النسقي من أول كلمة إلى آخر كلمة؛وهذه السيرورة  التفاعلية النسقية تدلل على طاقة كل علامة في إبرازها للأخرى لتصل إلى فاصلة الجملة النهائية[حلم البقاء]؛وهذا يدلنا على أنه لا تواصل إبداعي خصب شاعري ممتع دون ركيزة تفاعلية في مقتضىى الدوال،والعلائق اللغوية،ومستوى تمازجها والتحامها في النسق الشعري الذي تتضمنه ويتضمنها؛ لتنتج الدلالة بطريقة فنية راسخة وبليغة في إصاحبة النسق البلاغي المؤثر في تحريض الدلالات،وكشف مخزونها الرؤيوي والدلالي الجديد؛ وعلى هذا يتوجب على الشاعر:( أن يملك في لغته الشعرية رؤية تفاعلية جديدة يوجه إليها لغته الشعرية بما يخلق الدهشة والإثارة في نصه الشعري"(37)
وهذا لن يحققه الشاعر على أشده دون بنية نصية متفاعلة صوتاً ودلالة؛ تخلق تمركزها الفني واقتضاءها النسقي الفاعل في الإثارة والتحريض النصي المبدع.
4-التفاعل الحجاجي اللساني:
 إن التفاعل الحجاجي اللساني هو أدق أشكال التفاعلات النصية في إبراز قيمة الأعمال الشعرية فضاءً لغوياً منتجاً،وطاقة تعبيرية خلاقة،ولاغرو أن يتخذ التفاعل الحجاجي اللساني هذه القيمة المثلى في الدراسات النصية المعاصرة؛ وبهذا الخصوص يقول الطاهر روينية:
" إنه مهما كان موقع إنتاج الدلالة،داخل الأعمال الفنية سواء أكان ذلك من خلال خصائصها الشكلية، أو من خلال مكوناتها اللغوية فإن عملية التأويل،والكشف عن الدلالة لا يمكن أن تتم إلا من خلال النسق اللساني"(38).بوصفه الأقدر على رصد المقتضيات الحجاجية المؤثرة،ومعتمراتها اللغوية ضمن النسق،ذلك أن اللغة" بوصفها " آلة تصوير الفكر، قادرة على أن تتخطى الأحياز بين وجود المرسل،ووجود المستقبل، والأحياز هذه فراغات قائمة على طول المسافة التي تفصل بين الوجودين المذكورين؛ وبمقدار ما يستطيع المرسل أن يملأ هذه الأحياز، يكون قادراً حقاً على أن يقطع قدراً أكبر من المسافة التي يقف المستقبل على طرفها الآخر"(39).
وهذا لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التفاعل الحجاجي اللساني،ومحاولة ملء فراغات هذه الأحياز بما يقلل من حجم المسافة بين المرسل والمستقبل؛لتتم الفاعلية الإبداعية بكل إثارتها الإبداعية والأقطاب المتداخلة في تفعيلها.
ومما لاشك فيه أن التفاعل الحجاجي اللساني- في أي منطوق شعري- يقوم على الترابط الاقتضائي بين دال لغوي وآخر؛بعلائق لغوية وروابط اقتضائية حجاجية مؤثرة تحدد قيمة الملفوظ الشعري في سياق تحقيقه للعديد من المعاني؛وهذا يعني:" أن الربط بين المنطوق،وما يستلزمه من مسكوت عنه من كلام يقتضي أن يكون هناك انسجام لتكوين الخطاب السليم الذي يقتضيه قانون الترابط"(40).
وبمفهومنا الرؤيوي نعي أن التفاعل الحجاجي اللساني هو المختبر الإبداعي في الحكم على مدى التفاعل الحجاجي اللساني الذي يحققه المنتج الشعري بين دواله ومدلولاته،باستلزامه لدلالات معينة،ودوال لغوية محددة بمنطق ترابطي يملك قيمه الجمالية والدلالية الخاصة به،ودليلنا " أن المتكلم حين يوجِّه ملفوظه توجيهاً حجاجياً فإنه يفعل ذلك عبر وسم هذا الملفوظ وسماً حجاجياً؛ويجري هذا الوسم الحجاجي بتضمين الملفوظ مجموعة من العلامات،والإشارات التي تحدد كيف ينبغي تأويله،وأي معنى يجب إسناده إليه،وتعتبر العوامل والروابط أهم موضع ينعكس فيه هذا التوجه الحجاجي"(41). خاصة إذا أدركنا أن التفاعل الحجاجي البليغ لا يتأسس إلا بتمثيله الدلائلي الموحي، ومقتضاه اللساني المحفز حول خطاطة رؤيوية معينة، أو منظومة اقتضائية تفاعلية محرضة للتأمل،والتدبر،والإقناع أو الإمتاع الشعوري،يقول جرايز في هذا المنزع:" إن الذي يحاجج لا يكتفي بوصف أوضاع معينة فهو يثير في الوقت نفسه معرفة بكاملها عند المستمع،فاختيار المفردات التي يوظفها والمجالات الاستعارية التي يعتمد عليها لن تعمل فقط على إحضار المعلومة التي يقصد إلى إيرادها؛ وإنما ستقوم كذلك بتلميع ما يريد بيانه،سواء بصورة إيجابية أو سلبية؛وستحرك المشاعر وردود الأفعال عند المخاطبين"(42).
 وبمقدار ما يملك النسق محاججته اللسانية البليغة،ومفاعلته النصية الخصبة بمقدار ما ترسخ المنظومة التفاعلية الحجاجية في النسق اللغوي ويتلقاها المبدع كما لو أنه مبدعها أو مشكلها الرئيس وواضح أدواتها، ودوالها، ودوالها، بمقصديته لا مقصدية المبدع أو الشاعر، يقول شوقي بزيع:" إن لكل نسق شعري اقتضاءه الشاعري المؤثر؛ومساره التفاعلي الذي يرتكز على منظومة رؤيوية تسعى إلى خلق تفاعلها الحجاجي، بما يرفع وتيرة النسق بملصقاته الجمالية،وأوصافه المراوغة،وتفاعلاته النصية للإقناع،والإمتاع وإثارة اهتمام القارئين"(43).
وبتقديرنا: إن مثيرات التفاعل الحجاجي اللساني المؤثر تتبدى في النشاط الاقتضائي والدلالي لتحقيق الفعل الشعري داخل الإطار اللغوي المحفز للملفوظات الأخرى،والنتيجة التي تقودنا إليه هذه الرؤية:
" أن اللغة – في التشكيل الشعري- ليست كما يعتقد أصحاب النزعة المنطقية الإخبارية –مجالاً تتفاعل فيه الأدلة كما تتفاعل في النسق المنطقي، أي وفق قوانين صورية صارمة، إن الأدلة في اللغة الطبيعية عبارة عن شواهد اشتباهية لا تسمح إلا باستدلالات احتمالية ترجيحية،ولا يصح اعتمادها في استدلال منطقي صوري(44).
وهذا يعني أن مبدأ القوة التفاعلية الحجاجية يكمن في الاستدلال الحجاجي الذي يولده التفاعل الاقتضائي اللساني في بنية الملفوظ الشعري؛وبمقدار القيمة الاقتضائية الحجاجية للملفوظ الشعري تتحقق بلاغة التفاعلات اللسانية، وتنتج تفاعلها المثير؛ وهذا ما نلحظه في التفاعلات الاقتضائية الحجاجية عند شوقي بزيع؛ إذ نلحظ أن الروابط الحجاجية لديه تستند إلى منظومة التفاعلات الاقتضائية اللسانية التي تشتغل كروابط حجاجية تقوي متن النسق، بإبراز محكه الاقتضائي اللساني الممنهج  بآلية اقتضائية عالية الإيحاء، والفاعلية،والتأثير؛ على نحو ما يظهره لنا المقطع الشعري الآتي:
" وجهكِ سادرٌ في فجرِهِ العاري
ونهدكِ يستريحُ الآنَ
 في كنفِ استدارتِهِ
بعيداً عن شهيقِ يديَّ
 ثمَّ يفوحُ كالقمرِ الرضيعِ
على الورودِ"(45).
 لابد من التنويه بداية: إلى أن المقوم الحجاجي اللساني المؤثر في البنى الشعرية هو الذي يخلق تفاعله الحجاجي عبر تفاعل البنى اللغوية بمنظومة اقتضائية تفاعلية:" تؤدي إلى تحويل الطاقة الحجاجية للملفوظات؛ومن ثم إلى توليد طاقة حجاجية إضافية"(46).
تستمد هذه الطاقة قيمتها من متلفظاتها اللسانية،وعمق ما تصيبه في النسق من دلالات. هذا من طرف،ومن طرف آخر؛من قارئ ماهر يلتقط هذه التفاعلات الحجاجية للملفوظات الشعرية بمقتضياتها اللسانية في نسقها،وإدراكه لأبعادها،ومثيراتها،ومسبباتها،وقوة المعاني المستمدة،ومستوى رجحانها عما سواها من المعاني وانتقالها من المعنى الأدبي إلى المعنى الأقوى(47).
وبالنظر- في دينامية التفاعلات الحجاجية اللسانية- في المقطع الشعري- نلحظ  أن غنى الأنساق جمالياً جاء من مقتضاها اللساني الحجاجي،وروابطها الاقتضائية المبتكرة، كما في المتفاعلات،والاقتضاءات التالية:" فجره العاري- وجهكِ سادرٌ- كنفِ استدارتهِ- شهيقِ يدي- كالقمرِ الرضيعِ على الورود"؛ وبما أن المقتضى يلزم المقتضى إليه، أو المقتضى لأجله،والعامل يقتضي المعمول،والسبب يقتضي المسبب أو العكس؛ فإن شعرية هذه المقتضيات تتحقق بمستوى تفاعلها اللساني الحجاجي،ودرجة شعرية هذه الاقتضاءات الحجاجية،وتحفيزها للمتلقي؛ بواسطة روابط  حجاجية مؤثرة تملك فعلها التأثيري الحجاجي البليغ من خلال درجة انزياحها في مقتضاها اللغوي،وتفعيلها لنسقها الشعري؛ فإذا ما استكنهنا التركيب الاستعاري التالي:[ وجهكِ سادرٌ في فجره العاري]وفقاً لمقتضاه اللساني تبين لنا أن دال (سادرٌ) اقتضى جمالياً في مساره النسقي( فجره العاري) بعامل احتجاجي هو انزياح(الصفة عن الموصوف)،وبناء منطقها البلاغي على أسس المفاجأة،والدهشة في الإسناد، بحيث تتنامى الدلالات الإيحائية بفعالية التفاعل الاقتضائي والخرق الأسلوبي؛ومعنى ذلك: أن درجة شعرية التفاعل الحجاجي اللساني تتبدى في الاقتضاء الجمالي المؤثر عبر الربط الحجاجي الصادم أو المفاجئ، على مستوى النسق الشعري بين الكلمة والكلمة ،والجملة والجملة؛ مما يؤكد على أن ثمة قدرة اقتضائية فاعلة تربط الأنساق الشعرية بروابط حجاجية مؤثرة غاية في الإثارة، والتحفيز الجمالي.
وبما أن الشعر ركيزته الأساس مقتضياته اللغوية،وتلفظاته الصادمة فإن أبرز ما يمثل سموقه الفني تلاعبه بالنسق اللغوي وفق مقتضيات الرؤية،وزخم التجربة،ومفرزاتها، وتفاعلاتها الوجودية المحتدمة بما تملكه من وعي، وإدراك،وحساسية جمالية؛ولذا فإن شعرية التفاعلات الاقتضائية الحجاجية تتبدى من خلال سلسلة التفاعلات الاقتضائية التي تحققها الجملة الشعرية على مستوياتها كافة؛وبمقدار ما ترتقي الاحتدامات والتفاعلات اللسانية في النسق الشعري بمقدار ما ترتفع الروابط الحجاجية بلاغة وقيمة في نسقها الشعري؛ على نحو  ما يشفه لنا المقطع الشعري التالي:
" إذن ستلفق الكلمات لي
ندماً يناسبُ
جسمكِ المغدورَ في المرآةِ
والمنذورَ في المعنى
لأسئلةِ الوجودِ
تطأُ النعامةُ نفسها
في ماءِ فتنتكِ الأليفِ
وينتشي بلعابِ نأيكِ
سمُّها الليلي"(48).
إننا نلحظ أن كل لفظة تملك مرجعيتها،ومقتضاها اللغوي،ومنطوقها الإيحائي الفاعل عبر روابط حجاجية بليغة تملك مؤثراتها الاقتضائية الفاعلة عبر بلاغة اقتضاء الصفة لموصوفها:[ جسمك المغدور- ماء فتنتكِ الأليف- سمها الليلي]؛ أو اقتضاء المضاف للمضاف إليه:[لعاب نأيكِ]،أو الفعل لفاعله ومفعوله[تطأ النعومةُ نفسها]،و[ستلفقُ الكلماتُ لي ندماً]؛وهذا يعني أن فاعلية التفاعلات الحجاجية النسقية تتحدد عبر تقنية الربط الحجاجي الصادم، أو المؤثر الذي يربط الكلمات مع بعضها بعضاً؛ وفقاً لمقتضيات شاعرية تملك مقومها الاقتضائي الفاعل في الاستثارة والتحريض الجمالي؛وبقدر ما تتنامى فاعلية الاقتضاء الحجاجي جمالياً بقدر ما ترتقي محاججته اللغوية،وتزدهي بلاغتها في النسق الشعري؛وهذا يعني أن الكلمة الواحدة تتفاعل في سياقها مرات عديدة؛ لأنها لا تنطوي على معنى محدد أو مقنن؛وهذا ما أشار إليه(ريتشاردز) بقوله:" إن الكلمات تتفاعل؛ ولذلك لا تنطوي على معنى محدد وثابت؛ولكنها تحيل إلى معانٍ كثيرة،وإلى عواطف،وانفعالات،قد تحيط باللفظة الواحدة، مما يحيل إلى تنافس واسع النطاق بين أنماط سياقية مختلفة،ومتعددة تمد الجملة أو القول الواحد بالمعنى المراد"(49).
وبهذا المقترب نقول:  إن بلاغة الكلمات في نسقها الشعري تتحقق بروابطها  الحجاجية المبتكرة،وتفاعلاتها الاقتضائية البليغة التي تملك فاعلية التعبيرالجمالي المؤثر،والطاقة التخييلية العالية؛وهذا ما لاحظناه في سلسلة الاقتضاءات الجمالية التي تثيرها الأنساق الشعرية في بنية القصيدة الشعرية عند شوقي بزيع.
5-التفاعل التصويري المركب:
إن لكل فن مناخاته، ووسائله،وأدواته. ووسيط الشعر وأداته المؤثرة هي الصورة،ووسيط الصورة في خلق الاستثارة والتأثير بلاغة الرؤية، وفضاء متخيلها الشاعري الخصيب،وأفق تفاعلها،وانفتاحها الوجودي، و لذلك" تعد  الصورة المقوم الأساس في التدليل على خصوبة الخيال الشعري لدى الشاعر؛ بوصفها طاقة دينامية تسهم في تفعيل فضاء القصيدة الدلالي،والنفسي،والإيقاعي"(50)
وبما أن الشعر ليس بأداته ووسائله فحسب؛ وإنما بوسيطه الإبداعي؛ وشعوره الداخلي المركب،ورؤاه الوجودية المعقدة فإن الصورة المركبة تشكل العنصر الأهم في تحقيق بؤرة التفاعل الجمالي المركب بين الشاعر والعالم؛ ولهذا؛ تعد الصورة عموماً،والصورة المركبة خصوصاً الممثل الشرعي الوحيد؛ لهذا التفاعل الوجودي الخلاق، لتحقيق رؤية جديدة،ومنظور جديد للعالم، والواقع، والحياة؛ يقول خليل الموسى:" إذا كانت الصورة تؤدي فكرة ليس غير فهي نثرية، أما إذا كانت تجمع الإيقاع إلى الرؤية،والفائدة إلى المتعة؛ فهي تغدو ذات استجابة انفعالية تكمن في إيقاعها،وتؤثر في سلوك المتلقي،واستجابة عقلية تؤثر في عقله ذهنه،وتتوجه إلى عينيه،وأذنيه،ووعيه،وتسيطر على حواسه"(51).
وبهذا الوعي والفهم العميق الذي نستشفه من ناقدنا السوري الكبير خليل الموسى نقول: إن فاعلية الصورة المركبة لا تستقي مؤثراتها من استجابة شعورية لحظية آنية، أو مباشرة؛ وإنما من اختمار رؤيوي عميق، يصعب التقاط مؤثراته،واعتماراته الداخلية إلا بما يفصح عنه الشاعر ذاته من مؤثرات،ومرجعيات بيئية أو دينية أو مثيولوجية؛ تشكل الخلفية الماورائية لهذه  الاحتدامات، والرؤى الجدلية المصطرعة في عالم الشاعر الوجودي؛ وبهذا المقترب يقول شوقي بزيع:" الصورة المركبة جزء من شخصيتي الشعرية؛وهي معقدة؛ لأنها تنطوي على خلفيات، ورؤى،ومؤثرات،ومرجعيات مركبة، تمتد من لحظة طفولتي،وانفتاحي على الحياة والكون إلى الآن بما تتضمنه من إفرازات معرفية ورؤيوية معقدة عايشتها في جو المدينة الصاخب،وماديتها الإسمنتية الصلدة وعلاقاتها المنفتحة"(52).
ولاغرو إزاء هذا الإفشاء والتصريح أن تشكل الصورة المركبة المرجعية الماورائية الخفية لصوره، ولقطاته الشعرية المركبة،واعتماراتها الداخلية/والشعورية المكثفة في أعماق أعماقه،وتناغمها مع الاقتضاءات البصرية المؤثرة على مجرى الصورة في نسقها الشعري،وانعكاسها على سيرورة الدلالات،ومجراها النسقي العام، على شاكلة ما نلحظه في الصورة المركبة التي يشي بها المقطع الشعري التالي:
" لم يكن ينقصُ عينيها
سوى خطٍّ نحيلِ الدمعِ
كيفَ يتصلُ البنُّ الذي يغشاهما
بالعسلِ الصافي،
ونهديها سوى التفاحِ
كي تسقط من ليلِ الحكاياتِ
كنفنافٍ على الذكرى"(53).
  إن المتمعن- في نسق الصورة ومركباتها الشعرية في المقطع الشعري- يلحظ تفاعلها التصويري المركب،وانزياحها الإيحائي الخصب،ومصفوفاتها التصويرية المتراكبة التي تنبني على طبقات تصويرية متتالية متشعبة(صورة ضمن صورة) وفق منظومة تصويرية متفاعلة(مركبة) لا يستطيع القارئ تدبرها إلا مجتمعة بعد اكتمال نسقها، والوقوف على قرارها النهائي؛ وهذا هو طابع الصور الغزلية المشتقة من حقل الطبيعة، كما في المفردات التالية:[ العسل الصافي- التفاح- ليل الحكايات]- ناهيك عن اللمسة الجمالية في خلق الصورة- الدهشة التي تكتنز بأبعاد جمالية في ترسيمها، وتكثيف معانيها، كما في الصور الجزئية التالية:[ كي تسقط من ليل الحكايات-كنفنافٍ على الذكرى]؛  إن المتأمل- في عمق الصورة- يعي تصويرها المتراكب،ومباغتتها للقارئ من حيث الجدة، والعمق، والابتكار؛وهذا ما يدلل على التفاعل الإيحائي للصورة بين [ الحامل/ والمحمول] في نسق الاستعارة التالية: بين[ليل الحكايات]و[نفنافٍ على الذكرى]؛ وبهذا التفاعل التصويري المتراكب ترتقي الصورة،ويرتقي مستوى اقتضائها التشكيلي، وتكاملها في الإثارة والخصوبة الشعرية؛ يقول شوقي بزيع:" إن دواعي الصورة المركبة –في قصائدي- دواعٍ نفسية غزلية إزاء إحساسي الجدلي، ونظرتي الجدلية المتناقضة للمرأة، بين النظرة الرومانسية إليها أحياناً،والنظرة التراجيدية حيناً آخر؛ وطبيعي إزاء هذا الإحساس أن تتراكب الصورة في قصائدي تأسيساً على الخلفيات الشعورية المحتدمة في قرارة ذاتي الداخلية وتغايراتها الدائمة للمرأة"(54).
وإذا كانت الصورة المركبة انعكاساً لتعانق الشعور واللغة فإن تفاعلها المركب انعكاس لحركة الذهن وحرية التصور؛ونتيجة لهذا، تتأكد حتمية إثارة الصورة عبر تفاعلها التصويري المركب بين[ الحامل/والمحمول]؛ وبهذا ترتقي الصورة، ومن ثم ترتقي الخطاطة البلاغية في تمثيلها وتجسيدها فنياً،وبهذا المعنى المحايث يقول(ريتشاردز):"ينبغي ألا نحصر  التفاعل بين الحامل والمحمول على مجرد التشابهات بينها"(55)؛ وإنما على التخالفات والتفاعلات المركبة، وبقدر ما تتراكب الصور، وتتقد،وتتفرع، بقدر ما تدلل على عمق الرؤية،وتشعبها وامتدادها،وهذا ما أشار إليه شوقي بزيع قائلاً:"
الصورة الرؤيوية هي الصورة الشبكية المتشعبة ، أو الصورة المتراكبة التي تتطلب علائق وجزئيات متفرعة تنم على رؤيا عميقة،ومنطق رؤيوي متشعب، وإحساس شعوري مركب"(56).
 وأغلب ما نلحظه هذه التفاعلات  والتراكبات في بنية صوره الشعرية في السياقات الغزلية خاصة التراجيدية، أو الملحمية التي تتطلب كثافة في المنظورات، واحتداماً في الرؤى، وجدلاً في بث المفارقات، والمتناقضات على شاكلة قوله:
" نامي لكي ترث البلابلُ وجهكِ الغافي
ويقتطعُ الحريرُ نصيبَهُ
مما تبقى من غيومكِ في الخيالْ
نامي لينسدلَ الستارُ على المرايا
والبراعمِ والظلالْ"(56)
أول ما يلقاه القارئ في هذا المقطع قدرة الصور على التفاعل بين عناصرها؛ وكأن طرفي الصورة يفيضان رؤىً ودلالات خصبة لا حدَّ لها؛ بالإضافة إلى تفاعلهما التصويري المركب الذي يرتكز على ارتباطات، وإسنادات عديدة من حقول دلالية مختلفة؛ مما يجعل الصورة متراكبة تصب كلها في حقل المباغتة،والتأثير، والتعدد الدلالي الخصيب ، كما في  الصور التالية:[ نامي لكي ترث البلابل وجهكِ = الخيال]،و[نامي لينسدل= الظلال]؛ولو استكنهنا الدوال اللغوية التالية التي تشكلت منهما الصورة المتراكبة[ البلابل- الحرير- غيوم-  البراعم – الظلال] لتبين لنا  أن الخلفية التي تشفُّ عنها هذه الصور خلفية طبيعية مشتقة من حقل الطبيعة ومفرداتها الجمالية، مما يدل على غنى معجمه الشعري بآلاف مؤلفة من المفردات المقتنصة من حقل البيئة الجبلية في الجنوب اللبناني،وتأسيساً على هذا نقول : إن التفاعل التصويري المركب يمثل نقطة تحول الدلالات،ومنبع حراكها الفني، إذ
" إن التوتر والتباعد بين طرفي الصورة الاستعارية يعطيان  للمعاني حركة،ولا يجعلانها مضبوطة  في نسيج واحد. وحتى في أشد أنواع الاستعارات غموضاً يستطيع الذهن البشري أن يعمل ويخمن،ويجمع، بين ارتباطات عديدة قد تكون مختلفة،ومتباينة لكنها تعطي للاستعارة بعداً آخر يحقق لها طابعها الدلالي،وبعدها التأثيري أيضاً"(57).
ومن هذا المنطلق، نقول: إن جمالية التفاعل التصويري المركب -في قصائد شوقي بزيع- تتبدى في هذا الربط العلائقي الجدلي بين طرفي الصورة لتحقيق جمالية الاستدامة الإيحائية،والفاعلية الدلالية النشطة التي تتوالد باستمرار بدلالات جمة لا تكاد تنتهي؛ وهذا دليل أن " التحوير المتميز الذي  يصيب المحمول، ويحققه الحامل، إنما هو في الغالب متأت بفعل الاختلافات أكثر من التشابهات"(58), وما ينبغي التأكيد عليه أن الاختلاف جوهر العملية التفاعلية في أي منتج إبداعي على الإطلاق؛ولا يمكن للنص الشعري التفاعلي أن يوجد دون علاقات ومحاور اختلافية حتى في الشكل البصري قبل أن يكون في الشكل اللغوي.وهذه المسألة جد مهمة في تحديد قيمة التفاعل ضمن البؤرة النصية التي تنبني عليها النصوص الإبداعية المؤثرة،ولا غنى عنها في تحقيق شعريتها بأصالتها الإبداعية الحقيقية ومنتوجها الفني المؤثر.
6-التفاعل الصوتي – البصري:
 إن حركة الحداثة في مغامرتها الكبرى ومقامرتها التشكيلية- البصرية المراوغة جعلت غوايتها في الشكل البصري؛وليس في الصوت أو اللغة فحسب؛ ولهذا غدا التفاعل(الصوتي- البصري) جزءاً لايتجزأ من حيوية الحراك البصري الذي أدى بالشعر الحديث إلى الانفتاح على الفنون البصرية الأخرى كفن السينما،والمونتاج،والمسرح،والكولاج المقطعي؛ ولهذا؛ فإن التفاعل البصري غدا الفضاء الرؤيوي الكاشف عن الكثير من المنغلقات النصية أو الكواتم النصية بوصفها[ النواطق الساكنة [ عن حجم المفرزات الشعورية،والتعالقات الباطنية التي تعتصر الذات الشاعرة؛ ليدخل الشكل البصري في نطاق الرؤية والكشف النصي؛ ذلك أن" المستوى الكتابي لا يمكن اعتباره ثانوياً، لأنه يحمل دلالات يمكن سبر أغوارها حتى لو كان المبدع نفسه لا يتحكم في إنتاج قصدي للمستوى الكتابي في أثناء عملية الكشف عن كيفية توظيف التشكيلات الكتابية،واستغلال الإمكانات التعبيرية للغة المكتوبة؛وهذا،لأن دراسة المستوى الكتابي لا تمثل تحليل اللغة الشعرية في مظهرها البصري فحسب؛ وإنما ترى في ذلك التشكيل البصري للغة مستوىً تعبيرياً ينبغي التوصل إليه لمعرفة كنه الإبداع،وجماليته في النص  الشعري الحديث؛ وبذلك ، فإن المستوى الكتابي يحكمه شكل يجد مرجعه في ذائقة المتلقي وحساسيته"(59).
وبهذا المعنى؛ فإن التفاعل الصوتي – البصري تحكمه جماليتان هما : جمالية الشكل اللغوي، وجمالية الشكل أو الفضاء النصي؛ وبمقدار ما يتم التفاعل  بين هذين الشكلين بمقدار ما تتحقق جاذبية القصيدة بشقيها[ الصوتي – البصري]أو[ اللغوي- البصري]؛ووفق هذا المقترب والمنظور المحايث لمنظورنا الرؤيوي يقول شوقي بزيع:
" إن كل قصيدة جميلة تفرزها جماليات، أوتحكمها جماليات هي: جمالية الشكل اللغوي،وجمالية الشكل البصري، وجمالية الفضاء النصي، أو الشكل المعماري، وجمالية الرؤية،وما يعمق هذه الجماليات،ويستثيرها جميعها جمالية الشكل اللغوي، وجمالية الشكل البصري،وكلتا الجماليتين تستثير الأخرى،وتغتني بها وتنميها"(  60).

وبهذا التصور، نقول: إن فحوى التفاعل الصوتي- البصري يكمن في إبراز القيمة الشعرية في النص عبر الربط العلائقي المحكم بين المقتضى الصوتي والمقتضى البصري،وخلق التفاعل الاقتضائي بينهما،والملاحظ أن هذا التفاعل هو الذي يسهم في تعميق الدلالة،وإنتاج بلاغتها؛ وبهذا التفاعل[الصوتي- البصري] تكتسب القصيدة مقومها الشعري الأبرز الذي يفعِّل الشكل البصري، ليحيل إلى مدلولات عدة مباغتة ذات  مرجعية إيحائية فاعلة في الاستقطاب والتأثير. وتبعاً لهذا التفاعل الصوتي- البصري تتجاوز القصيدة معناها الإشاري الصريح لتدخل عمق المعنى؛وجوهرها الأسمى[ معنى المعنى]، أو[المعنى المثالي]؛ يقول الناقد  محمد عدناني فيما أسماه ب(بلاغة الصمت):
" لا يحتاج المُطَّلع على العديد من الدواوين  الشعرية الحديثة، إلى كثير من الجهد لإدراك خاصية تبدو عامة بين الشعراء، أو في تجربة شاعر ما؛ بمستويات طبعاً، وهي الاحتفاء بالصمت بشكل مباشر؛ بحيث يصبح قيمة أساسية في بعض الدواوين. لا يكاد يخرج منها حتى يعود إليها؛ وهذه القيمة توجه الدلالة،وتجذر معالمها"(61).
والشاعر إذا تمكن من استثمار التفاعل البصري- الصوتي بشكله النصي المؤثر فإنه يرقى بشعرية القصيدة لا محالة؛ خاصة" حين يتمكن الشاعر من إثارة الإدراك البصري بتحديد بداية كل مقطع ودلالته؛ومن ثم؛ فإن تحديد الدلالة يسهم في رسم المسار الإيقاعي؛ مما يشير إلى تعانق رائع بين النسق اللغوي والتشكيل البصري؛ بهدف الوصول إلى الانسجام المنشود،وتحقيق شعرية القصيدة"(62).
ومن هذا المنطلق، لم يدخر شوقي بزيع  جهداً في إبراز مقتضيات قصائده البصرية بالمستوى ذاته الذي شكل لديه أنساقه اللغوية بمقتضيات صوتية إيقاعية مموسقة ترقى أعلى مستويات التناغم،والانسجام، وبهذا التصور، يقول شوقي بزيع" إن الشاعر المبدع يهندس قصائده بصرياً كهندسته لها لغوياً؛ فيعبر بالصمت والشكل البصري أكثر مما يعبر باللغة والجسد اللغوي"(63).
وتبعاً لهذا المنظور، أدرك شوقي بزيع أن الشعرية ليست هندسة لغوية بقدر ما هي هندسة "بصرية- صوتية" محكمة،ومفاعلة بين هذه الإيقاعات مجتمعة، لتحقيق منتوجها الفني الإيحائي المؤثر؛وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:
"كم مرةً ينبغي أن أقول: أحبكِ
كيما أهدِّئ هذي الذئابَ
التي تتنابحُ مع وحشتي
في الطريقِ إلى دمكِ المترامي!
كأني غريبكِ بين النساء
 أفتِّشُ عما يوحِّدني في مصبٍّ
وأبحثُ عن حائطٍ في غيابكِ
كيما أبادلُهُ بانهدامي"(64).
بادئ ذي بدء؛نشير إلى أن التفاعل الصوتي- البصري في قصائد شوقي بزيع -تفاعل اقتضائي- بصري يحقق أقصى درجات المتعة، واللذة الجمالية، لارتباطه بالهندسة البصرية للكلمات؛لتحقق فعلها الإغوائي،ومتعتها النصية؛وبهذا المقترب الشعوري يقول شوقي بزيع:
" إن أكثر القصائد شعرية في تجربتي تلك التي تملك قوتها البصرية الغالبة،وفعل غوايتها المؤثر الذي تثيره غبر تفاعلاتها الصوتية الملائمة لهندستها البصرية؛وأعتقد أن الشعرية العظيمة الجسورة لا تنفصل إيقاعاتها البصرية عن اللغوية، أو الإيقاعية؛ إذ تعتمل جميعها في إبراز شعرية القصيدة؛وتحقيق نبضها الجمالي"(65).
 إن المتمعن- في المقطع الشعري السابق- يلحظ أن ثمة هندسة بصرية يدركها القارئ في تفاوت الموجات السطرية طولاً وقصراً؛ يتخللها البياض بوصفه إيقاعاً- بصرياً يتناغم مع أصداء الدلالة الانكسارية؛وموجتها النفسية المترامية؛ إثرَ غياب المحبوبة،وتلاشي ندائه  المنكسر إزاء رحيلها؛وهنا؛ يراكم الشاعر النقط تاركاً مساحة البياض تسيطر على خاتمة المقطع للتدليل على شتى ألوان الانكسار،والتهدج،والأسى المرير، الذي يستمر صداه وأثره إلى ما لانهاية. وهذا ما تشير إليه  سلسلة الدوال اللغوية المتفاعلة مع هذا المد البصري المفتوح؛وهي:[  غيابك- دمك المترامي- بانهدامي]؛ لتتأكد الدلالة،وتتفاعل الإيقاعات الصوتية والبصرية،للتدليل على جوها الإيحائي العام،ومخزونها النفسي الدقيق؛وكأن ثمة تفاعلاً حقيقاً لا محالة بين جميع الإيقاعات،لإفراز هذا النسق الشاعري الجميل،، بكل قوته البلاغية،وخصوبته الإيحائية العالية،ومقتضاه البصري- الصوتي المتناغم؛وهذا دليل أن طريقة تموضع الكلمات بصرياً؛ يزيد من فاعلية تناغمها، وتفاعلها البلاغي صوتاً ودلالةً؛ إذ إن الوحدات اللغوية بتموضعها النسقي الفاعل بمقتضى بصري ما" تحمل تأثيرات فعالة في استثارة المتلقي عن طريق التشكيلات البصرية التي تؤسس بلاغة خاصة تعمل على دعم النص الشعري إيقاعياً؛وعلى هذا؛ فإن كل عنصر من  عناصر اللغة الشعرية؛يؤلف شبكة غنية من العلاقات الجمالية التي تحتاج إلى ذائقة نقدية يمكنها استكناه مواطن الإبداع وجماليته في آن"(66).
لكن المهم أيضاً في هذا الشأن التنويه إلى أن التفاعل الصوتي- البصري لا يحقق أثره ومقتضاه الفني الجمالي المطلوب، إن لم يحسن الشاعر في توجيهه بالشكل الفني البليغ الذي تقتضيه الدلالة،قبل أن تقتضيه البنى "الإيقاعية- الصوتية"ووقعها اللغوي الشاعري المؤثر؛وبهذا الصدد يقول شوقي بزيع:" إن الشاعر المبدع هو الذي يوجه إيقاعاته البصرية لتحقق منجزها الجمالي؛ولهذا؛ فإن البنى اللغوية لا ترتقي في مقولها الشعري إن لم ترتكز على مقتضاه البصري الدقيق الذي يفرمل البنى اللغوية،ويحرف مساراتها صوب الدلالة الهادمة والناجحة في إصابة عمق الرؤية؛ومكمن الانبثاق الدلالي فيها"(67).
وبهذا المقترب نصل إلى خلاصة القول:
إن خاصية التفاعل- في قصائد شوقي بزيع- خاصية بؤرية مركزية، تستقطب إليها المؤثرات الأخرى بوصفها الطاقة الدينامية التي تحرك عجلة النص،باتجاهات محددة،وبنظم علائقية فاعلة؛ وهذه الخاصية لا نبالغ إذا قلنا فيها: لقد أمدت قصائده بفيض هائل من الإيحاءات، والدلالات، والتأويلات المنفتحة، لتؤكد قصائده –بشكل عام-  فعل غوايتها البليغ؛ومنظوراتها الإبداعية المركزة؛من حيث القوة،والفاعلية،والغلبة الإيحائية؛ الأمر الذي يجعلها محط تطورٍ، وتنامٍ، وابتكار في فيضها الرؤيوي،وإغواءها الجمالي الآسر.


الحواشي:
(1)    التجديتي،نزار،2005- السيميائيات الأدبيةلآلجرداس .ج. جريماس(منهج لتحديث قراءة الأدب)؛مج عالم الفكر،ع1،مج34، ص164,
(2)    المرجع نفسه،ص164-165.
(3)    المرجع نفسه،ص165.
(4)      شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،مخطوط،ص25.
(5)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، رسالة دكتوراة مخطوطة جامعة حلب، ص58.
(6)    المرجع نفسه،ص 59.
(7)    شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص26.
(8)    ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص61.
(9)    بزيع،شوقي،2005-  الأعمال الشعرية،ج2/ ص832-833.
(10)    شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،مخطوط، ص22.
(11)     ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص65.
(12)    بزيع، شوقي،2004- الأعمال الشعرية،ج2/ص834-835.
(13)    شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص45.
(14)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص46.
(15)    عدمان، محمد عزيز،2004- قراءة النص الأدبي في ضوء نظرية التفكيك،مج،عالم الفكر، ع2،مج،35،ص44.
(16)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص47.
(17)     شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص22.
(18)    عدمان،محمد عزيز،2004- قراءة النص الأدبي في ضوء نظرية التفكيك، ص45.
(19)    بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية ،ج2/ص 835-836.
(20)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص43.
(21)    بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ص837-838.
(22)    شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص21.
(23)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص49.
(24)    كروم، أحمد،2004- مقاربات نظرية في  مظاهر الارتباط الحجاجي لبنية الاقتضاء،مجلة عالم الفكر، ع3،مج32،مارس،يناير،ص255.
(25)    المرجع نفسه،ص255.
(26)     رشيد،الراضي،2005- الحجاجيات اللسانية عند أنسكومبر،وديكرو، مجلة عالم الفكر،ع1،مج،34، يوليو،سبتمبر، ص231.
(27)    رواينية،الطاهر،2007- سيميائيات التواصل الفني،ص254.
(28)    المرجع نفسه،ص254.
(29)    شرتح،عصام،2012-حوار مع شوقي بزيع،ص34.
(30)    بزيع،شوقي،2005-  الأعمال الشعرية،ج2/ص818.
(31)    شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص21.
(32)    رواينية، طاهر،2007- سميائيات التواصل الفني،ص256.
(33)    إيخنباوم، بوريس،1982-  نظرية المنهج الشكلي،ضمن نظرية المنهج الشكلي(نصوص الشكلانيين الروس،تر: إبراهيم الخطيب،ص38.نقلاً من سيميائيات التواصل الفني،ص257.
(34)    نقلاً من المرجع نفسه، ص257.
(35)    حرب،علي،1988- قراءة ما لم يقرأ(نقد النقد)،ص41. نقلاً من مقال: في قراءة النص الأدبي،ص86.
(36)    بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية ج2/ص819.
(37)    شرتح،عصام،2012- تميم برغوثي (دراسة نصية في المحفزات الشعرية)،دار الصفحات،دمشق، ط1،ص14.
(38)    رواينية،الطاهر،2007- سيميائيات التواصل الفني،ص255.
(39)    استيتية،سمير شريف،2006- ثلاثية اللسانيات التواصلية، مجلة عالم الفكر،ع3،مج،34، يناير- مارس،ص26.
(40)    كروم،أحمد،2004-  مقاربات نظرية في مظاهر الربط الحجاجي لبنية الاقتضاء، ص 240.
(41)    رشيد،الراضي،2005-  الحجاجيات اللسانية عند أنسكومبر،وديكرو، ص213.
(42)    المرجع نفسه،ص213.
(43)    شرتح،عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص23.
(44)    رشيد،راضي،2005- الحجاجيات اللسانية عند أنسكومبر،وديكرو، مج،علم الفكر،ع1،مج3،ص218.
(45)    بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية ج2/ص823.
(46)    رشيد،راضي،2005-  الحجاجيات اللسانية عند انسكومبر،ودياكرو، ص235.
(47)    المرجع نفسه، ص240.
(48)    بزيع،شوقي،2005-  الأعمال الشعرية، ج2/ص822-823.
(49)     أنقار،سعاد،2009- البلاغة والأسلوبية من خلال كتاب(فلسفة البلاغة )لريتشارد،ص177-178.
(50)    شرتح،عصام،2012- تحولات الخطاب الشعري عند أدونيس،دار الأمل، دمشق، ط1، ص55.
(51)    الموسى، خليل،2003- بنية القصيدة العربية المعاصرة المتكاملة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 179.
(52)    شرتح، عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع، ص34.
(53)    بزيع،شوقي،2012-الأعمال الشعرية،ج2/838.
(54)    شرتح، عصام ،2012-حوار مع شوقي بزيع، ص36.
(55)    أنقار،سعاد،2009- البلاغة والأسلوبية من خلال كتاب(فلسفة البلاغة) لريتشاردز،ص196
(56)    شرتح، عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص24.
(57)    بزيع،شوقي،2005-الأعمال الشعرية،ج2/ص473.
(58)    أنقار،سعاد،2009- البلاغة والأسلوبية،ص196.
(59)    المرجع نفسه،ص197.
(60)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص 190.
(61)    بزيع،شوقي،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص24.
(62)    عدناني، محمد،2006- بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الحديد،ص105.
(63)    ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص198.
(64)    بزيع،شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج2/ص468.
(65)    شرتح، عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص17.
(66)    ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص202.
(67)    شرتح، عصام،2012- حوار مع شوقي بزيع،ص16.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

986 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع