فهمي هويدي
أشم رائحة غير مريحة ولا مطمئنة في ثنايا الهجوم المتواتر على الإعلام في مصر. وهو ما أصبح ظاهرة أعطت انطباعا بأن الجميع ساخطون عليه ويشتكون منه. الإعلاميون والأمن والحكومة وقطاع عريض من الناس الذين أدى عزوفهم عن متابعة الإعلام إلى انخفاض توزيع كل الصحف. وتراجع نسبة المشاهدين لبرامج التلفزيون. ومن الملاحظات ذات الدلالة في هذا الصدد أن مؤشرات الهجوم على وسائل الإعلام من جانب السلطة ظلت الأبرز.
كما أنها تضاعفت في الآونة الأخيرة، بعدما تعالت أصوات النقد في وسائل الإعلام للقرار الذي صدر بشأن جزيرتي البحر الأحمر (تيران وصنافير). إذ قادت ذلك الهجوم منابر السلطة وأبواقها، وشاركت فيه رموز السلطة التي لم تخف عدم رضاها بصورة أو أخرى. فوجه بعضهم إلى الإعلاميين رسائل عتاب مبطنة تضمنت «لفت نظر»، جرى في ظله إعادة تعريف دور الإعلام الذي وصف بأنه «إيجابى». وقيل لنا ذلك الدور يجب أن ينحصر في رفع الروح المعنوية للناس، وإن عياره انفلت في مصر حتى صار بحاجة لقيادة تضبط أداءه وتهذبه.
إلى جانب وجود نحو ٤٥ صحفيا في الحبس، منهم عشرون أعضاء في النقابة والآخرون مهنيون لم تتم إجراءات قيدهم، فلم يعد سرا أن مقر نقابة الصحفيين صار مصدرا لإزعاج السلطة، إذ تحول مدخله إلى منصة مرشحة للغاضبين والمحتجين، بحيث صار يعتليها ويرفع لافتاته فوقها كل صاحب مظلمة أو راغب في رفع صوته وشكايته في فضاء العاصمة. وكان نشطاء حقوق الإنسان بين الذين وجدوا في قلعة الرأي صدرا واسعا. وأتاح لهم ذلك فرصة إقامة بعض الفعاليات تحت سقفها. وحين علت نبرة النقد في المجتمع الذي عبر عنه بعض الصحفيين ترجم عدم الرضا إلى إجراءات بدأت بتكثيف وجود الشرطة أمام مقر النقابة وتضييق إجراءات الدخول إلى المقر، بحيث سمح للأعضاء العاملين، ومنع الصحفيون غير المقيدين من الدخول. وفي بعض الأحيان أحاطت به الحواجز ومنع المرور في الشارع. ثم جرى تصعيد الإجراءات حين تقرر اقتحام مبنى النقابة لأول مرة في تاريخها لاحتجاز اثنين من الأعضاء الملاحقين أمنيا، كانا قد احتميا به. ثم جرى توجيه الاتهام لأول مرة في التاريخ أيضا لنقيب الصحفيين، واثنين من أعضاء مجلس النقابة، وصممت لهم قضية «إيواء مطلوبين للعدالة» سينظر فيها القضاء بعد عشرة أيام (في ١٨ يونيو).
لم تقف الإجراءات عند ذلك الحد، وإنما سعت الأجهزة الأمنية إلى إحداث انقسام بين جموع الصحفيين، وحاولت ترتيب انقلاب في داخل النقابة على مجلس النقابة. وتولت بعض المؤسسات القومية تنفيذ السيناريو. حيث نظمت اجتماعات داخل مقارها جرى فيها التنديد بالمجلس الذي قيل إن تيارا واحدا بات يسيطر عليه (رغم أن الجماعة الصحفية هي اختارت أعضاءها في انتخابات حرة).
الخلاصة أن هجوم السلطة على الإعلام أصبح يتصدر المشهد، ليس فقط لأنها الطرف الأقوى في المعادلة، ولكن أيضا لأن عدم رضاها تجاوز النقد إلى تبنى إجراءات القمع والتنكيل. أما انتقادات المهنيين، والنشطاء وبعض شرائح المجتمع فإنها ظلت مقصورة على آراء لا يخلو بعضها من وجاهة. إلا أن ما يثير الانتباه في هذا الصدد أن عدم رضا المجتمع له أسبابه التي تتناقص تماما مع دوافع عدم رضا السلطة. وتلك نقطة مهمة تحتاج إلى بعض التوضيح.
فالمهنيون ومن لف لفهم ينتقدون التدهور في تقاليد المهنة لأسباب وتراكمات يطول شرحها أزعم أن على رأسها التراجع المستمر في حرية التعبير في مصر طوال نصف القرن الأخير. أما النشطاء وجمهور القراء الناقدين فملاحظتهم الأساسية تكمن في أن أغلب الصحف ــ والقومية منها بوجه أخص ــ صارت بوقا للسلطة بدرجة أو أخرى، حتى باتت صوت السلطة وأحيانا سوطها (بالسين) بأكثر منها صوت المجتمع. أما السلطة التي غدا ضيقها بالنقض واضحا ومتزايدا، فإنها أصبحت مقتنعة بأن الإعلام ليس إيجابيا بما فيه الكفاية. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن نقد المجتمع ينطلق من أن موالاة الإعلام للسلطة أكثر مما ينبغي، في حين أن السلطة ارتأت أن تجاوب الإعلام معها دون ما ينبغي. يفسر ذلك أنه بعدما سيطرت السلطة على جميع مؤسسات الدولة حتى المستقلة منها، فإن الإعلام لا يزال «الجبهة» التي لم يتم إحكام السيطرة عليها. سواء بسبب هامش الحرية المتواضع المتاح في بعض الصحف أو بسبب مواقع التواصل الاجتماعي الخارجة عن السيطرة بطبيعتها. يؤيد ذلك الزعم التعريف الأخير الذي أطلقه المسؤول الكبير واعتبر فيه أن مهمة الإعلام هي رفع الروح المعنوية للناس. وهو تعريف لا ينطبق إلا على إدارات الشؤون المعنوية في المؤسسات العسكرية. يؤيده أيضا ذلك التنديد المستمر في البرلمان وغيره بمواقع التواصل الاجتماعي والدعوات التي تطلق لتقييد تلك المواقع وبسط سيطرة الدولة عليها. ومن القرائن الدالة على ذلك أن الصحفيين الموالين للسلطة والأمنجية أصبحوا هم الشرفاء ورسل الصحافة الإيجابية، أما من عداهم الذين يمارسون حقهم في التعبير الحر فقد صنفوا تحت لافتات معاكسة، وأصبحوا يتوزعون بين دوائر الاتهام والاشتباه.
إذا صح ذلك التحليل فمعناه أن مسألة اقتحام النقابة والقبض على الصحفيين، ومحاكمة النقيب وعضوي مجلس النقابة ليست سوى مقدمة لها ما بعدها الذي يراد به إلحاق الإعلاميين ببيت الطاعة وإحكام السيطرة عليه. وهو استنتاج أتمنى أن تثبت الأيام كذبه، وإغراقه في الشطط وسوء الظن. غدا بإذن الله لنا كلام آخر للموضوع.
867 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع