عائشة سلطان
قالت صديقتي إنني أدمنت التنقل كل خمس أو ست سنوات من بيت لآخر، أشعر بأن نداء خفياً يناديني لأذهب إلى هناك، إلى مكان مختلف، وشوارع مختلفة وجيران مختلفين، أصادق التغيير والمختلف، ولا أجعل الذكريات والأمكنة تسيطر علي أكثر مما ينبغي، أو تتحكم في مسار حياتي، قالت أيضاً إن بقية أفراد عائلتها عارضوها في ذلك واختلفوا معها، لأنهم يحبون الارتباط بمكان سكن محدد، ابنتها قالت لها: أتمنى أن أنام في غرفة النوم نفسها لخمس سنوات متتالية، هي مبتهجة بهذا، وتجده أمراً صحياً ورائعاً، سألتني بتلقائية، هل هذا السلوك جيد؟، قلت لها الأمر لا علاقة له بالسيئ والجيد، ولكنها طبائع الناس وتركيباتهم النفسية، وفي هذا يختلفون في ما يحبون، وكيف ينظرون للعالم والحياة والأمكنة!
قلت لها إن الناس - وهذه قناعة خاصة - ينقسمون في نظرتهم ومنطق تعاملهم مع كل أمورهم إلى نوعين: نوع يفكر بمنطق الأشجار، ونوع يفكر بمنطق الطيور، وهنا لا يمكننا أن نقول أيهما أفضل، أو أيهما أسوأ، لكنها طبيعتنا وتنشئتنا وثقافتنا وطريقة تقييمنا وإدراكنا لأنفسنا ولكل ما حولنا، هي التي تتحكم فينا، وفي أن نكون أشجاراً نحب البقاء في نفس التربة ونفس المكان، نمد جذورنا في عمق المكان، ونموت إذا اجتثثنا منه، أو نكون طيوراً تكره القيود والأقفاص، وتفضل الحرية والانطلاق، مع ذلك، فهناك من ينظر الوفاء للمكان والذاكرة نظرة تقدير، وهناك من يعتقد بأن التغيير أهم من الاستقرار والحرية أهم من كل شيء!
حينما لا يكون لديك ما تخسره، يكون قلبك جسوراً بما يكفي لتشعر كما يشعر عصفور، لا يثمن شيئاً كما يثمن حريته وفضاءه ورفيق عشه، هذه الجسارة تحولك إلى عدو لدود للبعض، دون أن تعلم لماذا، وتصبح كائناً لا تطاق خفته، حسب تعبير ميلان كونديرا، لكنك حين تملك وحين تتعلق بالأشياء والذكريات ، عندها فقط تصير كائناً حذراً جداً .
تعد نفسك بأنك لن تكبر، وستظل متفتحاً وممتلئاً بالشغف، تماماً كوردة الخلود التي لطالما سعى جلجامش السومري للحصول عليها، وتظل متباهياً بقدرتك تلك، ومتمتعاً بتلك الطفولة وذلك العنفوان، إلى أن تهطل عليك تلك السنوات التي تجعلك تغادر الطفولة إلى غير رجعة.
الخوف يغتال شغفنا بالحياة، فأنت طفل، طالما أنك لا تخاف ولا تفكر في عواقب الأمور، وبمجرد أن تضع قدميك في نهر القلق والحسابات، تغادرك الطفولة تماماً، وتسقط في الخوف الوجودي، الذي يشبه بئراً بلا قرار!
592 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع