بقلم/ حامد خيري الحيدر
مثل وردة بيضاء جميلة استقبلت (أيراما) الصغيرة صباح يوم جديد من عمر حياتها الذي لا يتجاوز السبعة أعوام..... أدارت بصرها الى شعاع النور المار عبر نافذة الكوخ الطيني المتهاوي، والى باقي أرجائه الأخرى،
ثم ما لبثت أن أغمضت عينيها الناعستين مجدداً، داسّة رأسها تحت فرشتها البالية لتسرق بضعة دقائق أخر من متعة إغفاءة الصباح.. كان الخَدر قد كبّلها تماماً بعد أن أخذ دفئ الفراش الخشن المحشو بالتبن والحلفاء مأخذه منها، لكن سرعان ما تغلب نشاط طفولتها محرراً اياها من كسلها وخمولها.. تركت فراشها وعلى فاهها ابتسامة أعذب من نسيم الربيع لتسير متمايلة حيث تجلس أمها وحيدة في مكانها المعهود عند باب الكوخ، ساندة رأسها على أحدى راحتيها بعد أن اعتادت غياب الزوج الدائم وغدت لا تراه وأبنتها على امتداد الموسم الزراعي الطويل سوى أيام قلائل، يسرقها من مظلوميته وقهره ليجلب لعائلته الصغيرة ما تقتاد به وتسد به رمقها خلال مدة غيابه، والتي لا تتعدى اكيال محدودة من الشعير ومثلها من حبوب الذرة، لتتملكها الهموم وتسرقها الأفكار وما خلفه لها الزمن من ضنك العيش، رامية بصرها الى المجهول لأيام قادمة لا تعرف كيف ستطعم فيها أبنتها، بعد أن قاربت مؤونتهم الشحيحة على النفاذ... احتضنت بحنو جسد أبنتها النحيل الذي لا يكسوه سوى ثوب بال باهت اللون، مانحة اياها قبلة عطوف وابتسامة صغيرة لا تكاد تُرى، هي كل ما استطاعت انتزاعه من أوصاب قلبها وبؤس حالها.. أجلستها بجانبها ثم أخذت تُمسد شعرهما الناعم الفاحم.. كانت تتمنى أن تدهن شعر أبنتها بالزيت والعطر وتُزيّنه بالأطواق الجميلة وتُجمّل خصلاته بالخرز الملون كحال الصغيرات اللواتي في مثل عمرها، لكن امانيها كان يبددها دوماً واقعهم البائس... تناولت ساعد أبنتها النحيل، طالبة منها اغماض عينيها، ثم أخرجت بسرعة من جيبها سواراً منسوجاً من بقايا خيوط الصوف، زيّنت اطرافه ببضعة خرزات ملونة، عقدته على معصمهما.. ما أن رأته (أيراما) حتى أخذت تقفز فرحاً به، طابعة قبلات عديدة على وجه أمها الباسمة لنشوة أبنتها.. هذا ما وعدته به أمها أن تصنعه وتقدمه هدية لها مع قدوم الربيع وحلول السنة الجديدة... تناولت الصغيرة على عجل عدة لقيمات من بقايا رغيف شعير بائت، تمكنت من ابتلاعها بصعوبة بمعونة بضع رشفات من الماء، هو كل ما قُدّر للأم أن توفره فطوراً لأبنتها الغير مبالية بطعامها بعد أن أنستها فرحة سوارها كل شيء.
انطلقت (أيراما) مسرعة الى الخارج حيث زقاق البائسين في ضاحية المدينة، الذي رصّت على جانبيه بعشوائية أكواخ الفلاحين الأجراء المستضعفين والفقراء المُعدمين، ينتظروها هناك صديقاتها الحميمات (ياروما) و(أترايا) و(رادانا) المماثلات لها في العمر وخفة الروح.. لتريهن سوارها المتباهية به، محاولة أثارة الغيرة في نفوس رفيقاتها، قاصّة عليهن بفرح وبراءة ما حدّثتها أمها بشأنه، كيف أن الفتاة أذا وضعت هذا السوار في معصمها مع حلول الربيع فأن الإله (تُموز) سيحقق لها أمنيتها عند بعثه مجدداً الى عالم الأحياء... أخذ السوار لب (أيراما)، فكانت عيونها لا تفارقه حتى وهي في أوج متعة اللعب مع رفيقاتها، بعد أن استحوذت فكرة تحقيق أمنيتها على كل ما حواه عقلها البريء من خيال.... كان الزقاق بأكواخه المتهاوية هو المكان الوحيد المتاح للعب الأطفال، ليكون مرحهم الجميل هو من يمنح بؤسه شيئاً من علامات الحياة ويعطيه بهجة وأملاً جميلين.. فما أن يسفر الصباح عن وجه يوم جديد ،حتى يستقبل رواده الصغار التي تأخذ أصواتهم تعلو شيئاً فشيئاً كعصافير صغيرة تحررت من أقفاصها لتطير مُستمتعة بنعيم وجمال الحرية..... توالى لعب الصُحيبات كالقطط الصغيرة بين قفز وركض واستخباء، لا يعرفن من الحياة سوى فرحتها وضحكتها، غير مباليات بالعربات المارة عبر الزقاق.. بعضها كانت تحمل الفلاحين الأجراء المسحوقين بأجسادهم النحيلة التي مَسخها الفقر والعوز والفاقة، فبدوا كأعواد القصب وقد حشروا حشراً داخل العربات لتأخذهم مقادين كالعبيد الأذلاء الى الحقول البعيدة حيث يعملون لدى مُلاك الأراضي الأثرياء.. وعربات أخر كن يحملن أكياس شعير كبيرة يتوجهن بها الى المطاحن، يتراكض الأطفال خلفها محاولين جمع قدر ما يستطيعون من ما يتساقط منها على الأرض يذهبون به فرحين الى أمهاتهم.. لتمّر كذلك عربات بطيئة كسولة تنقل أصحاب الأراضي ومُلاكها، حيث تعاني حميرها الأمّرين وهي تجّرها بمشقة وصعوبة بسبب ثقل أجساد راكبيها الممتلئة وكروشهم المنتفخة، حيث بدوا لمن يراهم مثل الخنازير المتخمة الممددة في أوحال المستنقعات، وسط ضحكات واستهجان وتعليقات الأطفال الساخرة، ليرد عليهم هؤلاء بنظرات مسمومة كارهة، وابتسامات صفراء حاقدة، مكشرين فيها عن أسنانهم الكبيرة استحقاراً واشمئزازاً لهؤلاء البائسين الذين لا يمثلون لهم سوى مجموعة حشرات وديدان.
قطرات غيث أخذت تتساقط رويداً رويداً، ما لبثت أن اشتدت لتتحول الى رشقات قوية أنقعت أجساد الصغار اللاهين وسط الزقاق، جعلتهم يتراكضون في كل أتجاه بحثاً عن شجرة أو سقيفة يحتمون بها من نعمة الربيع.. ازدادت ابتسامة الصغيرات الأربعة أتساعاً من مكمنهن في أحدى الزوايا رغم ذلك.. أنه الربيع وعلامات قدوم (تُموز) قد أخذت تلوح، هو الآن في الطريق الى العالم ليملئه خيراً وخصباً وخضرة... أغمضت (أيراما) عينيها رافعة رأسها الى الأعلى، ثم تلمست سوارها مُتمتمة بصوت خافت لم يسمعه سواها أمنيتها الأثيرة التي تطلب من (تُموز) أن يحققها لها... أبرقت الدنيا ولمعت أعقبتها أصوات رعود هائلة هزّ صداها الأرض والأكواخ البائسة.. ليمضي الوقت أمام عيون الصغيرات وهن يتأملن بفرح غامر هطول المطر غير مباليات بارتجاف أجسادهن الغضّة بكسوتها الخفيفة البالية، أذ كانت دواخلهن قد ازدادت فرحاً مع تلك الرعود، كن يعرفن كحال من عاش بين الحقول وخبِر عطايا الطبيعة، بأن الأرض ستتشقق جرّاء تلك الأصوات كاشفة عن حبات نبات الكمأ المختبئة تحت التراب، وسوف يمارس الصغار هوايتهم ولعبتهم المفضلة بجمعها في البرية، حيث الهواء العليل والطبيعة الجميلة التي تشعرهم بالحرية وتبعدهم بضعة سويعات عن قيد البيوت... لتبيع عوائلهم ما يجمعوه فيما بعد في سوق المدينة مقابل أوزان صغيرة من الشعير.
ما أن هدأ روع السماء منهية سقوط أمطارها ومعلنة نفاذ خزين غمائمها، حتى تراكض صغار الحي من صبية وبنات الى أكواخهم، ليأتي كل منهم بعّدته البسيطة التي لا تتعدى عصاً صغيرة مَبرياً أحدى طرفيها كي يُنبَش بها الأرض، وكيس قماش صغير يُجمَع فيه ما يكتبه الحظ في العثور عليه، وقطعة خبز يُسَد بها الرمق ويُصّبر معها وحش الجوع خلال فترة البحث عن ذلك النبات الخجول.... أنتظر الصغار عند حافة الطريق الموحل المؤدي الى البرية الواسعة الممتدة نحو الأفق، يترقبون قدوم عربة العجوز الطيب (لاثيل) الذي أعتاد أيصال الأطفال بعربته عند نقله الحبوب الى المطحنة، يسلون دربه الطويل بأصواتهم وضحكاتهم البريئة مستمتعاً بقفشاتهم وعالمهم الجميل الساحر ورفقتهم الممتعة المرحة.... تعالت صيحات الصغار فرحاً بعد وصولهم الأرض المراح المعشوشبة التي صورتها الطبيعة بشكل بهي فاتن، فبدت كسجادة خضراء ملأتها أوراد البابونج البيضاء والخشخاش الحمراء، جاعلة الارض تفوح بروائح عطرية أخّاذة تُسكر النفوس وترطب الوجوه والقلوب المتعبة.. قفز الجميع بسرعة من العربة مودعين صديقهم العجوز الطيب الذي تمنى لهم أن تمتلئ أكياسهم بحبات الكمأ، على أن ينطروه في نفس المكان ليأخذهم معه بطريق عودته من مقصده عند انتهاء الظهيرة... تفرق الصغار المتحمسين، منتشرين في كل مكان مقسمين أنفسهم كما تعودوا الى مجموعات صغيرة للبحث عما جاءوا من أجله، واتخذت (أيراما) مع صويحباتها الثلاث من بقعة منعزلة كشأن الآخرين مكاناً لمتعة بحثهن.. تراقصت الصغيرات غبطة وهن ينظرن الى الأرض وقد ارتدت رداءها الخلاب.. أنه (تُموز)، أنه حقاً الان في الطريق اليهم.. تلمست (أيراما) مرة أخرى سوارها كأنها تريد تذكير الربيع بأمنيتها ليكون جمال الطبيعة شاهداً على تحقيقها.. كانت الأرض مليئة بالشقوق كاشفة عن كميات كبيرة من الكمأ، لتنهمك الصغيرات بنبشها واستخراج ما حوتها ثم جمعها في أكياسهن الصغيرة، احداهن توجه الأخرى وترشدها الى الأماكن المنتفخة والمتشققة من الأرض.. (هذه واحدة.... في ذلك الشق هناك الكثير).. (ربما في هذه الحفرة العميقة، حتماً أنها ممتلئة).. (لا أيتها البلهاء هذه حفرة جرذ، لقد رأيت مثلها بجانب كوخنا).... الأيادي تلطخت بالطين والأكياس أخذت تمتلئ شيئاً فشيئاً.. خطوات تسرق خطوات ودون شعور توغلت الصغيرات عميقاً في البرية.. أنساهن كرم الطبيعة الوقت وابعدهن عن طريق العربات، وأغوتهن الأرض بوفرة بما جئن ساعيات من أجله.
فجأة تغير الحال، ظلمة حالكة لفت المكان وابتلعت الأرض.. ضحكاتهن صمتت، أفواههن خَرُست، قلوبهن الصغيرة أعتصرها أحساس غريب جعلها تخفق بشدة، حَبسن أنفاسهن يترقبن نزوة الطبيعة هذه التي لم تكن على بال، عتمة المساء لم يحن وقتها بعد، ولم تكن غمامة عابرة حجبت ضوء النهار.. أصوات عواء يصل صداها السماء بددت السكون... تسمرت أطراف الصغيرات وتجمدت فلم يعدن يقوين على الحركة، أكياس تعبهن الممتلئة سقطت من أياديهن المرتجفة، (أيراما) تتلمس سوارها علّها تجد فيه عوناً... قطيع ذئاب هائج يعدو بجنون نحوهن.. لا يعرف من الطفولة سوى أجسادها الغضة التي أسالت لعاب أفواهها المفجوعة، بعد أن أثارت رائحة الحمائم الضعيفة المنكودة التواقة للفرح شهيتها وغريزتها المتعطشة للدم والموت، كأنهم شياطين من العالم الأسفل يسعون وراء ضحية مُبتلاة تكون بديلاً عن أنعتاق (تُموز)... أحاط القطيع بالصغيرات الباكيات المرتعدات من الهلع، كأنه فرقة جلادين تريد سوق مظلوماً للقصاص.. لم يكنّ يشاهدن من تلك الأفواه الكبيرة الكاسرة سوى نيوبها الحادة التي تقطر حقداً وشراسة، لا يضاهيها سوى قبح أفواه مُلاك الأراضي حين يختالون بابتساماتهم فرحاً وزهواً أمام قهر الفلاحين... لتحدث المجزرة... صرخات مخنوقة متتالية لم يتردد لها صدى سرعان ما خمدت.. المخالب القوية غُرست في الأجساد الرقيقة الناعمة، مزقّت اللحم وكسّرت العظام الطرية بيّسر واحترافية.. أصوات مضغ والتهام بشراهة.. عراك دموي بين المجرمين على توزيع حصصهم من الفرائس، قطعة لحم هنا أو بضعة أضلاع هناك.. لم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً بيد من أمتهن رسم خرائط الدم..... لينسل الجناة من المكان كما جاءوا من غير دعوة أو موعد بعد أن نالوا ثأرهم من البراءة وذبحوا قربانهم المسكين للعام الجديد، لتنجلي بعد تنفيذ الجريمة تلك الدهماء القاتمة التي لم تكن سوى عتمة شؤم جاءت من عالم الظلام كي تغشي العالم عما سيجري، متسترة على ما سينفذه القدر المشؤوم المتباهي بانتصاره الدائم على المستضعفين والمظلومين..... أمطرت السماء بغزارة ذارفة دموع زائفة على طفولة حزينة لم تستنشق في حياتها شيئاً من نسائم السعادة، ولم تعرف في سنوات عمرها المعدودات سوى الأماني، لتغرق رشقات المطر الارض كأنها تحاول اخفاء مسرح الجريمة وتغسل آثار فعلة الغدر النكراء بحق النقاء والجمال ولوحات الفرح.
عربة العجوز (لاثيل) تتهادى بطريق عودتها مع نهاية الظهيرة... الصغار الناطرين يقفزون اليها من كل جانب ومعهم أكياسهم التي تفوح برائحة الكمأ، كل يتفاخر بكمية ما جناه، يرافقها ابتسامات وتشجيع العجوز السعيد بغِبطتهم وضحكاتهم.... لكن لم يكتمل الصغار.. (ما هذا.. أين الصغيرات الأربعة، (أيراما) ورفيقاتها؟).. (لم يرهم أحد).. (كنّ يبحثن في الجانب الآخر من التل البعيد).... الوقت يمضي سريعاً والقلق أخذ يسري في جسد (لاثيل) الذي ائتمنته العوائل على صغارها... ترجل بهدوء من عربته طالباً من الصغار عدم تركها... سار مترنحاً بجسده الثقيل المُتعب باحثاً في هذا الاتجاه وذاك، متتبعاً بقايا آثار أقدام عند جانب الطريق وأخرى متوغلة في عمق البرية، حتى وصل مكان الفاجعة... راعته صورة المكان الذي لازالت تفوح منه رائحة الموت.. بقايا من أشلاء الصغيرات، وبقايا أثوابهن الممزقة الباهتة ملطخة بالدم والطين اختلطت بحبات الكمأة المبعثرة في كل مكان... أدرك العجوز المذهول تفاصيل المأساة وكل ما جرى.. ثم بعيون دامعة أنحنى على الأرض ليلتقط منها سواراً صغيراً منسوجاً من خيوط الصوف، مزين ببضعة خرزات ملونة، كانت قد أودعت فيه صاحبته أمنية صغيرة عسى أن يحققها لها (تُموز) مع حلول العام الجديد.
**************
*القصة تمثل حادثة واقعية جرت عام 1995 في أحدى القرى البائسة التابعة لقضاء الحويجة، كان الكاتب قد أطلع على تفاصيلها المأساوية خلال عمله الآثاري في تلك المنطقة آنذاك.
1043 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع