نبيه البرجي
هذا زمن الاسئلة الساذجة، ربما زمن الاسئلة المستحيلة: لماذا تُركت ايران دولة موحدة غداة الحرب العالمية الاولى، وفشلت كل المحاولات لاختراقها باقامة دولة شيوعية هنا، ودولة اقليات هناك، وقد نالت منطقة الاهواز ذات الغالبية العربية ليتسع على نحو فعال جدا وجودها الجيوسياسي في منطقة الخليج؟
ولماذا لم تتم تجزئة تركيا، عقب زوال السلطنة، لا بل تُرك لعصمت اينونو ان يحقق نصره الشهير على اليونانيين، فيما قدمت فرنسا، وبتلك اللعبة القذرة، لواء الاسكندرون هدية الى كمال اتاتورك؟
استطرادا، لماذا ترك المشرق العربي يتناثر جغرافيا، وتاريخيا، ليتحول الى مستودع للدمى في المنطقة؟ لبنان الكبير دولة، سوريا الصغرى دولة، الاردن دولة، العراق دولة، السعودية دولة، وصولا الى الدول الخليجية الاخرى.
هل لان الذين كانوا يمسكون بالزمام شيوخ قبائل، ومن الشريف حسين الى عبد العزيز آل سعود، وكانوا يفتقدون اي رؤية استراتيجية، وان كان الفارق هائلا بين سذاجة الشريف حسين، وانتهازيته، وذكاء عبد العزير آل سعود الذي وحّد بالسيف نجد والحجاز...
لا بل ان دولة مثل العراق تُركت ثلاث ولايات (ولاية بغداد، وولاية الموصل، وولاية البصرة) قبل ان يوحدها ونستون تشرشل، لا بدافع اقامة دولة قادرة، وانما من اجل ان تكون هناك ادارة مركزية للنفط، ولم يكن يرى فينا الزعيم الانكليزي، بل كل زعماء الغرب، وربما زعماء العالم، اكثر من براميل بشرية وتتولى حراسة براميل النفط.
وهل لان الموقع الجيوسياسي جعلهم يبعثروننا هكذا ليجعلوا من الدول المستحدثة إما ارصفة، او كهوفا، او مستودعات، او غرف عمليات لاستراتيجياتهم في المنطقة وما حولها؟
وهل لان النفط الذي وصفه هنري بيرانجه (في مؤتمر حول النفط عام 1918) بـ «دم الارض» هو الذي حلّل دمنا، وكرّس فلسفة الدولة ـ القهرمانة، كما جعل حروبنا حول الغيب حروبا ابدية؟
وهل لان الغرب اراد ان يبحث عن مكان يلقي فيه اليهود خارج الكرة الارضية، فكان ان اليهود، وقد انتجوا الثلاثة الذين كانوا الاكثر تأثيرا في القرن العشرين (كارل ماركس، البرت اينشتاين، سيغمند فرويد) عرفوا كيف يلعبون لعبتهم، فتحولت اسرائيل الى حاجة (اسبارطية) للاستراتيجيات الغربية الكبرى...
وحين راح اليهود ينظرون الى المستقبل عبر المختبرات، والمعاهد التكنولوجية، واستقطاب الادمغة (حتى انهم فكروا باينشتاين اول رئيس للدولة، وحين رفض جيء بالعالم الثاني حاييم وايزمان)، كان العرب ينظرون الى الغيب، ويقتلون بعضهم البعض، ومازالوا يقتلون بعضهم البعض، من اجل الغيب...
دعونا نأخذ لبنان نموذجا، وسط هذه المنطقة المتناثرة. دولة لبنان الكبير ولدت بيد مارونية (البطريرك الياس الحويك)، وكان الملك لويس التاسع، القديس، يصف الموارنة بفرنسيي الشرق...
الموارنة الذين وصفهم وليد جنبلاط بـ«الجنس العاطل»، نحن الذين حولناهم، بتأثير العدوى، الى قبيلة او الى قبائل. كانوا على تواصل وتفاعل مع الثقافة الاوروبية التي كانت الى تصاعد. اول دير لتدريس الكهنة الموارنة انشىء في روما في الربع الاخير من القرن السادس عشر، فيما كانت البعثات التبشيرية، وإبان العهد العثماني، تنتشر، في الارجاء اللبنانية، تقيم المدارس والاديرة والكنائس...
الى حد بعيد، ترعرعت لدى المسيحيين عقلية المؤسسة. التواصل الديني والثقافي مع الغرب ادى الى التواصل الاقتصادي. اكثر الوكالات الكبرى كانت بيد المسيحيين الذين دون شك ساهموا، وبشكل اساسي، في نقل اللبنانيين الاخرين من ثقافة البداوة الى ثقافة الحداثة...
في لحظة ما، وهكذا تقول جدلية المال وجدلية المصالح، تحولت المركنتيلية الاقتصادية الى مركنتيلية سياسية، حيث الزبائنية والرغبة الهائلة في الاستئثار بالسلطة، وبالسوق، على ان الغرب، الحامي الاكبر والانتهازي الاكبر، هو الاقنوم الرابع في الثالوث الاقدس...
حديث طويل الى ما انتهت اليه المارونية السياسية، ومن حل محلها بتلك الطريقة العشوائية، وحيث الفساد العابر للطوائف، والمذاهب، في ذروته، وحيث الدولة مهددة بالاضمحلال. دولة الفساد الكبير.
اي لعنة جعلتنا هكذا، لعنة الآلهة ام لعنة شيوخ القبائل الذين في لبنان وفي سائر المشرق العربي ما زالوا احياء يأكلون و... يأكلوننا!
1401 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع