نزار جاف
أبهر المفکر الامريکي فرانسيسکو فوکوياما العالم بنظريتيه المتعاقبتين بخصوص نهاية التأريخ و نهاية الانسان و دفع الاوساط الثقافية و الفکرية بمختلف مشاربها الى دراسة أفکاره بمنتهى الجدية و السعي للخروج برؤية محددة أو حتى مجموعة رؤى متباينة للمستقبل الانساني على وجه البسيطة.
فوکوياما الذي أعلن بکل بساطة و هدوء و تواضع تراجعه عن اطروحة نهاية التأريخ و طرح بدلا من ذلك اطروحته الجديدة بخصوص نهاية الانسان والتي بناها على مجموعة أسس و مبان علمية يعتد بها، لم يکن من السهل على مريديه و أنصاره التخلي عن أفکاره السابقة التي نادى و بشر لها فترة من الزمن، والانسان بطبعه ليس ميالا الى التغيير السريع وهو وان کان بطيئا في التلقي، لکنه يکون أبطأ بکثير في التخلي عن القيم و الافکار التي يألفها و يتعلق بها لفترات محددة من حياته، من هنا فإن نظرية نهاية التأريخ لفوکوياما مازالت(کنظرية النشوء و الارتقاء لداروين)تحظى بعدد کبير لا يستهان به من المؤمنين بها ويجد بعضا من أنصار فوکوياما صعوبة في کبيرة في تلقي أفکاره الجديدة المبنية أساسا على طروحات علمية أکثر من اعتمادها على أسس فکرية و فلسفية محددة و يفضلون التغاضي عن هذه النظرية التي تلقى قبولا کبيرا في الاوساط العالمية المختلفة.
وقد يکون السبب الاهم الذي يدفع أنصاره الآنفي الذکر الى مثل هکذا موقف، العامل الديني الذي مايزال مؤثرا و حيويا على الرغم من خبو التعصب الديني في الغرب و تراجع الالتزام الديني بشکل غير مسبوق في مختلف دول الاتحاد الاوربي، لکن ذات الانسان الذي لا يکترث بأمور و تعاليم الکنيسة و يعتبر نفسه بدون دين(کما حال الکثيرين الذين يتخلصون بسبب ذلك من ضرائب خاصة للکنيسة)، يعود بنفسه للحديث عن کرة صراع و مواجهة الاديان و يطرح أفکارا بخصوص مستقبل التعايش الانساني في ظل تهديدات اساسها ديني.
وإذا کان من السهولة جدا ان تلتقي بأناس هنا في المانيا تحديدا يعلنون جهارا استخفافهم و عدم اکتراثهم بالدين، لکنك وعند تجاذب أطراف الحديث معهم تجدهم يعودون للأس الديني و يعاملون المقابل وفق ذلك وهم وان برروا موقفهم على اساس انه إنعکاس لواقعهم الاجتماعي ـ الفکري غير انه من الواضح أيضا بقاء تأثير العامل الديني فعالا في العقل الباطن لهؤلاء وعدم تمکنهم من إلغائه أو محوه تماما کما يدعون.
ولئن کانت هنالك آراء تشدد على أن التطرف و التزمت و العدوانية لأسباب متباينة ترتبط أکثر بالشرق(الاسلامي أو غيره)، لکن الصحيح هو أن التطرف و العدوانية و الارهاب من السهل جدا ربطها بأي تعنت أو تشدد ديني مهما کانت عقيدته و أينما کان مکانه و موطنه وان الواضح ان علاقة الاديان ببعضها(رغم کل الاشارات و المزاعم المختلفة بصدد طابعها الايجابي) کانت و ستبقى سلبية تحمل في طياتها بذور العدوانية التي من المحتمل جدا أن تترجم بين أية لحظة و اخرى الى أفعال عنيفة ضد الاخر وان سکوت او هدوء الجبهات الدينية لا يعني بالمرة إن التهديدات القادمة منها قد إنتهت او ولت الى غير رجعة وانما هو هدوء يسبق العاصفة و فترات الهدوء هذه قد تستغرق عشرات بل و مئات السنين لکن هبوب العاصفة الدينية الهوجاء امر حتمي لا مناص منه ذلك انه العامل الاهم و الاکثر تأثيرا في إثارة النفوس و تحريضها بسياقات عدوانية تلغي طابعها الانساني.
ان الاشکالية الکبرى القائمـة في حالات النزاع ذات الطابع الديني، هي حالة النزوع للتفاضل بين الاقوام أو الطوائف المتحاربة مع بعضها وان کل منها ترى الرب و ملائکته يقاتلون الى جانبها فيما يکون الطرف أو حتى الاطراف المناوئة لها عبارة عن أبليس و جنده!
ونظرة الى الخلفية التفاضلية ذات الطابع الديني للانسان عند حالات الخلاف او الاختلاف، تدل بوضوح على قوة و عمق تأثير العامل الديني في التکوين الفکري و النفسي للانسان وان الفلسفة بحد ذاتها سعي انساني لمحاکاة الاله في کيفية إيجاد طرق و سبل خلاص الانسانية کما ان الاساس او المعيار الاهم الذي يعتبره الانسان حجر الاساس في عملية المفاضلة عنده تستند في خطوطها الاصلية الى مضامين دينية أو ما يشابهها أو يحاکيها بنفس السياق.
اليوم، وفي ظل الازمة الاقتصادية المتفاقمة في العالم و التي لاتلوح في الآفاق ما يبشر بقرب نهايتها أو حتى التفاؤل بقرب الخروج منها، من الممکن إعتبارها نذيرا او محفزا غير عاديا للعودة الى إستخدام العامل الديني بصورة(استغلالية)من أجل الوصول الى أهداف سياسية ذات محتويات إقتصادية بحتة، ليس من الانصاف إعتبار الولايات المتحدة الامريکية الجهة الغربية الوحيدة التي تجيد اللعب بالورقة الدينية(وان کانت الاکبر و الامهر) وانما هناك أطراف أخرى طفقت تبرع في اللعب بهذه الورقة و تعلم أين و کيف لماذا تستخدمها، وليس يقف الامر عند هذا الحد فقط وانما يتعداه الى منعطفات أکثر خطورة عندما تدخل دول من العالم الثالث في اللعبة و تبدأ بإستخدام ليس العامل الديني بشکله و محتواه العامين وانما تتعديانه الى تفاصيل أکثر حساسية و إستفزازا حينما تمسك بعنق و أطراف المسائل الطائفية بأبشع و أبغض صورها وحتى ان الامريکيين قد فوجئوا ببراعة دول من العالم الثالث في إستخدام هذه الورقة بحيث تمکنوا من توظيفها بطرق و اساليب لا ولم تخطر يوما على بال غيرهم حتى ان الامر وصل الى حد تفجير أماکن مقدسة لدى لدى طوائف محددة.
استخدام العامل الديني على مر التأريخ لتحقيق أهداف و مطامح متباينة، بينت بوضوح أهمية هذا العامل و قدرته الفائقة لبلوغ الاهداف السياسية و العسکرية وان بقاء هذا العامل على حيويته و ديناميکيته"سيما والبشرية في بدايات الالفية الثالثة للميلاد" يثبت للانسانية بأنه ليس هنالك من مبشرات بغد انساني قريب نشهد فيه نهاية الحروب إلا اذا شهدت الانسانية نهاية الاديان وهو امر قد يکون المستحيل بعينه!
3213 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع