وقفة عند مساهمة العاهات والأمراض في حركة الإبداع الأدبي

                                    

                    عدنان عبد النبي البلداوي
 
انه لمن حكمة الخالق عز وجل أن يعطي ويمنع، وجعل مع عطائه ومنعه مايوجّه العباد صوب السلوك الحميد ، لكي لايتألم من منعه نعمة غيره ، ولكي لايركب الغرور صاحب النعمة ، سواء كانت النعمة علما او  مالا او جمالا ، فوجّه العليم الخبير قوله الكريم:

( ياأيها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم عسى ان يكونواخيرا منهم  ولانساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب يئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فاؤلئك هم الظالمون )
إن دراسة دخائل النفس لاتعني  تشخيص المرض لدى المبدع من اجل التحليل النفسي ذاته ، وانما هي وسيلة لفهم طبيعة المنابع التي فاض النص الأدبي عنها ، لذا رأينا من الأفضل ان لانقذف الشاعر بعيب نفسي او مرض عضوي قاصدين به حياة الشاعر كلها بما فيها من فن ومواقف ايجابية إن وجدت ، لأن سيرة الشاعر وما فيها من محاسن ومعايب شئ ، وفنه الأدبي شئ آخر ، وإن تركت شخصية الشاعر في ذلك الفن بعض البصمات ، إذ لايمكن لناقد منصف ان يتخذ الجزء المعيب صفة يضفيها على الكل .
وفي ضوء ذلك:هل وظف بعض الشعراء طموحهم لمعالجة وتغطية عاهاتهم.؟
لاشك في ان الطموح حق مشروع يمارسه من يجد في نفسه الدوافع والمؤهلات للوصول الى هدف معين يبعث في النفس الرضا والأمل والاطمئنان ، ويؤكد في الجو الاجتماعي إمكانية إثبات الذات وتمييز القدرات .. ومهما يكن من أمر فان لدوافع الطموح أثرا فاعلا في معالجة وتحسين كثير من الحالات النفسية ..
صحيح ان للعاهة مساهمة ملحوظة في إثارة ذلك ، او التمهيد لإحداثه ، ولكن الذي يحدد نسبة ذلك الطموح هو نوع تلك العاهة ومدى نصيبها المعيب في نظر المحيطين بصاحبها ، واذا كانت العاهة احدى العوامل التي تقف  وراء الطموح والتفوق ، فهل أفصح بعض الشعراء عن ذلك ..؟
ان كثيرا من الدارسين من يقف وقفة إكبار وإعجاب أمام عشرات النصوص الأدبية المتنوعة ، وعندما يتابع أصولها يجد نسبة كبيرة منها تعود الى شعراء ذوي عاهات مختلفة  لازمتهم  مدة حياتهم فأثرت وغيّرت  وأخذت وأعطت ، حتى أصبحت قصائدهم ذات طعم خاص ونكهة مميزة ، لأن القصيدة (ذات القوة الأصيلة هي التي تمنحنا اكبر مقدار من اللذة حينما نعود الى قراءتها ..) ولعل إعجابنا بمضمون تلك القصائد يقودنا الى ان نتصور الشاعر نفسه وإن لم نره شاعرا جميلا جمال صوره الشعرية وصافيا صفاء عاطفته رغم ما يحمله من تشويه في مظهره . فهناك من لقب بالأعشى مثلا وهي صفة العين العاجزة عن أداء مهامها وهناك صفة القصر وصفة البرص ،ومن لقب بالوطواط لأنه كان حقير الجثة الى غير ذلك من العاهات الجسمية الظاهرة. اما الذين وقعوا أسرى أمراضهم النفسية والجنسية فماذا عنهم ..؟
مهما يكن من أمر فإن ذا العاهة النفسية غير الظاهرة تكون معاناته شديدة ، لانه كما يرى علماء النفس يتعلق تعلقا شديدا بالأشياء التي تجرح شعوره فيفكر فيها طويلا  ويفسرها دائما ضد نفسه ، لذا فهو يبحث دائما عن متنفس ووسيلة لسد ذلك النقص.. فهل أفصح هذا النمط من الشعراء عن أمراضهم هذه بصورة مباشرة ..؟
ان من يتوغل في نتاج وسيرة بعض المشهورين من الشعراء ذوي الأمراض النفسية والجنسية  يجد انهم يقفون ويؤكدون بالرمز او الإشارة الى ناحية معينة اوغرض معين او حالة ما في قصائدهم ، مما ينبئ بان وراء ذلك سببا او دافعا نفسيا يعيش بيت الكلمات والسطور ، لان الدافع الى الاهتمام بجانب معين او حالة خاصة يعني ان الشاعر بحاجة الى التعويض عن شئ ما يعاني منه ويشغل باله ، فهو كلما زاد من التعويض بتلك الوسيلة او بغيرها  حصل على متعة واطمئنان أكثر .
لقد رافقت العاهات الجسمية والنفسية طائفة من المبدعين في كل ارجاء العالم قديما وحديثا ، فما نبز به كاتب او شاعر من الشرق ، فهناك في الغرب ممن نبز بعيب او عيوب اسهمت من قريب او بعيد في حركة الابداع ، فهذا على سبيل المثال مؤلف كتاب ( الأبطال) وكتاب الثورة الفرنسية الكاتب (كارليل) كان مصابا بالقرحة والعجز الجنسي ورغم ذلك لم تهجره زوجته ، وهذا بيرون كان أعرجا وقد عيرته أمه بذلك في لحظة غابت فيها عن وجدان الأمومة ، فقال لها وهو يتمزق : أمي انا ولدت أعرج ..!  ورغم ذلك فقد رصد بيرون حياته على جمال الفن في الشعر الانكليزي ، وكانت نظرية التطور إحدى ثمار الأرق الذي كان يلاحق داروين العالم الانكليزي الذي كان يقضي وقته مع الكلاب وفي صيد الفئران مضطربا قلقا حتى ان والده قال له وكان صغيرا : ان وجودك عار على أسرتك وعلى نفسك .  هذا الى غير ذلك من الصفات المتعلقة بالعاهات والأمراض التي تحتاج الى مؤلف قائم بذاته اذا جمعت فيه عاهات شعراء العرب والأجانب .وان ما ذكرناهم على سبيل المثال لاالحصر قد عاشوا في حالة اضطراب ومعاناة بسبب أمراضهم وعاهاتهم ، فماذا عن المبدعين الذين سلموا من عيب او عاهة... هل يجب ان يمرضوا اويضطربوا لكي يبدعوا ..؟
لقد ذهب بعض الكتاب المعاصرين الى ان كل من يضطرب يبدع ، ولاشك في ان هذا المفهوم يفتقر الى الموضوعية ، لأنه يعني ان كل الناس يمكن ان يبدعوا اذا حصل الاضطراب لكل واحد منهم ..
صحيح ان للاضطراب مساهمة فاعلة في مجال الإبداع  ولكنها مساهمة تكاد تنحصر في كونها اثارة او تمهيدا لمستلزمات الابداع ، وليس في خلقه او إيجاده ، لأن المضطرب لايمكن ان يبدع مالم تكن لديه موهبة وثقافة  ولو اضطرب الدهر كله ، اما الذين ذهبوا الى ان المرض ضروري لكل شاعر وكاتب لكي يبدع ، فهو رأي يحتاج الى كثير من الدقة في التعبير ايضا ،لأن الشاعر او الكاتب السليم المعافى من كل مرض او عاهة وهو مبدع في الوقت نفسه لايمكن ان يخلق لنفسه مرضا وداء .
 فأي دافع اذن يحل محل المرض الحقيقي ليقف وراء إبداع ذلك الشاعر السليم ..؟
ان امتداد ذات الشاعر الى الوسط الاجتماعي امتدادا دائما يصاحبه إمتداد ذلك الوسط الى الذات ايضا ، عملية تحتاج من الشاعر الموهوب الذي لايعاني من عاهة الى تعزيز ثقافته تعزيزا يرافقه رصيد كاف من اللغة ، على ان يصاحب ذلك كله شعور ذاتي مستمر ،يوحي الى ذلك الشاعر ان وسطه الاجتماعي يطلب منه المزيد من الإبداع ، أي انه وإن قدّم نتاجا خصبا ، يجب عليه ان يبقى في حالة عدم الرضا عن نفسه ، وهذه الحالة تشابه في أجوائها  حالة المعاناة لدى الشاعر ذي العاهة او المرض ، فمجرد تفكير بعض الشعراء القدامى مثلا في حب ولاية او انتظار ضيعة من خليفة اوهدية من أمير  هو في حدّ ذاته انشغال ذهني  يرافقه أرق الأماني او الخوف من اليأس ، وهذا يعني ان القلق ضروري حتى للسالمين الأصحاء على ان لايكون فائضا عن حده ،لانه من العوامل المساهمة في إبقاء الإنسان على تماس مع واقع الحياة ، وقد قيل أن أقل الناس قلقا هم اقلهم نجاحا في انجاز مهام الحياة.
وختاما نقف وقفة إكبار وإعجاب أمام الذين تحدّوا عاهاتهم وأمراضهم ووظفوا مواهبهم في زحمة الصراع النفسي بغية الوقوف فوق القمم الأدبية الشماء ، وهم ليسوا الآن إلا أجساما نضرة ووجوها وسيمة ترتسم أمامنا كلما عدنا الى ما خلفوه من روائع الشاعرية الفذة والرصانة النثرية المتألقة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1273 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع