بقلم/ حامد خيري الحيدر
أرض السنابل/قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
مثل حمامة حانية انحنت على الجسد المُسجى الملفوف بالقماش العتيق، محاطة ببكاء النسوة وصراخهن الذي ملأ فناء البيت، وبأيادٍ نحيلة مرتجفة كشفت عن وجهه... أنه هو، أجل أنه هو، أخيراً تراه بعد كل تلك السنين.. لم يتغير منه شيء سوى لونه الأبيض الباهت الذي يوحي ببراءة الموتى وخلو أياديهم من نفايات الدنيا.. ها هو أخيراً يعود اليها منذ أن فارقها يوماً ليمتطي ريح الجنوب.. (أنا راحل يا أماه... سألتحق بسرب النسور الحالمة بالحرية)... هكذا قالها بهدوء ثم رحل... لازالت تذكر بريق عينيه الممتلئتين بالتحدي وحب سومر.. لم يترك خلفه سوى نظراتٍ وحسراتٍ لأمٍ حزينة أودعت روحها لكف الأقدار مع رشقة ماءٍ نثرتها وراء دربه الطويل، ودقات قلب سريعة لحبيبة خائفة منحت حبيبها لمخالب المجهول..... أمسكت براحتيها ذلك الوجه الذي لم يفقد بريق شبابه رغم قسوة الموت، راحت تتأمله بعينيها المُبيضتين.. (أحقاً أنه نفس الطفل البريء الذي كان يلهو يوماً مثل فراشات الحقول وعصافير الربيع؟).. برفق أخذت تهزه كمن تحاول ايقاظه من نوم عميق كما اعتادت دوماً أن تفعل، لتتفتح عيناه على نور الصباح ووجه أمه الذي اختطت عليه الأيام تجاعيداً عميقة أصبحت سواقياً لجريان الدموع على مدى طول الصبر والفراق... (أنهض يا حبيب النجوم... أنهض يا شدة الياسمين وضياء القمر..... ضفة الفرات تناديك.. موسيقى سومر تحّن لصوتك العذب.. حبيبتك الجميلة تنطرك لتزف اليك).. لم يرد عليها سوى السكون.. ثم تحول هز جسده الى حركة هستيرية بعيدة عن الشعور.. دون جدوى.. الصمت هو الصمت، الموت هو الموت، صلب، قاسٍ، قاضٍ غير عادل.. كلمته واحدة وحكمه واحد، لا يعرف محبة أو حنين...... (من يموت من أجل سومر يصبح حبة قمح، تغدو سنبلة تزهو بها الأرض القاحلة). هكذا أجابت سؤاله بعد قدوم أبيه محمولاً على أجنحة النوارس.. حينها لم تذرف دمعة واحدة رغم قلبها الدامي بهول الفاجعة... رددت ذات الكلام مع عودة أخيها عائماً على أشعة الشمس... ليبادرها ببراءة قلوب الأطفال (ستمتلئ الأرض بحبات القمح... فمتى نرى السنابل؟).... (أجل متى نرى تلك السنابل؟).. ها هي اليوم بعد أن أكتمل لديها ذلك الثالوث الأليم تعيد نفس السؤال الصعب الذي لم يعد أحداً في سومر يمتلك الاجابة عليه.
سار موكب الموت بطيئا رتيباً بين طرقات المدينة المتهاوية حاملاً حزمة قصبٍ احتضنت جسداً كان يوماً ينبض حياةً وأملاً بسعادة شعب سومر، يدور حوله العويل بتناغم موسيقي غريب ينم عن تعود واحترافية، مصحوباً بلطم الصدور ونثر التراب على الرؤوس، باتجاه أرض كئيبة غدت متخومة من كثرة ابتلاع أجساد البشر مع مرور الأيام وسيول الجنائز.... تلاصقت شواهد القبور مع بعضها لضيق المكان لتغدو غابة من غابات الجحيم، وتشابهت حتى لم يعد يُستدل على قاطنيها.. انتشرت النسوة المكللات بالسواد بين تلك الحفر اللعينة التي سلب ظلام قعرها الأحبة ورفاق الدرب، باكيات صارخات يندبن راحليهن، يرافق بعضهن كهَنة متزلفون، بلحايا طويلة يقتادون من الافتاء بمواعظ الموت والحياة..... ورويداً رويداً أنزل أبن سومر الى تلك الهوة السحيقة التي ليس لها قرار، ثم بهدوء أهالت عليه الأكف قبضات التراب، لتغلق أمامه نافذة الحياة الى الأبد..... تبعثر المُشيعون، واحداً تلو الآخر دون مبالاة بعد أن سلموا من جمعهم الى شياطين الموت ليكملوا دورة حياتهم وانتظار مصائرهم، غير مكترثين بأمٍ ثكلى أرتمت على تلك البقعة التي سرقت منها وحيدها وكل ما جنته من متاع هذه الدنيا، محتضنة اياها لا تريد مفارقة من كان يوماً قطعة من أحشائها.
لم تدري كم مضى عليها من الوقت، لعلها كانت ميتة هي الأخرى.. ربما سافرت في رحلة لعالم الموت، لتطمئن على من فارقها في سفرته الأبدية، أو في محاولة يائسة أخيرة منها لأطلاق أموات سومر من محشرهم الخانق، كما سعت قبلها عشتار.... مع غروب الشمس، وبعد أن يأست من استرجاع روحها الثانية، تركت القبر بأيادٍ وثياب مُعفرة، سارت متثاقلة مبتعدة عنه شيئاً فشيئاً ملتفته اليه مع كل خطوة تبعدها عنه، غدت وحيدة بعد أن خلى موطن الموتى من رواده، ألا من مُغني مَنسي ضيعه فراق الراحلين وغدر الزمان ظل جالساً عند أحد الشواهد.. غير عابئ بقدوم عتمة الليل التي أخذت تزحف بهدوء نحو القبور لتبتلعها الواحد تلو الآخر.. محتضناً بحنو قيثاراً قديماً، تداعب أنامله برفق أوتاره المهترئة، راح يردد بصوتٍ خافت مبحوح مخافة أن يزعج أولئك المُتلحفين بالثرى أغنية قديمة لم يتبقى بين ثنايا ذاكرته سواها....
كًلكًامش لم يزل هائماً .. حائراً
يسعى وراء حلم بعيد يدعى الخلود
متى يعود الشريد .. متى يعود
شعبه مقهور اثخنته الجراح
يبحث عن شعاعٍ في ظلمة هذا الوجود
متى يعود له الأمل .. متى يعود
سومر زنبقة غضة بيضاء
اغتصبتها حراب الجنود
متى يعود ربيعها .. متى يعود
سمعت تلك الكلمات مع هروب آخر شعيراتٍ للضوء، ثم نظرت بذهول بعد أن استعادت شيئاً من وعيها الى الأرض المزروعة بحبات القمح والممتدة نحو الأفق كأنها تراها لأول مرة، ابتلعت شهقة عميقة، ثم أطلقت صرخة مدوية مزقت السكون (أما ارتويت دماً يا أرض سومر؟).
1073 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع