أ.د. ضياء نافع
يصيغ دستويفسكي اسم بطل روايته- ( الجريمة والعقاب ) من المفردة الروسية – ( روسكول ) ومعناها – انشقاق , والفعل هو شق/ فلق/ فلع / تصدع,
و تعني المفردة هذه تاريخيا ايضا انشقاق ديني حدث في الكنيسة الروسية في القرن السابع عشر, والصفة من هذه المفردة هي – انشقاقي, انتهازي. يفهم القارئ الروسي ذلك رأسا بالطبع, اما القارئ غير الروسي فانه لا يستوعب – للوهلة الاولى- تلك الصفة التي اطلقها دستويفسكي على بطله. وهكذا نرى هذا البطل الذي يحمل اسم راسكولنكوف في وضع فلسفي معقد تماما. البطل ال( راسكولنكوفي) هذا لا يعرف كيف يتصرف بين ايمانه المطلق بافكاره التي ادت به الى تنفيذ جريمته, وبين الخلاص من ذلك الضغط الهائل والفظيع, الذي يشكله تسلط الافكار على الانسان لدرجة لا يستطيع معها التحرر من تلك السيطرة . لقد عانى دستويفسكي نفسه من هذا الضغط الفكري , عندما كان في شبابه عضوا في خلية اشتراكية تؤمن بالاشتراكية الطوباوية, وهي خلية بيتروشيفسكي, التي تنطلق من افكار سان سيمون الاشتراكي الفرنسي الطوباوي, والتي تدعو الى التغيير القسري للمجتمع باسم تحقيق العدالة المطلقة على الارض. وهكذا هو حال راسكولنكوف, الذي يؤمن بالنظرية الفكرية التي تبرر كل شئ من اجل المثل العليا للمجتمع, والذي اصبح (كما هو حال دستويفسكي) ضحية لايمانه بتلك الافكار.ولهذا ليس من الصحيح بتاتا الفصل بين مؤلف رواية – الجريمة والعقاب دستويفسكي وبين بطل روايته راسكولنكوف.
يقارن بطل الرواية نفسه بنابليون, اي انه يضع نفسه اعلى من البشر جميعا, وهكذا يتصرف وينفذ جريمته من هذا المنطلق,ولكن دستويفسكي كان آنذاك رجلا متدينا بعمق, وبالتالي, فان جوهر الحياة الانسانية بالنسبة له تكمن في تطبيق المثل الدينية والتي تؤكد على النقاء الروحي والحب المطلق للرب ولكل البشر الذين خلقهم ,ولهذا فان جريمة القتل التي ارتكبها راسكولنكوف هي خرق هائل ورهيب للقيم الاخلاقية الدينية التي يؤمن بها دستويفسكي,اي ان هذه الجريمة قبل كل شئ جريمة اخلاقية قبل ان تكون جريمة يعاقب عليها القانون, جريمة يعاقب عليها الرب وتعاليمه الاخلاقية قبل ان يعاقب عليها القانون الوضعي للبشر,لانها تجسد قبل كل شئ خرقا للتعاليم السماوية كلها, والتي تمنع مبدأ قتل النفس الانسانية.
ويذهب راسكولنكوف ابعد من ذلك , اذ انه يبدأ بالافتخار بجريمته, ويبرر احتقاره للناس انطلاقا من ايمانه ب ( تنقية المجتمع الانساني ) من تلك العناصر بواسطة قتلهم وتدميرهم . ان قتل العجوز المرابية بالنسبة له ليس سوى تطبيقا عمليا للنظرية الكارثية التي يؤمن بها .
يطرح دستويفسكي في روايته هذه فكرته الاساسية والرئيسية والتي تكمن ببساطة في ان الانسان لا يمكن ان يعلو فوق ارادة الرب مهما بلغ من علو وسمو بين البشر, ولا يتحدث دستويفسكي عن ذلك الطرح الفلسفي العميق بشكل مباشر وبطريقة القاء الوعظ, وانما عن طريق الغور في اعماق راسكولنكوف وافكاره, وصولا الى التفاصيل الصغيرة جدا,ويعرض كيف انه , انطلاقا من شعار ( الغاية تبرر الواسطة ) يرى ان قتل العجوز هو عمل يهدف الى اهداف سامية ونبيلة, وهي تخليص الكثيرين من المدينين لها من عذاباتهم ومعاناتهم, وان العجوز المرابية تلك هي انسان مقرف ولا يحتاجها احد,وان هذا على ما يبدو لراسكولنكوف يكفي لتبرير قتلها, وبما انه انسان يقف اعلى من الاخرين, وانه اعظم من الاخرين, فانه يمتلك الحق ان يحدد قوانين المجتمع , التي تبدو له غير عادلة, وبالتالي, فانه يملك الحق بتخليص المجتمع من تلك العناصر, اي قتلهم.
دستويفسكي لا يتفق بالطبع مع هذه الافكار, ومع ذلك فانه يتحدث عنها بقوة وموضوعية كما يراها بطل روايته,ويبدأ بالتدريج بعرضها وتحليلها ويجعلها تصطدم بالواقع الانساني, ولهذا فانه خصص الجزء الاول من الرواية للجريمة اما بقية الاجزاء الاخرى فتناول فيها قضية العقاب, لان تنفيذ الجريمة اسهل كثيرا من تبريرها امام المجتمع, والقاعدة معروفة طبعا, فالتدمير دائما اسهل من البناء.
من الضروري التوقف هنا عند مسألة مهمة جدا وهي خصائص راسكولنكوف وطبيعته التي اضفاها دستويفسكي عليه,اذ انه انسان طيب ورقيق وحساس جدا, لكن عمله ذاك لا ينطلق من تلك الصفات والخواص وانما من نظريته غير الانسانية التي كان يؤمن بها بشكل مطلق,والتي كان عبدا لها ليس الا. ولهذا , فان العقاب كان صعبا جدا له. انه لشئ رهيب جدا لتلك الروح الرقيقة المجروحة ان يشعر بانه , كما عبٌر هو نفسه (مقطوع بالسكين )عن الناس, وحتى عن هؤلاء القريبين منه والمحبين له.
كيف يمكن لانسان مثل راسكولنكوف ان يصل الى قناعة بخطأ نظريته؟ والجواب عن هذا السؤال واضح- هكذا , مثل دستويفسكي نفسه, اي عبر طريق المعاناة والعذابات , ومن ثمٌ – العودة الى الايمان. يقول المحقق في الرواية جملة اصبحت شهيرة وهي – المعاناة شئ عظيم.وهذا ما اراد دستويفسكي ان يقوله لنا, وهو ان الانسان يستطيع ان يصبح نقيا وطاهرا بواسطة المعاناة, ولهذا أجبر الكاتب بطله في البداية ان يتخطى المفاهيم الدينية وتعاليمها , ويتصرف وفق افكار يؤمن بها بشكل مطلق , وبعدئذ يبدأ بالشعور بالذنب, ومن جديد يعود – وبالتدريج – الى منابع تلك الافكار الاخلاقية السماوية, ولا يستخدم دستويفسكي مبدأ القسوة تجاه بطله من اجل اجباره على تلك العودة, ولكنه يجعله يتعذب عذابا هائلا, ويصل نتيجة هذا العذاب وهذه المعاناة الى انبعاث شعور العودة الى الحياة الانسانية الحقيقية. ان ارادة دستويفسكي الفلسفية وافكاره الانسانية في رواية ( الجريمة والعقاب ) تعبر عنها بلا ادنى شك البطلة سونيا مارميلادفا, اذ يجعلها الكاتب تجسد مفهوم الخشوع والتضحية بالنفس , والتي كان دستويفسكي يؤمن بها. لم تكن سونيا تنطلق بتاتا من النظريات ولا من الافكار ولا من الخلاصات العقلانية والمنطقية, وانما كانت تنطلق فقط من الحب والايمان العميق تجاه الاخرين, وبالذات تجاه الاقربين من الناس. لقد كانت تحمل في اعماقها – ومنذ البداية – تلك الحقيقة الساطعة, التي يصل اليها راسكولنكوف بعد معاناة رهيبة وطويلة جدا. ان كل ما تقوله سونيا لراسكولنكوف في الواقع هو ما كان يريد ان يقوله دستويفسكي نفسه, اي ان الكاتب كان واقعيا وبشكل دائم موجودا جنبا لجنب مع بطله راسكولنكوف , ولكنه كان موضوعيا ومنطقيا وعادلا,لهذا فانه لم يتدخل بشكل مباشر بمصيره ولم يحاول ان يخفف من معاناته, لانه اراد ان يبرهن – وهذا مهم جدا بالنسبة له – ان راسكولنكوف وصل بنفسه وبقناعته الى هذه النتيجة وفهم واستوعب خطأ نظريته وتوهماته الفكرية, وانه بدأ يصدق ويتقبل كل هذه الاستنتاجات, اما سونيا فانها كانت تعاونه على استيعاب ذلك عن طريق سموها الروحي وطيبتها الصادقة المطلقة , وبالطبع عن طريق حبها له. كل هذه العوامل والعناصر عرضها دستويفسكي بمنطقية رائعة, وهي التي ادٌت الى اقتناع راسكولنكوف ( والقارئ بالتالي ) الى ان طريق الانبعاث الروحي الذي وصل اليه راسكولنكوف كان طريقا صحيحا وصائبا, وعندما يفتتح دستويفسكي امام بطله الطريق نحو الحياة الجديدة والحقيقية , فانه يؤكد نظرته الفكرية والتي تبين ان الوصول الى ذلك يجب ان يمر عبر مسيرة الالآم الرهيبة والمعاناة القاسية.
لماذا تبدو لنا الرواية بهذا الشكل المدهش والرائع, ولماذا نتعاطف معها ؟ الجواب ببساطة – لأن الكاتب كان الى جانب الحقيقة الحياتية, ولانه كان ينطلق من حبه لراسكولنكوف, الذي يجسد افكاره ويعبر عنها.لقد وصف دستويفسكي لنا كل طريقه في الحياة, وكيف كان يعاني من ضغط الافكار عليه وعبوديته لها, وكيف تحرر من هذه العبودية, وكيف وصل الى الحب والطمأنينة الروحية عبر الاعتراف بذنبه رغم كل المعاناة والعذابات.
1369 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع