بدري نوئيل يوسف
في الشتاء يجتمع الرجال في المضيف أو ديوان شيخ القبيلة، أو في حجرة واسعة طويلة في بيت احد الموسرين تسمى الديوانية، أما في الصيف يجتمعون في الحوش(الفناء) الخارجي لأحد البيوت بعد الاتفاق بين رجال المحلة،
ويختارون البيت المناسب حتى يلتفوا حول الحكواتي ليستمعوا للحكاية، وتفرش البسط والسجاد ويضع في الوسط منقلة الفحم وفوقها دالات القهوة، وفي بعش الاحيان يجتمع الرجال في احدى الحارات بعد أن تنظف وترش بالماء كي تبرد، ويجلس الرجال متقابلين ، أما في المدن الكبيرة هناك مقاهِ خاصة لسماع القصص التراثية أو الشعبية، التي يرويها الحكواتي أو الراوي الذي يجلس فوق كرسي اعلى من بقية الكراسي، وإذا جلس الرجال فوق البسط فيكون له مقعد خاص بارتفاع مناسب، والحكواتي شخص امتهن سرد القصص في المنازل والمحال والمقاهي والطرقات، ويحتشد حوله الناس ولا يكتفي بسرد أحداث القصة، ولكنه يتفاعل مع احداث القصة ويشد جمهوره حوله، وما يزيد في الحماسة والتشويق أن الحكواتي كان يقوم بتجسيد شخصيات روايته وكلامهم بتحريك يديه وتغير نبرة صوته أو تضخيمه، في الغالب يصطحب الحكواتي معه كتاب مستعيناً به بشكل دائم مدون فيه الحكايات، غالباً ما يكون سرد الرواية أو الحكاية عن شخصية تاريخية، وفي نهاية كل حكاية لا بد أن ينتصر الخير وتدور جميع الحكايات عن البطولة والشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم الذي يمثله بطل الرواية.
اذا طالت الحكاية لليالي وأيام، فالحكواتي كان يحرص على أن تنتهي أحداث القصة كل ليلة بموقف متأزم، والبطل في مأزق حتى يحمّس المستمعون ويجعلهم متشوقين لسماع بقية الأحداث، يقال أنه وصل الأمر مرة إلى درجة أن أحد المستمعين لم يستطع أن يصبر إلى اليوم التالي فلحق بالحكواتي إلى بيته ليعرف بقية القصة، والمفارقة في الأمر أن بعض المستمعين كانوا يرفضون الذهاب إلى بيوتهم قبل أن يستمعوا إلى بقية القصة ويطمئنوا إلى أن بطل الحكاية اجتاز محنته، وكيف سيخلص البطل نفسه من المأزق، وأسلوب الحكواتي وطريقة حكايتها يجعل جمهوره في تشوق دائم لمعرفة وقائع القصة أولاً بأول.
أما أجرة الحكواتي فكان يتقاضاها من صاحب المقهى الذي يتولى تحديد بدل الدخول إلى مقهاه بما في ذلك المشروبات ، فكان الزبون يدفع عشر بارات أي ربع قرش مقابل الاستماع إلى الحكواتي وثمن المشروبات، أو يدفع خمس بارات مقابل أي منهما، ويتواصل عمله على مدار السنة، وأكثر الحكايات كانت قصة عنترة والسيرة الهلالية وألف ليلة وليلة، اما الحكايات الشعبية فكان لها أسلوب اجتماعي هدفه الإصلاح والتقويم والتوجيه في مجال الحياة العامة، نجد في الحكاية النقد اللاذع والسخرية المرة والنادرة، كما نجد فيها العبرة الرادعة والإقناع بحقيقة الواقع الأليم، انتهت مهنة أو حرفة الحكواتي بانتفاء الحاجة إليها كانت وسيلة تسلية جماعية وفي الوقت نفسه وسيلة تثقيف وترسيخ للقيم والأخلاق التي يتحلى بها أبطال القصص والروايات التي كان يسردها الحكواتي، ونسبة عالية من الحكايات والقصص غير واقعية .
الحكاية ادناه تشمل جوانب البيئة المختلفة في اسلوب التواصل والتعامل بين الآباء والأبناء، وما له علاقة بالنصيحة والتربية وحياة الافراد الواضحة والمستورة، بهذا التفاعل بين الحكاية الشعبية والبيئة أصبحت الحكاية الشعبية وعاء لكثير من احداث التاريخ، وتصويراً شعبياً لهذا التاريخ على صدر الإحساس الشعبي العميق لهذه الوقائع.
الحكاية تقول: حكاية يرددها الكبار امام الصغار وبخاصة الشباب، ليمنعوهم عن الرذائل وفي مقدمتها القمار والزناة وشرب الخمر، فكانوا يرددون حكاية رجل نصح ابنه قبل أن يفارق هذا العالم بقوله: يا ابني وإذا اردت ان تزور بنات الهوى فلا تزورهن إلا في الصباح الباكر، وإذا احببت مقامرة الصهباء فلا تعاقرها وهي ام الكبائر، إلا اذا ترى شيخ السكرين بأم عينك، وإذا اردت لعب القمار فلا تلعب إلا بعد ان ترى رئيس المقامرين، توفى الوالد وحمل الى مثواه الاخير وبعد زمن هز الشوق العارم أبنه احدى بنات الهوى من الغانيات، فتذكر نصيحة والده وذهب اليها في الصباح الباكر، وكان معجبا بها وبجمالها فرآها قبيحة تشمئز النفس منها، لان زينتها وحسنها المجلوبان بالأصباغ يزولان في ذلك الحين، وفعل ذلك مع غيرها وغيرها فلقى نفس النتيجة ذاتها، فعافت نفسه منهن وابتعد عنهن الى الابد، وبعد أيام حن الى القمار فتذكر نصيحة والده، فذهب يفتش عن رئيس المقامرين فدلوه عليه، فإذا به يقيم في كرخان، فدخل عليه فوجده في حاله يرثى لها، إذ وجده مصفر قد امتصه الجوع ولم يترك فيه ألا جلدا تتقزز منه رؤيته العين، يضم عظامه النخرة كما وجده لا يرتدي إلا ثيابا بالية ممزقة، لو اعترضه في الطريق شخص يبتعد عنه لئلا يلمسه فتتسخ يداه أو ثيابه منه، فارتد اليه عقله وندم على محاولته وترك التفكير في لعب القمار، ثم بعد حين عاوده الشوق الى ابنة العنقود إذ خيل اليه أنها ستنقله الى عالم مجنح بالأحلام الزاهية، فيحيا ساعات في سعادة ومرح وينفض عنه هموم الدنيا، فقصد شيخ السكرين كما نصحه والده، فوجده في حاله يرثى لها من الضعف وانهيار القوى، يسير في الطريق والأطفال يتبعونه بالصراخ ويرمونه بالحجارة، وهو كالأبله لا يعي ولا يفقه شيئا، فلما رأى ما رأى انثنى الى داره وحمد لوالده نصائحه وعاش مستقيما في حياته فأصابه النجاح والفلاح .
هذه الحكاية الشعبية تعدّ جزءاً لتفاعلات الناس مع ظروف الحياة التي يعيشها الإنسان وإحدى الدعائم المهمة في صقل شخصية الشاب، وتهدف إلى قيمة اخلاقية يتم غرسها في نفوس الأبناء، حتى يعدوا منهم رجالا قادرون على تحمل المسؤولية ومجابهة ظروف الحياة المتغيرة، يعتمد عليهم في بناء الأسرة المستقبلية، ضمن التحديات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة.
نلتقي في الاسبوع القادم وحكاية جديدة .
4795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع