الاستاذ فؤاد يوسف قزانجي
ديلمون او تلمون ، اسم سومري او رافديني قديم يعود الى النصف الثاني من الالف الثالث قبل الميلاد، ارضا كانت متصلة بارض البحر الذي كانت جزءا من بلاد الرافدين اي العراق القديم . اما الاراضي الاخرى المتصلة بديلمون فقد سماها اهلها بعد ذلك ( اكاروا) وهي جزيرة التي اطلق عليها الاغريق( ايكاروس) عندما عادوا بعد استيلائهم على افغانستان والهند بالاضافة الى فارس في القرن الرابع ق.م. ، وحاليا تسمى فيلكة ، كما كانت تتصل بديلمون ارض قطراي ( قطر) التي سكنها الاراميون والذين تحولوا في معظمهم الى المسيحية في القرن الثاني للميلاد . اما الاغريق فقد اسمو البحرين ومعها جزيرة القطيف بتيلوس وارادوس .
ديلمون ارضا بكرا استولى عليها السومريون ، فنقلوا اليها معالم الحضارة الاولى منذ منتصف الالف الثالث قبل الميلاد وسموها ديلمون وربما احيانا تلمون . انشأوا فيها مدينة باسم بار-بار الذي استدل عليها من اسم معبدها . وكانت مدينة مسورة مثل اوروك . وقد احرقت هذه المدينة بعد 500 سنة ثم اعيد بناؤها . وكان معبدها الرئيسي مبني على تلال المدينة .
كما استولى عليها سركون الاكدي (حوالي 2334-2279 ق.م.) وسماها (نيدوك-كي) . يبدو انها اصبحت بلدا تتجمع فيه تجارة الخليج وعمان التي كانت تسمة في العصور القديمة ملوخا ، كما امتدت تجارتها الى الهند (ماكان) : تلك التجارة التي كانت تتوجه الى وسط و شمال شرقي بلاد الرافدين وحتى البحر الاعلى ،اي المتوسط .عثر في آثارها على عشرات الرقم الطينية بالخط السومري الاسفيني ،ومئات الاختام الاسطوانية التي كان يستخدمها التجار للتوقيع على المعاملات التجارية، كما كان يفعل السومريون في بلاد الرافدين . كما وجد فيها مقبرة كبيرة باسم (عالي) .
في الاسطر الاخيرة من اسطورة الطوفان الرافدينية، والتي تشير الى ان زيوسودرا اي نوح الرافديني ،الذي انتقل الى دلمون اثناء الطوفان والتي وصفت بالمكان الذي تشرق الشمس منه . وهكذا في ديلمون ظهرت اسطورة الجنة السومرية :
” ان ديلمون ارض نقية ونظيفة ومشرقة ، اذ انها ارض الحياة التي لا تعرف المرض ولا الموت .
لكنها كانت تفتقر الى المياه العذبة اللازمة للحياة . (لابد ذلك حصل قبل حفر الابار ) ولذلك امر اله الماء السومري العظيم (انكي) واله الشمس (اوتو ) بملئها بالمياه العذبة النابعة من الارض . وهكذا تحولت ديلمون الى حديقة خضراء، عامرة بحقول الفاكهة والمروج . وهناك دلالة مقنعة على ان جنة عدن التي ذكرت في التوراة ايضا ربما تشير اليها، والتي وصفت من الناحية الشرقية لعدن والتي تنبع منها مياه انهار العالم الاربعة بما فيهما دكلاتو و يوفراتو ،اي دجلة والفرات بحسب اعتقادهم ،كما كانت مطابقة الى ديلمون الارض التي فيها الجنة .” (كريمر. السومريون :تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم : ص198 )
ويؤكد الباحث المتميز صموئيل نوح كريمر : انها ايضا ذات صلة بملحمة انكي وننخورساك، التي ارتبطت بجنة عدن ، و التي تؤكد ان سفن او قوارب دلمون كانت قد القت مراسيها قرب العاصمة اكد في وسط العراق القديم . كذلك تذكر في افتتاحية ملحمة (اينكي و ننخورساك ) : حيث توصف ديلمون بالارض المقدسة، أو العذراء و النقية . وبطلب من نينسكالا ابنة الالهة ننخورساك ،فان الاله انكي كان يوفر الى ديلمون المياه النقية مع انتاج وفير من المحاصيل . وبعد ذلك يجري اتحادا من غير زواج بين مجموعة من الالهة والالهات،ومن بينهم يولد (اله ديلمون) و اله ماكان ايضا .
وهكذا كان السومريون 3500-2000 قبل الميلاد ،في العراق القديم، اصحاب الحضارة الاولى في العالم ، وان ماحولهم من مدن ونشاط انساني جعلهم يصلون غربا الى شمال بلاد كنعان (سوريا) ، حيث اقاموا لهم بلدة تابعة الى حضارة اوروك تدعى اليوم اثارها (حبوبا كبيرا) . وقد تم الاستيلاء على ارض ديلمون من قبل ملك مملكة كيش السومرية : اي منذ زمن الملك اور-نانشة بين 2450-2420 ق.م. وعلى الارجح هم اللذين بنوا بلدة اومعبد بار-بار ، ومن بعدهم اجتاحها الاكديون ، وذلك لانها كانت بالنسبة الى اهالي بلاد الرافدين تعتبر : ارض الجنة .وربما كانوا ينقلون موتاهم ليد فنوها في ارض الجنة وهذا واضح في كثرة القبور والمدافن التي وجدت في آثارها، وكذلك في الرواية الاسطورية باسم الالهين : انكي وننخورساك التي تقول:
الارض (ديلمون) هي الموطن الطاهر ،
تلك الارض هي المكان النظيف ،
تلك الارض المشرقة ،
هو ذلك (الاله) الذي اضطجع فيها مع زوجته .
ذلك المكان النظيف والمشرق ،
في ديلمون لا ينعق الغراب الاسود ،
والحدأة لاتصرخ بصيحاتها ،
والاسد لا يفتك فيها،
والذئب لايفترس الحمل ،
والامرأة العجوز لا تشكو من الشيخوخة ،
والرجل الشيخ لا يتبرم من كبر سنه .
(الاساطير السومرية تاليف صموئيل نوح كريمر وترجمة يوسف داود عبد القادر ص85 )
اما اثار مدينة زارة في البحرين فقد كانت في القرن الثالث للميلاد مدينة مسيحية وحتى منتصف القرن السابع . وكانت مدينة مسورة ومحصنة ، مماجعلها تتحمل حصار المسلمين لها لمدة بضعة اشهر. وظلت قائمة حتى عام 273 ه، حينما احرقت ودمرت على اثر اتهام اهلها بالقرمطية ، وقد اهمل البحث عن اثارها المسيحية او القرمطية ، اثناء البناء فيها، ومع ذاك فقد عثر على افريز محفور بالكتابة الارامية ، وكانت نوعا من الخطوط الارامية المؤلفة من اثنين وعشرين حرفا.كما وجدت فيها عدة الواح من الحجر القبرية تشير الى مدافن شيوخ القبائل الارامية والعربية ، والتي اهملت وتبعثرت .
بقيت مظاهر حضارة دلمون مطمورة حتى بداية القرن العشرين ، حينما عثرت على اثارها، ذات العلاقة بالحضارة السومرية في العراق القديم بعثة اثارية دنيماركية ،بما فيها من مئات الاختام الاسطوانية التي ابتكرها السومريون بديلا عن التوقيع في المعاملات التجارية .
ان التنقيبات الحديثة في ارض ديلمون (البحرين) تشير ا ليها بانها من الجزر العالية التي كانت في الخليج، قد تكون تدريجيا قد اخذت المياه في الخليج تنسحب عنها، فبدأت تظهر في نهاية الالف الثالث او في بداية الالف الثاني قبل الميلاد ،معزولة عن بلاد الرافدين اي العراق القديم .
وبحسب ملحمة كلكامش التي كتبها سين ليقي اونيني في القرن الثاني عشر ق.م. فانه ومن خلال حديث جرى بين الالهة وبين زيوسودرا (نوح الرافديني) ،الذي يشير الى زيوسودرا بان عليه ان يذهب الى ديلمون حيث لن يموت مادام هو في ارض الامان والسلام . وكان من اهم الالهة في ديلمون هما الاله اينزاك والالهة ميسلاك ، وكذلك نجد ايضا الالهة شاربانيتو الديلمونية . اما نين-ديلمون اي سيدة ديلمون، فمن المحتمل انها وصفا اخرا لنفس الالهة . ووجد ايضا الهة تدعى لخامون، وصفت بانها شاربانيتو الديلمونية .وهناك الهة رافدينية وجدت اسمها في احد معابد ديلمون . وقد انقطعت العلاقة بين اور التي كانت اقرب الدويلات السومرية عن ديلمون، وذلك بعد سقوط السلالة الثالثة في اور. اما اهم الهة ديلمون ،فكانت اينزاك .
استولى سركون الاكدي على ارض ديلمون بعد ان اجتاح المدن السومرية ، في اواخر الالف الثاني قبل الميلاد . واصبحت بلاد الرافدين تحت سيطرة الاكديين لمدة اكثر من 70 سنة . ووصلها ايضا توسع الملك الاشوري توكولتي-ننورتا في اجتياحه الى بلاد بابل وارض البحر ، وسجل في نصوصه الملكية انه ملك اشور وديلمون وملوخا ايضا .
ويبدو ان العلاقات التجارية ضعفت في العصر البابلي القديم ، ولم يستعاد اسمها في التراث الرافديني الا في مملكة ارض البحر حينما زحفت على ديلمون القبائل الكلدية-الارامية، التي هاجرت من بيث-ارام الى بلاد بابل بين القرن الثالث عشر ق.م. والقرن العاشر ق.م. وسكنت حول الخليج الذي سمي اولا باسمهم اي الخليج الكلدي ، وهكذا عادت التجارة والعلاقات بين بابل وديلمون مستمرة (1) .
وهناك مراسلات وجدت بالاكدية في ارشيف معبد مدينة ديلمون ، تشير الى استيلاء الكلديين على ديلمون عندما اقاموا لهم بلدة في ارض ديلمون اسموها ( كايلوس) وقيل باسم ريمون، بينما سكان ديلمون اسموا سكانها بعد مدةبالجرهانيين ، وجرهاء كانت احدى المدن التي انشأها على الارجح الاراميين في شمال الجزيرة العربية ، مما يؤكد ان الكلديين سكنوا اولا في جنوب بلاد كنعان ثم هاجروا مع الاراميين الى بلاد بابل . وقد سماها الاراميين او الكلديين ريمون بدلا من ديلمون . دفعت ريمون ، جزية الى الملك اسرحدون الاشوري . وهذه المدينة اي ريمون ، اشتهرت ايضا في التجارة والملاحة .
اما الفترة اليونانية في بلاد الرافدين ودلمون،فتؤرخ منذ زمن الاسكندر المقدوني الذي يبدأ في عام 323 قبل الميلاد وحتى سقوط الاسكندرية بيد الرومان سنة 30 ق.م.
وقد وصلتها المسيحية في القرن الثالث للميلاد . وفي اواخر القرن السابع احتلها الجيش الاسلامي ، واخذ منهم الجزية . وقد تحولت البحرين القديمة في العهدين الاموي والعباسي الى مجرد منفى للمعارضين وكذلك اليمامة وخاصة في زمن المتوكل الذي اضطهد الشيعة والمسيحيين وصادر اموال الاغنياء منهم واستولى على ممتلكاتهم،وكانت اهم مدن ديلمون مدينة زارا التي كانت تضم سورا محصنا مما جعاها تتحمل حصار المسلمين لعدة اشهر. وظلت قائمة حتى عام 273 ه ،حينما احرقت على اثر حرب قامت بين المسلمين والقرامطة . ولذلك اهمل البحث عن مدينة زارا . وبقيت هذه المدينة قائمة حتى عام (273 ه) ،حينما احرقت ثم دمرت على اثر اتهام اهلها بالقرمطية ! هذا وقد عثرت فيها بعثة التنقيب الدينماركية على كتابات ارامية ، مكتوبة بخط ارامي متطور، والمؤلف من اثنين وعشرين حرفا .
ان اشهر من نقب في اثار حضارة ديلمون، الدينماركي جيفري بيبي في عام 1954 ، وقد نشر نتائج ابحاثه في كتاب (البحث عن ديلمون ) الذي ترجم الى العربية بعد قرائته في نهاية السبعينات من القرن الماضي .
وجد في اثار البحرين شواهد قاطعة على بقايا قرى عامرة ومعابد كبيرة مشابهة للطراز السومري ، وكذلك اسلوب استخدام الاختام الاسطوانية السومرية عند التجار،بالاضافة الى ان سفن ديلمون كانت تلقي مراسيها في مدينة اكد عاصمة بلاد الرافدين ، قادمة من ماكان اي اطراف الخليج الكلدي او العربي بعد ذلك، الذي سماه الاغريق بعد عدة قرون بالخليج الارثري اي ااخليج الاحمر لانهم كانوا يعتقدون ان مياهه آتية من البحر الاحمر.
ان آثار معبد باربار ومدافن عالي وام الجدر في ديلمون من الالف الثاني قبل الميلاد تمثل شواهد تؤكد تغلغل الحضارة الرافدينية في حياة اهالي ديلمون . تضم اثار ديلمون حاليا كلا من متحف البحرين ومتحف موسكارت في الدينمارك من بينها عشرات الرقم الطينية ومئات الاختام الاسطوانية مستخدمة النقوش والرموز الاسطورية السومرية، وكذلك اللغة والكتابة السومرية على الرقم الطينية للكتابة ، كما هو الحال في بلاد الرافدين اي العراق القديم التي كانت تمتد في جنوب تركيا اليوم وحتى ل بيت-آرام او فيما بعد (سوريا) .(2)
ويكتب لنا المؤرخ صموئيل كريمر : لقد ذكرت ماكان و ملوخا كذلك في النصوص الاكدية الملكية في ايام سركون الاكدي على الاقل بان سفن ماكان و ملوخا وديلمون كانت ترسو في عاصمته اكد . كما ان حفيده نرام-سين قد استولى كذلك على ماكان و مانيو؟ . (3)
اهم المصادر
1- J . Black and A. Green. Gods,Demons,Symbols of Ancient Mesopotamia: London ,2008 :P.66
2- Bibby; Geffrey ; Looking for Dilmun; 1969
3- كريمر ، صاموئيل نوح . السومريون :تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم: ترجمة الدكتور فيصل الوائلي .الكويت ،وكالة المطبوعات ، 1974 . ص 398 .
Libinski, E. The Arameans :Their Ancient History 4.
775 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع