فبركة إعلامية: براءة الذئب من دم يوسف

                                                        

                                    هيفاء زنكنة

هل بتنا نعيش في عصر نتوسل فيه الأكاذيب ونعيشها؟ ما يزال صوت الشاعر البريطاني أدريان ميتشل يقطر في أذني مرارة وغضبا وهو يقرأ قصيدته « إلى من يهمه الأمر: اكذب علٌيَ «في أمسية لمناهضة الحرب العدوانية على العراق.

يومها، أردت أن أقرأ قصيدة عن المقاومة، فاخترت قصيدة الشاعرة العراقية نازك الملائكة عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد. وأختار ميتشل قصيدته المشهورة عن الأكاذيب، عن الحرب الأمريكية ضد فيتنام التي بدأها بصوت يشبه التراتيل الدينية « دهستني الحقيقة ذات يوم/ منذ ذاك الحدث وأنا أسير بهذه الطريقة/ فصُب ساقيَ بالجبس/ وكَذِب علَيَ «وأنهاها بصوت تصاعد غضبا حين ذكر أفغانستان وفلسطين والعراق، متسائلا ليُذكر الناس بمسؤوليتهم تجاه الحقيقة: «أين كنت حين وقعت الجريمة؟»
واليوم؟ ومع تزايد الحروب واعترافات الإعلاميين الغربيين بترويجهم الأكاذيب مدفوعة الثمن، هل ما نشهده هو عصر ما بعد الحقيقة؟
«كلا. نحن لا نعيش في عصر ما بعد الحقيقة. لا في الغرب ولا في الشرق الأوسط. نحن نعيش في عصر الأكاذيب. هكذا كان حالنا ولا يزال»، كتب الصحافي البريطاني روبرت فيسك الذي عاصر ويعايش الأحداث في البلاد العربية لعقود. قد لا يكون لصوت فيسك ذات القوة الشعرية الساحرة التي تميز بها الشاعر الراحل ميتشل، إلا انه لا يقل تأثيرا حين يستقصي الأحداث، مجردا إياها مما يحيطها من أكاذيب، ليمس جوهرها، ويقدمها إلى جمهور القراء كما هي: الحقيقة العارية.
في عصرنا (الأمثلة كثيرة فلا نحتاج العودة إلى التاريخ) صارت «الحقيقة» مصطلحا مبهما، تتجاذبه الأهواء والمصالح، وتتحكم به أجندات أنظمة ودول ومؤسسات، محلية ودولية، إلى حد إننا لم نعد قادرين على تمييز الحقيقة حتى لو التقينا بها وجها لوجه.
صارت، أيضا، بضاعة قابلة للتصنيع السريع. هناك أجهزة ومؤسسات تقوم بتصنيعها وتوزيعها وبيعها، مثل معامل إنتاج وبيع علب معجون الطماطة والحمص. قد تكون الأجهزة معامل متخصصة بالإنتاج العالمي أو المحلي بالوكالة، حسب الحاجة. لم تعد « الحقيقة» سمة الأنبياء والأديان والصالحين أو حتى نتاجا أصيلا لأمة، تحرص على إبقائها أصيلة بلا تشويه. « الحقيقة»، اليوم، مفبركة، ومزيفة مثل البضائع الصينية التي تكتسح الأسواق فتشتريها الحشود وان أدركت إنها ليست أصلية.
«الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب»، واحدة من الأقوال الشائعة التي ازدادت حجما وانتشارا مع سرعة تناقل الأخبار بدون تمحيص أو تدقيق عبر وسائل التواصل. فكم من أكذوبة تم تضخيمها، وكم من خبر ملفق تم الاطلاع عليه وتصديقه وإعادة توزيعه من قبل الآلاف خلال دقائق! ولعل أوضح الأمثلة هي التي رأيناها، في ظل إعلان الولايات المتحدة الأمريكية «الحرب على الإرهاب». وازدهرت صناعة التلفيق في سوريا والعراق، خاصة، منذ استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل، وإعلان معركة «تحرير الموصل». يُشكل هذا الازدهار التلفيقي خطا موازيا لضمور الحقيقة لخشية الصحافيين من قولها، أما خوفا على حياتهم وحياة أحبائهم، واختطاف الصحافية العراقية أفراح شوقي، أخيرا، أفضل مثال، أو لاقتناعهم بدور الإعلام الدعائي أو الإعلام مدفوع الثمن.
خرقا لهذه الصورة وبحثا عن الحقيقة، يعكف موقع «نقاش»، المؤسس ألمانيا، على تشجيع الرصد والتحليل الاستقصائي لعدد من الأخبار وأشرطة الفيديو والبرامج التي تم الترويج لها باعتبارها حقيقية، وبعد إقامته دورة للصحافيين للتحقق من صحة الأخبار المنشورة على مواقع اجتماعية أو وسائل حكومية. نتج عن الورشة موضوعات عدة. فتحتَ عنوان «صورة واحدة وروايتان: القوات الأمنية في كردستان تعرض متهما واحدا في قضيتين»، يبين الموقع إن إعلان القوات الأمنية اعتقال متهم «داعشي» بتفجيرات كركوك في تشرين الأول/أكتوبر 2016، وعرض اعترافاته، تلفزيونيا، هو مفبرك، لأنه ذات الشخص الذي تم عرضه عام 2014 بتهمة إرهابية مماثلة، مما يعني انه يجب ان يكون معتقلا، حسب قانون الإرهاب، أثناء تفجيرات 2016. ولم يتمكن فريق « نقاش» من الحصول على أية معلومات حول وجود الشخص المتهم، وان توفرت لديه معلومات حول لجوء قوات الأمن إلى اتهام أبرياء ثم إطلاق سراحهم أو إعادة اتهامهم لإثبات قدرتهم على إلقاء القبض على «الإرهابيين».
قام فريق «نقاش»، أيضا، بتمحيص شريطي فيديو انتشرا، واستخدما سياسيا ودعائيا، بشكل غير مسبوق، منذ احتلال الموصل عام 2014. يُظهر الأول مجموعة من أهل الموصل وهم يرمون رتل قوات عراقية بالحجارة. بعد إخضاع الفيديو للتحقيق والمتابعة تبين انه لم يحدث في مدينة الموصل، كما أُشيع بل في مدينة الصدر ببغداد عام 2013 أي قبل عام من احتلال الموصل. أما الفيديو الثاني فيظهر أشخاصا بلباس عسكري وهم يقومون بضرب طفل بين سن (13-16) وإعدامه برصاص الرشاشات ومن ثم دهسه بواسطة دبابة. انتشر الفيديو بعد 26 يوماً من انطلاق «معركة الموصل»، ونفى الجيش العراقي مسؤوليته عن الحادثة و»اتهم تنظيم «داعش» بالوقوف وراءه لتضليل الأعلام، وان على وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني التحقق من صحة هذه الادعاءات والتعاون مع قيادة العمليات المشتركة».
أجرى فريق نقاش تحقيقا رقميا على مقطع الفيديو وتوصل إلى نتائج تشير إلى ان قوات الأمن العراقية هي المسؤولة عن الحادث». شمل التحقيق نوع الدبابة الروسية الصنع المستخدمة من قبل الجيش وميليشيا الحشد الشعبي ولا يملكها «داعش». شمل التحقيق لهجة الجنود وتفاصيل الحوار الدائر مع الطفل قبل اطلاق النار عليه ودهسه.
«وحتى الآن، لم تصدر الحكومة العراقية تفاصيل أخرى عن الحادثة واكتفت ببيان أصدره قائد الجيش بالموصل نفى فيه مسؤولية قوات الأمن العراقية»، حسب الموقع.
ان دخول المواطن عالم التواصل الاجتماعي الالكتروني، ونشر الأخبار بسرعة، ساعد على تخفيف هيمنة أجهزة الأعلام التابعة لهذا النظام أو ذاك التنظيم، إلا انه طريق قد يدفعه للسقوط في شبكة الأكاذيب المنظمة التي تكرس لها الميزانيات بملايين الدولارات، إن لم يكن واعيا، فيُصبح أداة لتدوير الأكاذيب بدلا من التنوير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

550 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع