تقديس المؤلف القديم بين التخلف الطائفي وضياع الحقيقة

                                                    

                        عدنان عبد النبي البلداوي

لايختلف اثنان في أن إحاطة أي باحث أو كاتب أو مؤلف بأي موضوع  إحاطة تامة شاملة من جميع النواحي والجهات ، أمر  لايحتمل البت في تحققه على وجه الكمال ، لأن نسب الذكاء كما أكدها العلماء ،تبقى متباينة ،

وإن القدرة على التحليل والربط والإستنتاج ثم إصدار النتائج ،هي عملية مرتبطة بأحوال العصر الذي ولدت فيه من الناحية البيئية والاجتماعية والسياسية، فما يُقرأ من قبل معاصري المؤلف ، عادة ما يرافقه هاجس التقدير أو التقويم أو التقييم ، بعيدا عن هاجس اسمه  التقديس ، لأن اضطرار بعض المؤلفين القدامى الى إدخال روايات مختلقة لاصحة لها قد وضعت لأسباب سياسية أو قبلية أو بدافع تعصب لإرضاء طرف دون آخر ، من الحواجز النفسية التي تسهم في غلق نوافذ التقديس في أجواء المتعاصرين.
وعندما تمضي على تأليف بعض الكتب مئات السنين وتكتسب خلالها متراكمات من التأييد العشوائي والمناصرة بدوافع متناقضة سنذكرها ، ينصرف بعض الباحثين والقراء غير الجادين عن عملية تحقيق مضامين ذلك الكتاب بسبب هيمنة هالة التقديس التي خلقتها الدعاية لذلك المؤلف والتي تقضي بطبيعتها الى منع المساس يأي عبارة أو إبداء أي رأي سليم حول أي رواية حتى ولو رفضها العقل والعرف الاجتماعي.
وقد ظلت نغمة تقديس المؤلف القديم عند كثير من الباحثين والقراء تتفاعل مع أجواء العصر الحديث تفاعلا ميدانيا ، أدى الصمت أزاءه الى إفراز كثير من الأضرار مع ضياع كثير من فرص الكشف عن الحقيقة، إذ كلما يُذكر المؤلف الفلاني بالتقصير أو الخطأ ،تثور العواطف وسرعان ما يتبعها هرج ومرج.. ولاشك في أن وراء دوافع هذا النمط من التقديس تقف عوامل ومسببات ، منها على سبيل المثال :
1-عامل استكانة كثير من العواطف أزاء  التهويلات والتفخيمات المتتابعة المرتجلة لصالح ذلك المؤلف  دون التمكن من ضبط النفس وتهدئة الشد العاطفي لإمكان رؤية مصداقية مضامين كتابه من عدمها.. وكثيرا ما تهيمن تلك العواطف العشوائية على إرادة الفارغين الذين يفتقرون الى قدرة التفكير والتأمل واستقلال الرأي ، ومن أضرار ذلك أن إستغل دعاة الفتنة هذا النمط العاطفي الفارغ ، وبذلوا لهم كل الوسائل المغرية ، لزجّهم في الأجواء الطائفية المضطربة ، تحقيقا لأهداف أسيادهم والعمل الدائم على تفعيل شعار ( فرق تسد ).
2- التخلف الطائفي : وهو الذي يحصل من مواصلة حامله بالتحدث سلبيا بمضامين مذهبية غير واعية وغير مدروسة ، تضر بالوحدة والتآلف من جهة ، وتخدم أعداء الإسلام من جهة أخرى ، ولاشك في أن ذلك المتخلف طائفيا إذا وجد في كتاب ما محتويات تؤيد تخلفه ، فإن مؤلف ذلك الكتاب يصبح مقدسا لديه حتى ولو علم بزيف رواياته ، لأن المهم عنده إنه وجد أنيسا لعشوائيته، وعندها يبدأ بالتهريج والتطبيل لصالح المؤلف ، ولايخفى ما تخلفه الحماقة من مشاكل وتكتلات ومنافرات بين الطوائف ، نحن أحوج مايكون الى القضاء عليها للحفاظ على وحدة المسلمين.
3- عامل المصالح السياسية : التي تبحث دائما عمن يخدمها ،بغض النظر عن مصادر الخدمة سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة ، بغية إدامة المناصب والجاه والرئاسة ، ومن الطبيعي أن تحظى الروايات والأخبار الباطلة و غير الموثقة في كتاب ما  بتقديس السياسي لمؤلف الكتاب ، طالما إنها في خدمة أهداف سياسته ، وتعد رعاية ذلك السياسي لمثل هكذا كتاب من أخطر الوسائل المؤدية الى ديمومة التشويش والتفرقة ، وذلك لما يبذله من موارد مالية لنشر الكتاب او الترويج لدراسته وقراءته.
4- عامل الثقة العمياء: إن مما يبعث على الغرابة أن هناك شرائح متعلمة ، وهؤلاء ألفوا كتبا ونشروا بحوثا ضمنوها نصوصا لمؤلفين قدامى ، فيها كثير من الإفتراءات والمغالاة والتجاوزات ، دون مناقشتها أو وضعها في دائرة الضوء، ولعل ما دفعهم الى ذلك أن رهطا من المؤلفين المغفلين قبلهم بعهد قريب قد أخذوا أيضا من ذلك المؤلف القديم دون التحقق من صحة المضمون المقتبس،ولاشك في ان الثقة العمياء بالسابق العشوائي هي إحدى معاول هدم أركان الوحدة بسبب عدم وضوح الرؤية وبقاء تجاذبها بين المتخالفين.
وفي ضوء هذه الدوافع المستحدثة ، ترى هل كان هذا المؤلف نفسه مقدسا في عصره ..؟
ربما كان محاطا بهالة من التقديس عند حزب أو فئة وجدت في كتابه ما يخدمها رغم مافيه من بعد عن الصواب . أما عند من عاصره من أهل العقل والدراية ، فإن جهوده وسطوره  واضحة لديهم ، حتى أنهم كانوا يستطيعون الإفصاح عن أي زيف فيها  إذا كان المؤلف غير ذي صلة بالسلطان ، لأن شلة وعاظ السلاطين لايجرأ أحد على ذكر مساوئ  مضامينهم ، مادام الوشاة على أهبة الإستعداد ، ولعل كثيرا من هؤلاء الوعاظ من ألف وصنّف  وبعد مئات السنين شملهم التقديس بسبب التضليل الإعلامي الذي واكب حياتهم .
   إن إعادة النظر في أجواء التقديس اللامشروع  قد أصبحت اليوم واجبة ومطلوبة ، لقطع الطريق أمام التفرقة والخلافات التي من إحدى عوامل استفحالها هو عدم الاستجابة لنداء الحقيقة المتمثل في الدعوة الى غربلة الكتب القديمة المشكوك في صحة وعقلانية مضامينها.
ومن المؤسف أن الثقة العمياء ببعض السابقين قد أباحت لكثير من خطباء المنابرفي أن يأخذوا من المؤلف المقدس كثيرا من الروايات الخيالية والجهر بها على مسامع الالاف من المشدودين للشاشات الفضائية ، حتى أنهم من حيث لايشعرون قد اسهموا في تجرئة المنافقين من غير المسلمين بالطعن والتشهير والسخرية ، حتى شمل كما يعلم الجميع شخصية الرسول الأكرم (ص) ، لأنهم عندما يسمعون هكذا روايات مهزوزة واهية يحللون من خلالها هيأة واحوال ومفاهيم وطبيعة المسلمين ، مستندين في ذلك على منطوق ( من فمك أدينك).
إن حديثنا الموجز هذا لايشمل القارئ اللبيب والباحث الجاد الذي يبجّل مؤلفا قديما منصفا  ذا مروءة  يخاف الله تعالى في كل ما ينقل من أخبار ، ونقول (يبجّل ) لا( يقدّس ) لأن صفة التقديس قد ارتضى ويرتضي إضفاءها على الموصوف كلُ قارئ فارغ ، لأن من يقبل المضامين على علاتها  يهون عليه اضفاء أي صفة تفخيم ، بغض النظر عن ملاءمتها  أو مناسبتها للموصوف ،
نحن لانملك في أن نتدخل في شؤون من قدّس ويقدس بطريقة غير مشروعة ( أن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )، ولكننا ندعوا وبلهجة الإيمان بالكلمة الصادقة ، الى التعامل مع أي مؤلف قديم تعاملا موضوعيا ، وأن ندخل في تحقيق وتوثيق وتدقيق مضامينه دخولا بدافع الحرص من أجل الإبقاء على أصدقها وأوثقها وأقربها الى الحكمة وسداد الرأي ، لايرافقنا في ذلك إلا المنهج العلمي وأصول البحث ،بعيدا عن التحزب والتطرف ، وبعكسه ستظل الأجيال المسلمة ناقمة على من لاحراك له لتعبيد الطريق بصورة صحيحة صادقة وفي ضوء كتاب سماوي واحد ونبي واحد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1079 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع