الدكتور عبدالـرزاق محمـد جعــفـر
استاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سابقا
في ماضي الزمان كانت الحقيقة تحكم البشرية،ولكن في نهاية القرن العشرين,.. أنهارت وما من احد رفع صوته لردع ذلك الإنهيار والظلم أو ترميمه من دون خوف من المتسلطين على حرية البشر، ولذا تم اغتيال القِـيَـم التي آمن بها أجدادنا ، فطـُحنت حضـارتهم وتمزقت شَذَرَ مَذَرَ!... ونتيجة لذلك ، اندلعت الحرب الكلامية في أوساط طلائع الأمة المثقفة وتبادلوا تـُهماً قادتنا إلى ما نحن عليه !, وجعلونا نســيروفق مخططاتهم, كعميان في طريق مـُظلم!, وأبتعدنا عن القيَـمِ الإنسـانية , وأُصبنا بالإحـباط , ولم نترك شيئاً لم نتهمه , لنعلق فوقه كل أسباب الانتكاســات التي وقعت فوق رؤوسنا , وتخبطنا في التكهنات التي لا أساس لها من الصحة، فزدنا جـُبناً في اتخاذ أي قرار نـُنهي فيه مشاكلنا !
*** يتعرض بعض الناس لبعض المطبات التي تغير مجرى حياتهم , وبعد اليأس من تحسن وضعهم، يتوجهون الى الاِنتقام ممن وضعهم في ذلك الموقف ، وتأخذهم العزة بنشوة النصر وهذا هو الوباء بعينه, وقانا الله وإياكم منه ،... فلا يمكن لأي مثقف أن يلجأ لمثل تلك الحلول حيث قيل: " لا تصلح الخطأ بالخطأ"!,...أو كما جاء بقصيدة الأمام الشافعي (رض):
كن كيف شئتَ فإنَّ الله ذو كَـرم = وما عليك إذا أذنبْـتَ من بـاسِ
إلا اثنتين فلا تقربهما أبـــداً = الشرك بالله والاضرار بالناس
*** أختلف ذوي الأختصاص عن الأسباب لعدم التوفيق في عمل ما أو ما يسمى (بالنحــس)، الذي يلازم عملنا بشـكل متكرر، ويسبب لنا الإحباط المزمن , ولم اجد الجواب الشافي,.. ولم أستطع استنباط أسباب عيش البشر في سعادة أو شقاء! وهل أن الأنسان ُمسيرأم مـُخير؟, *** ومرت الأيام ووجدت في جعبتي العديد من القصص والمقالات مـُكدســة في ذاكرتي!,..
منذ الولادة , مروراً بالأبتدائية في مسقط رأسي "الشطرة", وثانوية الكرخ والثانوية المركزية في بغداد, ودار المعلمين العالية (كلية التربية) وكلية الأحتياط و مدرساً في متوسطة قلعة سكر ومديراً لثانوية الزراعة في الشطرة! , في منتصف العام 1959 , حتى نهايته,... وفي تشـرين الأول" أكتوبر"سنة 1960 سافرت إلى بغداد في مهمة رسمية, وفي أحد الأيام, وبينما كنت أتسكع في شارع الرشيد, التقيت بأحد الزملاء, وتبادلنا التحية, وأخبرني عن وجود بعثات , إلى الدول الأشتراكية, حيث جُـمدت البعثات الى الدول الغربية بعد 14 تموز 1958
*** وفي اليوم التالي واجهت مدير البعثات وقدمت له كافة الوثائق المطلوبة, وقام بتدقيقها ثم هنأني لتطابقها مع شروط القبول في البعثة الى الأتحاد السوفيتي (روسيا حالياً),للحصول على الدكتوراه في الكيمياء وطلب أكمال باقي الوثائق, وسـلمني كتاب القبول , والمرور على مديرالحسابات المالية لأستلام المنحة المالية لطالب البعثة لشراء تذكرة السفر!
*** عملت وكالة لأحد المدرسين في ثانوية الزراعة لكي يتولي الأدارة اثناء غيابي عدة ايام لأجراء بعض الفحوصات في بغداد طالباً منه كتمان الخبرعـن قبولي في بعثة دراسية لخارج العراق , خوفاً من الوشاية, حيث كان الوضع السياسي ملتهب على أثر أخماد ثورة الشواف في الموصل, وودعت الأهل والأصدقاء بسـرية تامة ،..كما قال بن زريق البغدادي :
ودعته وبودي لو يودعني صفو= الحياة على أن لا أودعه
*** كان ذلك اليوم موجعاً ومؤثراً للغاية يصعب وصـفه بكلمات عابرة إنها حزمة أحاسيس وانفعالات كالجمرات في الدم!,... فلأول مرة سـأفارق والدي واخواني لعدة سنوات, لأعيش في بلد أجهل طبيعة مجتمعه, الا ان أنني لم أبالي بالمعوقات, وتجاوزت الصعوبات, مردداً بيتاً من قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
ومن يتهيب صعود الجبال = يعش أبَدَ الدهر في الحفر
وأضافة الى ذلك فقد غمرتني الوالده بعبارات أججت طموحي, وغمرتني بمشاعر لم ستطع التعبيرعنها, فهي مزيج السنوات التي جلست فيها بحضنها وأنا طفل صغير , أما الوالد فقد توشح بالسعادة وهو يودع أصغر أولاده لينال شـهادة الدكتوراه ! , ولذا أصـرَّ على توديعي برفقة العديد من الزملاء لغاية محطة قطار" أُور" الواقعة في أطراف مدينة "أور" الأثرية , موطن الكلدانيون وكيـش, والتي تعتبر من اشـهر المدن في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد عندما اتحدت كلا من "دولة سـومر" و" دولة أكًد " مكونة مملكة اســتمرت زهاء اربعة قرون , و تسلم السلطة عام 2000 ق. م. حمورابي ,و انها مهد النبي ابراهيم (ع).
*** في 1/11/1960 " وصلت مطار موسكو برفقة أثنان من الطلبة , واستقبلنا أحد الطلبة ممن يجيد اللغة الروسية, وقادنا إلى القسم الداخلي للطلبة الأجانب الواقع في (السوكول),.. القريبة من مركز جامعة موسكو"أم كو" التي تعتبر أرقى جامعة في الأتحاد السوفيتي آنذاك، وما زالت , فهي تحفة معمارية، بنيت فوق المرتفعات الموسومة بـ (تلال لـيـنـين), المطلة على ضفاف نهر(الفولكا), الذي يخترق العاصمة موسكو.
صورة لجامعة موسكو الأولى
*** في اليوم التالي لوصولي الى موسكو ، أتممت الوثائق اللازمة للتسجيل في معهد اللغة الواقع بنفس بناية القسم الداخلي،.. مما سهل عملية الوصول للمعهد والتخلص من الطقـس البارد, حيث تـصـل درجة الحرارة الى أقل من (20° مئوية) تحت الصفر , أضافة الى أكوام الثلوج المكدســة على جانبي الطريق , والتي قد يصـل ارتفاعها إلى أكثر من متر!,... ألا أن سيارات النظافة لا تترك تلك الثلوج تتراكم فالتنظيف مستمراً ليلاً ونهاراً,أضافة لمساهمة المتطوعين لتنظيف ممرات المشاة وكل مداخل العمارات والمخازن والدوائر الحكومية.
*** بدأت أشـعر بالراحة النفسية , وفي اليوم الثالث من وصولي ، ذهبت للنزهة في الساحة الحمراء الشهيرة ، والتي تعتبر مركز العاصمة موسكو,.. وفيها (الكرملين) , أي مركز قيادة الحكومة السوفيتية, وفيها منصة الأحتفال فوق مبنى يحتوي على جثمانيين محنطين, أحدهم الـى (لينين) مؤسـس الدولة والثاني لـ (ستالين) , الا ان جثمان ستالين احرق! , ووضع في علبة وضعت في جدار الكرملين في عهد التغييرالموسـوم بـ: (البريسترويكا) في التسعينيات بقيادة رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي آنذاك ( الرفيق كرباتشوف).
صورة لضريح لينين وستالين في الساحة الحمراء
*** تجولت وزملين في تلك الساحة وشعرنا ببهجة ومتعة لا مثيل لها , فالسـاحة واســعة ومكتظة بالبشرمن الجنسين,.. غالبيتهم من الصبايا المتميزات ببشرتهن البيضاء وشـعرهن الأشــقـر,... وثيابهن الشعبية التي تزيدًهن فتنة , واضـافة الى ذلك البهجة الطافحة عليهن كهالة من شعاع غير مـرئي تجذب الناظر لهن بقوة خـفـيـة تضطره لعناقهن لولا الحشمة!
المعالم القديمة في الساحة الحمراء في موسكو
*** نادراً ما يـشاهد أجنبياً يتسكع في شوارع موســكو قبل سنة 1960 حيث بدأ الأنفتاح في مطلع الستينيات في زمن الرفيق خروتشـوف , فهوالذي اتاح للمجتمع الروسي أن يختلط بالأجانب , وســمح بالتعارف بين الشــباب والصبايا من مختلف قوميات المجتمع الســـوفيتي مع الأجانب المقيميين أو السـياح, وهكذا تمكنت وأصحابي بالتعرف على فتيات جميلات, وتم التفاهم معهن بالإشارة وباللغة الأنكليزية,... حيث لم يكن لأي منهم معرفة باللغة الروســـية, كما أن واحدة من الفتيات تتفهم بعض الكلمات الأنكليزية, وعلى أية حال , تم الاِتفاق معهن على لقاء آخر في يوم َغـد باللغة العالمية (الاشارة اليدوية),في محطة المترو!
*** في اليوم التالي وصلت والرفاق إلى المكان المتفق عليه, قبل الموعد بدقائق ، وبعد برهة وجيزة حضرن الفتيات وهن بأجمل زينة ، وتم تبادل التحية معهن بالروســية وبلكنة مضحكة, أفرحت الفتيات لمعرفتنا للغتهن القومية ثم توجهنا نحو شارع "مكسيم غُوركي" الذي يعتبر من أرقى شوارع العاصمة "موسكو" , وعندما حان موعد العشاء عرجنا نحو أشهر مطعم في تحضير الأكلات الشرقية أسمه (أَراكفي) أشتهر بطبخ الأكلات الأذربجانية المشابهة للأكلات الأيرانية في بغداد!,. وبعد تبادل المجاملات طلبنا الأكلات المعروفة في مطاعم بغداد (مثل التهجين على تمن والتشريب واليخني,والقيمة)!
مطعم توراندوت في موسكو
*** استمرت علاقتي مع الصديقه الروسية, بشكل محتشـم لفترة زادت عل الثلاث سنوات، ولم توافق على الأنفصال,... بالرغم من محاولاتي بالأبتعاد عنها لأسباب عديدة منها ألتزامي بالقيم الدينية والأعراف الأجتماعية التي تحرم الأعتداء على شـرف الفتاة قبل الزواج البته, ألا أنها راحت تخطط لأثارتي جنسياً,.. عسى ولعل أن أهيم بها وأتقبل فكرة الزواج منها,.. فأقترحت عليَ قضـاء سـهرة الأحد عند خالتها السـاكنه في بيت قروي ( داجه) , يقع في ضواحي مـوسـكو.
*** بقيت على ذلك النهج أشهراً عديدة و أتذكر "طرفة" وقعت في إحدى الأمسيات حينما هيأت الزميله طاولة عامرة بالأكلات ومن ضمنها (الكافيار وهو بيض سمك معين يكثر في (بحر قزوين), المشهور بمزاياه الجنسية, يسمى بالروسي "أيكرا" وعندنا "ثروب"!
*** تفجرت شهيتي تلك الليلة بأكل الكافيار , حيث كان نادراً وصار يباع بالعملة الصعبة , وبعد لحظات داهمني النوم, والفتاة تتوسل بي كي ترقص معي, الا انني لم أشعر في حينها, لكنني ما زالت أتذكر توسلها بي وهي تندب حظها وتقول:
إكـًدَ,َ أيكرا" أين الكافيار ؟!... وهكذا لم ينفعها الكافيار بتحقيق أحلامها !
والى قصة أخرى ,... مع محبتي
1034 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع