هيفاء زنگنه
لا تزال قضية تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن ابو غريب، من قبل المحتل الأمريكي، وتقديم الجلادين إلى القضاء، حية على الرغم من كل المحاولات المبذولة، سياسيا ودعائيا، لطمسها. الفضل هنا لا يعود إلى الحكومة العراقية التي لم ترفع، يوما، اصبعا لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات، أيا كانوا، بل لايزال تصريح جلال الطالباني، بالتقليل من وقع الجريمة، يوم كان رئيسا للعراق، يرن في ضمير كل من يعمل من اجل وضع حد للتعذيب وامتهان الكرامة الإنسانية.
عادت القضية إلى دائرة الاهتمام، بعد ان اصدرت محكمة استئناف أمريكية، في 21 تشرين الأول/اكتوبر، قرارا باعادة النظر فيها، ونقض قرار سابق اصدرته محكمة ابتدائية باعتبار ان قضية ضحايا التعذيب العراقيين ضد شركة المتعاقدين الخاصة (سي إيه سي آي ـ CACI )، كانت «مسألة سياسية» يجب أن تترك لتقدير الاقسام السياسية وغير قابلة للمراجعة من قبل المحاكم، وأن «سحابة من الغموض» تحيط بتعريف التعذيب. هذه هي المرة الرابعة التي رفعت فيها الدعوى أمام محكمة الاستئناف، مما يدل على شجاعة وايمان الضحايا ومن يمثلهم بتحقيق العدالة مهما كان الطريق طويلا.
تحمل الدعوى القضائية أسم «الشمري ضد CACI ». رفعها مركز الحقوق الدستورية الأمريكي، عام 2008، نيابة عن أربعة ضحايا تعذيب ضد الشركة التي تعاقدت معها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لتقديم خدمات الاستجواب والترجمة في سجن أبو غريب وغيره من المرافق الذي أدارته القوات الأمريكية ومتعاقديها منذ 2003 حتى 2006. نص التهمة: « التعذيب، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، اعتداءات جنسية ومعاملة لاإنسانية في أبو غريب»
ضحايا التعذيب هم: سهيل الشمري، اعتقل في أبو غريب (2003/2008)، وعذبه مستخدمو الشركة مدة شهرين بطرق مختلفة: صدمات كهربائية، الحرمان من الطعام والتهديد بالكلاب، ابقائه عاريا واجباره على المشاركة في أوضاع جنسية مهينة. واعتقل طه ياسين في 2003 حتى2005، وعذبه مستخدمو الشركة لمدة ثلاثة أشهر. حيث أجبر على البقاء في أوضاع مؤلمة لفترات طويلة من الزمن، حرمانه من الغذاء والماء، ضربه بصاعق كهربائي بالرأس. وضربه بشدة بحيث كان يعاني من كسور في الساقين وفقدان البصر. تعرض طه قسرا إلى أفعال جنسية من قبل مجندة بينما كان مقيد اليدين ومكبلا بقضبان الزنزانة، بالاضافة إلى اجباره على مشاهدة اغتصاب سجينة.
أما أسعد حمزة فقد سجن في أبو غريب من 2003 حتى 2004. أخضع للتعذيب القاسي عن طريق اغراقه بالمياه الباردة والساخنة، والضرب على أعضائه التناسلية بعصا، وابقائه في زنزانة انفرادية لما يقرب من عام كامل.
وعانى صلاح حسن من التعذيب الوحشي حيث جرد من ملابسه، وهددوه بالكلاب، حرموه من الطعام، وضربوه، وأبقوه في زنزانة انفرادية. هذا جرد سريع لتفاصيل التعذيب الذي تعرض له المعتقلون الاربعة الذين تم اطلاق سراحهم فيما بعد بدون ان توجه لهم اية تهمة.
من بين ما استند اليه القضاة في قرارهم تقرير لمحققين من الجيش الأمريكي ذكر « ان عددا من محققي CACI تآمروا مع الجنود الأمريكيين، الذين قدموا لمحاكمة عسكرية لاحقة، إلى «تليين» المعتقلين للاستجواب، وهذا ساهم في «انتهاكات سادية ووحشية اجرامية» وتعريض الضحايا « لصدمات كهربائية، والعنف الجنسي والتعري القسري وكسور في العظام، والحرمان من الأوكسجين والغذاء والمياه».
جاء في قرار الحكم لصالح الضحايا ان اصرار الشركة المتعاقدة على ان أفعالها لا تخضع للمحاكم، أمر غير مقبول اطلاقا. وأكد القاضي انه ليس في امكان حتى رئيس الولايات المتحدة شرعنة التعذيب. وتحديد انتهاكات محددة من القانون هو من اختصاص المحاكم دستوريا، حتى لو كان هذا القانون يمس الشؤون العسكرية «. وخلصت المحكمة إلى انه « لا يمكن للجيش أن يمارس سلطته، بصورة قانونية، من خلال توجيه مقاول ما لممارسة أنشطة غير قانونية».
فمن الثابت، باعتراف قوات الاحتلال نفسها، انها اعتقلت 40 الف مواطن (بادخال بيانات رسمية أمريكية، وليس ما قامت به قوات عراقية ومتعاقدون أجانب تحت امرتها، التي اعتقلت اضعاف هذا العدد بدون تسجيل أمريكي رسمي)، 80 بالمئة منهم أبرياء عانوا من اساءة المعاملة بشكل او بآخر، حسب المنظمة الحقوقية الدولية « فرق صنع السلام المسيحية».
واذا كان نشر بعض صور التعذيب قد هز ضمير العالم، فان ما نشر ليس إلا عددا قليلا من مجموع 2000 صورة ترفض الحكومة الأمريكية نشرها، على الرغم من محاولات جمعية «الدفاع عن الحريات المدنية الأمريكية»، المستمرة، التي نجحت، بعد 12 عاما من المعركة السياسية والقضائية، باستخلاص أمر قضائي اجبر البنتاغون على نشر 198 صورة في 29 كانون الثاني من هذا العام. من بين الصور الممنوعة «تعذيب واغتصاب امرأة في السبعين من عمرها وصبي عمره 15 عاما»، حسب الجمعية.
بقدر ما يفتح قرار محكمة الاستئناف الأمريكية منفذا للامل امام ضحايا التعذيب، فأنه يفتح، ايضا، الباب امام جملة تساؤلات حول دور الحكومة العراقية، ومسؤوليتها القانونية والاخلاقية، في حماية مواطنيها. ما الذي كان بامكان الحكومة القيام به؟ كان بامكانها أن تحذو حذو المنظمات الدولية وتطالب قوات الاحتلال، باجراء تحقيق مستقل وعلني في هذه القضية.
أن تطالب باجراءات قانونية دولية انصافاً للضحايا، ومن باب ان الجميع، سواء كانوا عراقيين أو أمريكيين، لهم الحق بمعرفة الحقيقة، على الاقل. كان بامكانها ان تشكل لجنة تحقيق خاصة وتعلن نتائجها، وان تساهم بمعاقبة ولو جلاد واحد لتثبت للمواطنين ادانتها للتعذيب، وانها لا تتساهل مع من ينتهك حقوق الانسان. كان بامكانها العمل وفق قانون مناهضة التعذيب القائل « لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية ايا كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب او تهديدا بالحرب او عدم استقرار سياسي داخلي او اية حالة من حالات الطوارئ العامة الاخرى كمبرر للتعذيب».
كان بامكانها، منذ عام 2003، ان تفعل الكثير، لتخفيف الاحساس بالاهانة والرغبة بالانتقام جراء الظلم الكبير، فتجارب الشعوب من جنوب افريقيا إلى كمبوديا وتونس، تدل على ان البناء الحقيقي للبلد لن يتم بدون احترام حقوق الانسان وكسر حلقة التعذيب والانتقام والقتل. إلا انها اختارت إلا تفعل. وها هو العراق يحصد النتائج الكارثية اليوم.
935 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع