بقلم د. رحيم الغرباوي
كاهنة الحمام رؤيا أسطورية بين الواقع والُمتخيَّل , قراءة في قصيدة ( سميراميس ) للشاعرة ليلى الماجد من مجموعتها الشعرية ( ترانيم من خلف القضبان ).
يبدو أنَّ الشعر عملية تداخل الوعي واللاوعي ، وهو يمارس صياغة " فهم الوجود وسبر أغوار الكينونة المتنوعة الأبعاد عندما تخضع لآلية الكشف , وهي تحاور العالم الخفي , بوصفَّ الشعر يجوبُ آفاقاً جديدة في الوجود , وهو يبتعد في أعماقه عن عالم المحسوس , ويندس في فضاءات الخيال ؛ مؤسساً رؤية اكتناه العميق "(1) فيحلِّق في فضاءات اللاشعور الجمعي , إذ إنَّهناك عالم الأساطير ؛ لذا فالشعر يفتح نافذةً على العالم البعيد , لكنَّه لايريد العيش به , إنَّما يفتح نافذةً عليه من الواقع المعيش .
ويتَّفق علماء الاجتماع " بوجهٍ عام على ضرورة تفسير الأسطورة ضمن إطار البناء الاجتماعي والثقافي السائد في المجتمع الذي تنتمي إليه " (2)على الرغم من أنَّ هناك مدارس تميل إلى الفصل بين الأسطورة وسياقها الإجتماعي , ودرسها كشكل فني مستقل , ومن هذه المدارس المدرسة البنيوية , ولعلَّ رأينا في كثير من النصوص الأدبية أن لانقطع ما يعتري النفس الإنسانية المبدعة وما تستشعره وتعبِّر عنه ممزوجاً بالمؤثرات الخارجية ومنها الثقافة المكتسبة وتأثيرات المجتمع عليها كلّ ذلك يشكِّل وحدة متكاملة يتعاطاها النص الأدبي ؛ كي يجد نفسه مولوداً ولادة شرعية من رحم المنتج ومحيطه .
ولما كان عالم الأسطورة مدهشاً وساحراً كما يرى ( ستراوس ) , وهي كالحلم عند (فرويد , ويونغ ) ؛ لذلك نرى الإنسان لاسيما الشاعر يستجيب لهذه البنى الثقافية , لما تحمله في فضاءاتها من معاني مجترَحة يمكنها أن تعبِّر عما تختزنه أعماق الذات الإنسانية من تلك المعاني القابلة للفهم والتأويل , فالأسطورة هي ماهية رمزية يستعذبها الشعراء في حمل دلالات عميقة المرمى , فهي كالموسيقى ترقى إلى مستوى الرموز متخطيةً المحسوس والمعقول معاً (3 ).
والشاعرة القديرة ليلى الماجد لها رؤيتها الشعرية المستقلة , إذ نجدها تعبِّر بشفافية هادئة عمَّا يعتملها من شعور رقيق دافيء , نراها تطرزه بأعذب المفردات وأندى المضامين , كما نرى رؤيتها المستقلة في بعث الحياة ," فالرؤيا الشعرية , في حقيقة الأمر مسعى يستهدف الشاعر لا القصيدة أي إنَّها تعنى بتجديد الشاعر أولا وعياً وثقافة وذائقة ونظرةً إلى الحياة والعالم قبل أنْ تعنى بالنص" في لحظة حياتيةٍ ما (4) .
وشاعرتنا المُجيدة ليلى الماجد في قصيدتها ( سميرا ميس ) تحلِّق بنا في أجواء الخيال , وهي تشبِّه روحها بالنوارس ؛ لما تمتلك تلك الطيور من شفافية عذبة تتوق لها النفس كما أنَّ لونهاً يوحي بالنقاء , فهي العائدة إلى أعشاشها من جديد ، لكن نرى شاعرتنا تعرض عودتها بميوعة الاستكانة والغنج ؛ يوميء بذلك شيوع أصوات الهمس في فضاء قصيدتها , فهي تقول :
كما النوارس روحي
تهاجرُ إليك ,
تحوم حولك أطيافها
هي عودة الحياة
إلى ربوع النخيل
إلى الجذوة الوارفة
فالأصوات المتكررة ( النون , السين , الحاء , الهاء , التاء ) هي أصوات هامسة تتناغم وماتستشعره شاعرتنا مناغمة مايتطوَّف في أفق مخيلتها , وما تستبطنه من شعور ؛ لتترجم لنا هواجس الشوق التي تعتريها ؛ مما يجعلها تحلِّق في عالم الخيال المُستَعذب الجميل , إذ نجدها في لغتها , تحاكي رموز الطبيعة ( فالنوارس , والنخيل , والجذوة ) تشير إلى العطاء المعنوي والمادي كلاهما معاً , وهي تتعالق فيما بينها , فـ (النوارس ) كما أسلفنا رمز النقاء , والعودة إلى أوكارها من جديد لابد أن تتمتثلها معاني النقاء والنوايا الصافية الأغراض , و( النخل ) هو رمز العطاء والإيواء لتلك النوارس , حتى شدَّد رسولنا الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أحاديثه الشريفة على رعاية النخلة فقال " أكرموا عمتكم النخلة " ؛ لما لها من خير وارف , بينما ( الجذوة ) إشارة إلى النار التي كانت وماتزال الوسيلة لتسهيل مهمة الإنسان للعيش في الحياة ، والجذوة جوهر النار التي يستعملها الانسان لطهو الطعام وتذليل معوقات الطبيعة وتسخير معادنها لخدمته والذي يغري أنَّ الشاعرة تلوح لأسطورة ( بروميثوس ) سارق النار من الآلهة ، حين جعلها بيد البشر , ألا يستحق الحبيب بروميثوس عودة النوارس لرحابهِ مرَّةً أخرى .
ثم تمازج السيدة الشاعرة بين مطلع قصيدتها الممثَّل برمز النوارس و سميراميس التي تمثل كاهنة الحمام في المعتقدات الإغريقية القديمة فنراها تقول :
سميراميس
أعلنت العودةَ
لمحرابها
كاهنةً
تظلُّ تداري الحمام
وتبعث للسلام الهدايا
وللضحكةِ جميلَ الوئام
تواري أساها
للبسمة
للشذا
لعيون السلامْ
فهي تشير إلى " البطلة الآشورية التاريخية الأسطورية سميراميس أو كاهنة الحمام التي ربَّتها الحمامات , ثمَّ رباها الرعاة ، فصارت فتاة جميلة يتعشَّقُها كبار الفرسان , وقد تزوجها الملك نينوس , فخلفته على العرش بعد موته , وقامت بفتوحات باهرة وقيل : إنَّها تحوَّلتْ إلى حمامة وأُلِّهتْ " (5) ؛ مما جعل الشاعرة تستوحي رمز سميراميس ؛ لتجعل من نفسها ذات الاعتداد العالي من أنَّ شخص سمير اميس الملكة التي تحولت إلى نورسة اشتاقت للعودة إلى مملكتها والعيش مع مَن فارقته في موقف حياتي ما مانحةً رمزها ذات الوصف من النقاء والطهر والتعبد في محراب الحبيب الذي يأويها بهمسه وحنانه , ولعلها وهي تعيش هذا الإحساس نراها قد عبَّرتْ عنه بشذا نفحها للكلمات الرقيقة , إذ نجدها تشيع ألفاظ المحبة والوئام التي أوردتها في أروقة النص ومنها : ( السلام , الهدايا , الضحكة , الوئام , البسمة , الشذا ) وهذه الألفاظ توميء إلى حرصها الشديد ؛لأنْ تجعل من القصيدة روحاً واحدة تعبِّر عن سرورها في العودة إلى مملكتها التي غربتْ عنها في لحظة حياتية وفي زمن قد مضى , وهكذا يأتي الشعر" استجابةً لهذا العلو الكامن في جوانيَّة الإنسان , ذلك الفن التائق أبداً للتمظهر عبر الكشف الذي لايصله الإنسان إلا من خلال لغةٍ كشفية , استبطانية صوفية قادرة على الولوج إلى أعماق أعماق النفس حيث تكمن الحقيقة الإنسانية الخالدة والجوهرية " ( 6) , وللارتقاء باللغة من المستوى التداولي إلى المستوى الكشفي ؛ كي تتصل الروح بالجوهرالخالد المتعالي فهناك مكمن الحقيقة الناصعة , وهي تترجم مايعتمل شعور الانسان
شكرنا للأستاذة الفاضلة ليلى الماجد التي جعلتنا نتطوَّف في ربوع خيالها ونتضوع من مضامين قصيدتها أقحوان المتعة المؤنسة ومن ربيع أسلوبها ذوقاً شفيفاً هامس التلاوين
(1) النبوءة في الشعر العربي الحديث , د. رحيم الغرباوي : 51 .
(2) في نقد الفكر الأسطوري والرمزي : د. أحمد ديب شعبو : 27 .
(3) ينظر المصدر نفسه : 28- 29 .
(4) ينظر في حداثة النص الشعري : د. علي جعفر العلاق : 11 .
(5) معجم أعلام الأساطير والخرافات , د. طلال حرب :204 .
(6) الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر , د. غسان غنيم : 22 .
787 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع