د. علي محمد فخرو
منذ بضعة أيام قامت جمعية النهضة في تونس بمحاولة تطوير للفكر السياسي الاسلامي عندما قررت فصل أنشطتها الدعوية الدينية عن نشاطها السياسي من أجل أن تصبح حزباً سياسياً مدنياً ينطلق من القيم الاسلامية، كإحدى مرجعياته، ولكنه يفصل ممارسة السياسة عن ممارسة الدين.
والذي فعلته جمعية النهضة هو جزء مكمل لقبول الاسلام السياسي بالديموقراطية منذ بضع سنوات، وذلك بعد عقود من رفض تنبيه للديموقراطية على أساس أنها نظام مخالف للاسلام في بعض ممارساته والمبادئ التي ينطلق منها.
كان أقصى ماكان يقبله الاسلام السياسي هو مبدأ الشورى الاسلامي بتفاسير معانيه المختلفة وقراءاته الفقهية المتعارضة أحياناً. لكن أجزاء مهمة من الاسلام السياسي قبل في النهاية فكرة تساوي الشورى مع الديموقراطية.
والأمر نفسه حدث بالنسبة لقبول التعايش مع الفكر القومي، وبالأخص العروبة كهوية لا تتعارض مع الهوية الدينية الاسلامية، والوحدة العربية كهدف لا يتعارض مع شعار الوحدة الاسلامية، بل وحتى المبادئ الاشتراكية قبل بها البعض لانسجامها مع انحياز الرسالة الاسلامية الالهية للفقراء والمستضعفين.
اذن، وبموضوعية تامة، جرت محاولات على مستوى الفكر والشعارات السياسية لتطوير ما سماه أصحابه بالفكر والتنظيم الاسلامي في الساحة السياسية.
على ضوء تلك الخلفية، المتمُمة لمحاولات سابقة من قبل بعض الاصلاحيين الاسلاميين من أمثال الكواكبي وعلي عبد الرزاق وعلال الفاسي وغيرهم كثيرون، لايجاد تفاهم وتناغم بين الاسلام وبين أفكار وشعارات الحداثة.... على ضوء ذلك يحار الانسان في كتابات وأحاديث البعض وهم يقيمون خطوة جمعية النهضة. البعض يصفها بالكاذبة والبعض الآخر يصفها بالانتهازية وأنها ليست الا تقية مؤقًتة الى حين تهدأ العواصف الحالية في ارض العرب.
ويذهب البعض الى حدود التشكيك في نوايا قادة الجمعية والتنبُؤ برفض قريب وثورات من قبل قواعد هذه الجمعية.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا يكثر المتحذلقون في أرض العرب للتشكيك في كل محاولة للخروج من صعوبات الوضع العربي؟ فاذا حاول البعض تكوين تيار وحدوي يضاد التجزئة العربية ويدعو الى قيام أمة واحدة ووطن واحد قيل لهم بأنهم حالمون وأطفال يتسلُون.
واذا حاول البعض تقريب المذاهب للخروج من الانقسام الطائفي الحقير اعتبر عميلاً لهذه البلاد أو ذلك النظام. وما أن أخفقت بعض حراكات الربيع العربي المنادية بالحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية حتى انبرى أولئك المتحذلقون في الشماتة وفي لعن شباب الأمة الذين يتهمونهم بأهل الفوضى، بل وحتى أعلنوا بأن هذه الأمة لا تصلح الديموقراطية لحكمها وانهاضها.
لكن، هل أن المراجعة هي فهلوة وانتهازية؟ بالطبع هذا اتهام ظالم. فالواقع أنه لا توجد ايديولوجية أو أفكار أو أنظمة في عصرنا الا وتخضع للمراجعة. هناك مراجعة نقدية للأفكار والحركات والأحزاب القومية العربية بسبب أخطائها واخفاقاتها السابقة.
هناك مراجعة للأفكار الاشتراكية والأحزاب الماركسية بسبب خطاياها التاريخية وما أحدثه بعضها من كوارث. وهناك الآن مراجعة جادة للرأسمالية والحداثة، وخصوصاً النيولبرالية العولمية المتوحشة.
كل شيء يخضع الآن للمراجعة، فلا ينبري المتحذلقون للغمز واللمز واتهام المراجعين. فلماذا لا يعطى الاسلام السياسي فرصته للنقد الذاتي واجراء المراجعة ومحاولة التفاهم مع العصر؟
لسنا هنا بالطبع معنيين بالدفاع عن الاسلام السياسي، فقد ارتكبت تنظيماته وأحزابه الأخطاء والخطايا البائسة وفقدت الكثير من شعبيتها، بل ان بعضها أصبح مكروهاً، وسيحتاج لعقود الاصلاح ما فعلته بلادات بعض قياداته.
لكننا هنا معنيون باعطاء الفرصة الحقوقية الديموقراطية لكل من يريد اجراء المراجعة والنقد الذاتي من أجل تجاوز سلبيات الماضي للانتقال الى دفء العمل السياسي السلمي المدني المطلوب بشدة لاخراج أمة العرب من ورطتها التاريخية التي تعيشها.
لنذكر أنفسنا بأن الاسلام في قلب الثقافة العربية، والثقافة في قلب السياسة، والمصالحة مع العصر ستكون مسيرة طويلة.
713 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع