محمد الكحط
في اليوم الثالث من تموز 1963 كان نحو مئتين من الجنود وضباط الصف قد قرروا أن يأخذوا على عواتقهم تحرير البلاد من الحكم البعثي. وقد تضمنت خطتهم الاستيلاء على معسكر الرشيد ومهاجمة السجن العسكري. لقد أقاموا نقطة تفتيش عند مدخل المعسكر بثقة بالنفس تتسم بالجرأة والإقدام. واعتقلوا وزيرين ولكنهم أبقوا على حياتهما. ولا ندري هل أنهما أظهرا ثباتاً كالذي أظهره ضحاياهما بوجه الذين ألقوا القبض عليهم. وإن كنت أنا أستطيع التخمين بشأن ذلك. وقد حدث العكس الآن، فقد قبض على التائرين وسرعان ما سيقتلون رمياً بالرصاص.
في العاشر من تموز نقلونا إلى السجن العسكري رقم واحد. كان مدير السجن يقف عند الباب، وكان بديناً قصير القامة، له شعر أحمر ووجه كاليقطين مع كتفين كبيرين ممتلئين. كان علينا أن نمرّ من أمامه فرداً فرداً ونفتح أمامه ما نحمله من رزم لكي يفتّشها بنفسه. ويختلف هذا المركز عن مركزي الاعتقال السابقين، فهذا يحتوي على زنزانات خرسانية صغيرة ذات أبواب حديدية، والممر ينم عن وجود إصابات، فقد كنا نسمع أنين الآلام المنطلق من ثوّار الثالث من تموز الذين عذّبوا على مدى أسبوع كامل. رأيناهم وهم يساقون من زنزاناتهم إلى المرافق: هذا فتى بقميص ملطّخ بالدماء وهذا رجل بجرحٍ في رقبته وهذا آخر بوجه متورم ورابع بسائل أصفر يسيل من عينيه الجاحظتين وهذا شخص بأصابع متكسرة. إنهم رجال عتاة يضمرون خلف ظاهرهم الخشن روحية شاعرية. إنهم شجعان يعرفون بالضبط ماذا يقولون لمن هو أكبر سناً، ولمن هو غريم، ولمن هو رفيق سلاح، وهم يعرفون كذلك كيف يستخدمون بندقية. لا تظهر عليهم مخائل التميّز، أو لعل عليهم مخائل الفناء التي تظهر على الوجوه جراء الإزالة المتعمدة لكافة التعابير من وجوههم. وإنها لفكرة ملفتة أن يكتسي وجه المرء بسحنته الاعتيادية جدّا وقلبه يقاتل في أنبل المعارك، سواء انتصر فيها أو خسر.
إن صورة أولئك الشباب الذين وجدوا في أنفسهم ما يكفي من القوة لتحريرنا من السجن والذين سيموتون من أجلنا هي صورة لا تغادر مخيلتي حتى اليوم. إن كل واحد من أولئك الذين سيلاقون ميتة شنيعة له أخ أو أب أو ٳبن. ماهي المادة الدستورية، وما هي الفقرة في البرنامج السياسي لحزب البعث التي تقضي بمعاملة هؤلاء مثل هذه المعاملة؟ قد تظن أن هناك جرحاً ليعالج. ليست هناك. إن الجروح يقصد بها أن تكبر وتنتشر في الجسد بأسره، وأن تحمل العدوى لأعضاء الجسم السليمة، وأن تخضع البشر لأنواع شتى من العذاب. وليس لأحد أن يتدخل.
أمضينا سبع ليالٍ في ذلك الجحيم المزدحم. قسّمونا على مجموعات في كلّ منها ٳثنا عشر سجينا وحشروا كلّ مجموعة في زنزانة لا تكاد تسع ثلثي هذا العدد. الزنزانة ذات جدران ملساء وسقف أملس، وليس فيها ما يمكّن المرء من أن يشنق نفسه. ومصدر التهوية الوحيد هو نافذة صغيرة في الباب، مساحتها أقل من قدم مربع، وعليها أوتاد أفقية وشاقولية. الوقت يتحرك بخمول، على نحوٍ أبطأ من عقرب الساعة. وفي الليل حين تحاول أن تنام فإن الغطاء الذي تحتك هو بحر من النيران، مع أصوات فظيعة تقول لك من خلف ظهرك: “انتظر. سنأتي لنأخذك”. وذات ليلة فتحت عيني فرأيت سجيناً شاباً ينحني على الباب. استفسرت منه عن حالته وهل هو على مايرام، فقال: “الذي بجانبي يمرّ بليلة صعبة. لديه مغص شديد. أعطيته مكاني.” في تلك اللحظة أحسست بأنني على ثقة بأن الأمور ستكون حسنة، لأن الحضارة ترعانا.
في الصباح أخرجونا للسير في ساحة السجن وتركونا واقفين في الشمس. تكاكأنا وغرقنا في أفكارنا، وهي أفكار سجين ليس إلا. كان الذي يقف بجانبي قد أغلق إحدى عينيه تماماً وجبهته ووجنته ملطختان بدم جاف. كان هذا هو الضابط البحري صلاح الذي ألقي القبض عليه للتو بعد هروبه. إنه سيهلك في محاولة هروبه الثانية.
عند الظهيرة دخلت ناقلة جنود إلى ساحة السجن فانطلقنا نحوها وتهاوينا على مقاعدها الخشبية. كنا نشق طريقنا بصعوبة خلال دقائق الصباح التي بدت عصيّة وأزليّة عندما بدأت. والآن سقطت ميتة ولكنها ستترك أخاديد في ذاكرتنا. توقفت السيارة عند بوّابة محطة القطار لغربي بغداد. وقفنا على الرصيف أمام قطار البضائع وكانت ماكنته البخارية تقذف بالدخان في الفضاء. أخذنا نختفي الواحد بعد الآخر في داخل القاطرة الحديدية. ما أن صرنا في داخلها حتى انزلقت أبوابها نحو الانغلاق. لم يكن هناك ضياء ولا تهوية. الحرارة تشع علينا من السقف والحيطان لذلك المكعب الحديدي. أما الأرضية فمغطّاة بمزيج من القطران وقاذورات الماشية. إن الرائحة الكريهة لهذا المزيج، بالإضافة إلى عرق السجناء، قلب القاطرة إلى جحيم نتن. لم نكن ندري إلى أين يأخذوننا ولا نعرف كم ستطول رحلتنا. كنا نسأل بعضنا بعضاً: “هل هم قادرون على التخلص من اثنين وأربعين جثة؟ هل يخططون لإخفائنا مدفونين في مقبرة جماعية؟” وبما أن كل شيء متوقع في حالة طوارئ فقد توقفنا عن التساؤل والتخمين. ولكن ارتطام كابحات القاطرة على السكة بصوته المكتوم والضرب على الأبواب أعادنا إلى الواقع. انفتحت الأبواب وتكدسنا في الخارج. كنا محصورين في ذلك القفص أكثر من أربع ساعات ونحن على مقربة من الموت، ولكن معنوياتنا لم تنكسر بالكامل فقد احتفظنا في صدورنا بشيء من التمكّن على الإبلال من المحنة.
علمنا في ما بعد أن مجموعة أخرى من السجناء كانت قد قامت بالرحلة نفسها قبلنا بيوم. فقد ثلاثة منهم وعيهم، وتوفّي أحدهم على الرصيف وكان ضابطاً برتبة نقيب. ولهذا أصبحت تعرف تينك الرحلتين برحلتي “قطار الموت”. من ذا الذي يستطيع أن يتخيل ذلك الكابوس الشبيه بما كتب عنه دانتي؟ إن غرابة الوحشية ذاتها تجعل من ذلك الفعل ضرباً من الخيال، وهي وحشية تصدر عن عقل سادي.
أخرجونا من محطة القطار إلى سيارات عسكرية كانت واقفة عند الباب. جلسنا فيها كتفاً لكتف وبدأنا السير، من طريق مبلّط إلى طريق ترابي، ونحن نتّجه غرباً بصحراء شاسعة ليس فيها شجرة أو هضبة أو علامة تستقر في الذاكرة. قال أحدنا: “أقسم أنهم يأخذوننا إلى النگرة”. وهبطت قلوبنا. يالها من كلمة، تلك المفردة العاميّة العراقية، “نگرة” يالها من كلمة قوية حسنة التركيب. إن المرء يتحسّس أن فيها قوة الحفرة العميقة التي لا يمكن الفرار منها، وكل هذا بأربعة حروف فقط!
كان الغبار يهب على وجوهنا ويتغلغل في عيوننا وأفواهنا ومناخيرنا. وتنقطع رتابة المشهد هنا وهناك بصف من الحجر وقد رتّبت دائرياً وتكاد تختفي بالرمال المتراكمة، ولعلها بقايا لمكان توقّف البدو الرحالة. وقفنا عند واحة. الماء يتدفّق من ينبوع فيصب في تجويف صغير، ومن حوله شريط من الحشائش الخضراء يشبه الهالة. إنها قطعة من الجنّة وسط الرمال الحارقة. كان هناك بدوي شاب على ظهر حصانه وقد جاء براحلته للشرب. نظر إلينا بمزيج من الامتعاض والتخوف. ولا غرابة في ذلك فقد كنا كالمصابين بالمجاعة لشدة هزالنا.
وضعنا أيدينا في الماء وغسلنا وجوهنا. ما طول المدى على هذا الينبوع وهو يضخ ماء عذباً؟ كان الفرات يجري هنا قبل أربعة آلاف سنة. وكانت هذه الصحراء ذات يوم عامرة بالمدن والزراعة. وتحت سطحها إرث مدفون لآلاف السنين. إذا حفرت في الرمل فلن تجد السحالى والعقارب بل تجد ألواحاً عليها كتابة مسمارية.
وعلى أساس ما هو مكتوب في واحدة من تلك الألواح فإن إنتاج القمح المقدّر في هذا الجزء من العالم في حوالي سنة 2400 قبل الميلاد يساوي إنتاج أفضل حقول القمح الحديثة في أمريكا أو كندا. كان قد عثر على ختم حجري من العهد السومري عليه رسم محفور يصور محراثا من ذات النمط الذي رأيته في قرية الحسينيّة، ولكن فيه شيء آخر هو أنبوب مربوط بالمحراث ليبذر الحبوب في الأرض التي تحفر للتو، أشبه بمذراة زراعية مستخدمة في العصر الحديث.
إن بقايا مدينة أوروك (الوركاء) تقع على بعد ستين كيلومتراً من المكان الذي نقف فيه. ويتذكر الناس من قراءة كتب التاريخ أن الإنسانية قد بدأت بتحقيق الحضارة وتقانة الري في ألوركاء. وفيها جرى اختراع العجلة والعربة والبكرة والمحراث، كما جرى وضع نظام رياضي لم نزل نستخدم قواعده في تقسيم الساعة إلى ستّين دقيقة وتقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة وكذلك درجات الدائرة. في الوركاء أيضا وجد المنقّبون الألمان قبيل الحرب العالميّة الثانية تمثالا منحوتا من الرخام لراس فتاة بالحجم الطبيعي يعود تأريخه ٳلى سنة 3000 قبل الميلاد وهو أقدم تمثال من نوعه في العالم. والأهم من كلّ ذلك هو أن عبقرية مجهولة ٳكتشفت في تلك المدينة أن رمزاً مادياً يمكن أن يمثل كلمة منطوقة. إن ذلك العبقري قد حرر اللغة من المتكلم وبدأ بعملية تاريخية لم تزل مستمرة حتى اليوم وهي عملية الكتابة. إن في ذلك لمفارقة بعينها إذ أن الكتابة وبناء المدن وغير ذلك من مفردات الحضارة قد اخترعت كلها في بلاد الرافدين قبل أربعة آلاف سنة وسيجري حالياً في الوقت نفسه سوق مواطنين أبرياء إلى قلعة في الصحراء لحجزهم فيها.
انتهى الطريق الترابي عند حافة حفرة واسعة. أخذ السائق ينحدر بالسيارة إليها بحذر حتى توقف أمام مكتب مدير السجن، وكان يرفرف فوق بنائه علم حائل اللون. إلى يسار المكتب ويمينه يمتد جدار مرتفع رمادي اللون وكأنه قد أقيم ليبقى إلى الأبد تحت حرارة الشمس. كان المبنى قد أنشئ في الأصل كمركز مراقبة لمنع تسلّل البدو من السعودية، ثم جرى توسيعه وتشييد جداره في سنة 1947 ليتخذ سجناً لسجناء الضمير. كان له باب حديدي منخفض يبلغ ارتفاعه أقل من خمسة أقدام. خرجنا من السيارة الواحد بعد الآخر، وكنا نحني رؤوسنا لئلا تضرب أسكُفه الباب، وسرنا داخلين الواحد تلو الآخر.
765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع