بوشكين بين الترجمة والاقتباس

                                                      

                             أ.د. ضياء نافع

لا توجد بالعربية دراسات او حتى اشارات الى هذا الموضوع حسب معلوماتنا , ونحاول هنا ان نطرحه في خطوطه العامة ليس الا , على أمل العودة اليه لاحقا بشكل أوسع , اذ انه موضوع يستحق التأمل والدراسة المعمقة في مسيرة الادب الروسي وتاريخه اولا , وفي مجال دراسة الادب المقارن ثانيا, رغم ان معظم القراء الروس - بشكل عام-  لا يتقبلون بتاتا , بل و يرفضون رفضا قاطعا القول , بأن بوشكين قد (ترجم!) بعض نتاجاته عن لغات اجنبية, و هم يعتبرون نتاجاته روسيّة بحتة شكلا ومضمونا حتى لو كانت مقتبسة او جاءت على وفق المحاكاة. سنحاول في مقالتنا هذه ان نتوقف عند حكاية واحدة من حكايات بوشكين وهي – ( حكاية الصياد والسمكة ) باعتبارها انموذجا بين نتاجات بوشكين المرتبطة بموضوع الترجمة والاقتباس , اذ لا يسمح المجال في اطار مقالتنا بالتوسع  اكثر .
 ض.ن.

كان بوشكين - مثل كل النبلاء الروس آنذاك – يعرف اللغة الفرنسية بشكل جيد جدا منذ طفولته , بل ان بعض الباحثين يشيرون الى ان بوشكين كتب اول قصيدة له بالفرنسية , وعدا اللغة الفرنسية كان يعرف عدة لغات اخرى . هناك ايضا لغات اجنبية عديدة حاول بوشكين  اثناء مسيرة حياته   ان يتعرّف عليها و يدرسها – بشكل او بآخر -لاغراض ابداعية , بما فيها العربية , وقد تم طبع الاوراق والمسودات التي كانت موجودة لدى بوشكين , ويرى القارئ فيها كل محاولات بوشكين للتعرف على تلك اللغات , وتوجد هناك بعض الحروف العربية ولفظها بالروسية بخط يده . لقد بلغ مجموع هذه اللغات التي يتقنها بوشكين او التي تعرّف على خصائصها العامة (16) لغة وهي – الفرنسية / و الفرنسية القديمة / والايطالية / والانكليزية / والالمانية / واليونانية القديمة / و اللاتينية / و الروسية القديمة / والسلافية الكنسية / و الصربية / والبولونية / والاوكرانية / والعبرية القديمة / والعربية / والتركية . الا ان بوشكين كان يتقن اللغة الفرنسية بشكل  متميّز قبل كل اللغات الاجنبية الاخرى , ثم تاتي الانكليزية ثانيا , اما الالمانية فقد أشار نفسه الى انه كان يتعلمها ثم ينساها وقد حدث ذلك عدة مرات في حياته.
لم يذكر بوشكين في كتاباته انه قام بترجمة نصوص  من لغات اجنبية الى الروسية كما يفعل المترجمون عادة, ولكنه اقتبس بعض المضامين و المواضيع من النصوص الاجنبية وقام بصياغتها من جديد بلغة روسية مدهشة الجمال والوضوح (لدرجة  ان القارئ الروسي ولحد الآن  لا يمكن ان يتصور ان هذا النص قد اقتبس  بوشكين مضمونه من لغة اجنبية , او كتبه نتيجة محاكاة لتلك النصوص الاجنبية ). توجد نتاجات عديدة عند بوشكين اقتبسها من الادب العالمي , ولا يمكن في اطار هذه المقالة  عرض كل تلك النتاجات  , ولكننا نود الاشارة هنا , على سبيل المثال وليس الحصر الى مسرحيته الشعرية ( وليمة في زمن الطاعون ), والتي جاءت ضمن كتابه الشهير – ( تراجيديات صغيرة ) او ( مآس صغيرة  كما وردت في بعض الترجمات العربية) , وهي مقتبسة من مسرحية ملحمية كتبها الكاتب الانكليزي جون ويلسون بعنوان – (مدينة الطاعون ), وهناك امثلة اخرى كثيرة طبعا , ولكننا – التزاما بما أشرنا اليه في مقدمة مقالتنا – سنتناول فقط حكاية مشهورة من حكايات بوشكين وهي – ( حكاية عن الصياد والسمكة ) ليس الا, وهي حكاية معروفة للروس , اذ انها تحولت حتى الى باليه , وهذه الحكاية معروفة ايضا للقارئ العربي , لأنها مترجمة الى العربية منذ زمن طويل , بل انها تحولت الى فلم سينمائي روسي بالرسوم المتحركة ( كارتون ) مترجم ايضا الى العربية.
    لقد اطلع بوشكين حتما على حكاية الاخوين غريم بعنوان – ( عن الصياد وزوجته ) , او ربما حتى قرأ هذه الحكاية باللغة الالمانية, وأعاد صياغتها شعرا بالروسية , ومزج معها اجواء حكاية روسية اخرى وهي -  ( العجوزة البخيلة ) , واطلق على تلك الحكاية تسمية اخرى وهي – (حكاية عن الصياد والسمكة) , اي انه قام بترجمة حرة لا ترتبط بتاتا  بالنص الاصلي ( ان صح هذا التعبير ) دون ان يذكر ذلك , ولكنه صاغها شعرا في اطار اجواء روسية بحتة , حيث تجري الاحداث في بيت خشبي روسي وطريقة حياته , وتنتقل الى حياة الاغنياء الروس ثم الى حياة الحكام الروس , حيث يعرض بوشكين كل صفاتهم وعاداتهم وطباعهم من مأكل ومشرب وملابس...الخ . كان هذا الذي صاغه بوشكين في حكايته يعد شيئا ممكنا في ذلك الزمان البعيد , اذ قام به بعض الادباء الروس الكبار مثل كريلوف , الذي ترجم - بالاساس - اساطير وحكايات الكاتب الفرنسي لافونتين عن الفرنسية بصياغة روسية بحتة – انظر مقالتنا عنه بعنوان – كريلوف ابن المقفع الروسي ). وهكذا اصبحت  ( حكاية عن الصياد والسمكة ) الشعرية مرتبطة باسم بوشكين في تاريخ الادب الروسي و في الوعي الاجتماعي الروسي ايضا , وتعد هذه الحكاية  لحد الان واحدة من اشهر الحكايات الشعبية في روسيا للقراء , سواء كانوا كبارا او صغارا , اذ يجد فيها كل واحد من هؤلاء ذلك الجانب الطريف والممتع الذي يستهويه شكلا ومضمونا. تتناول هذه الحكاية حياة صياد سمك يعيش مع زوجته عند ضفاف البحر, ويقتات على اصطياد السمك ليس الا , وقد اصطاد مرة سمكة ذهبية , ولكنها تكلمت معه وطلبت اعادتها الى الماء مقابل تحقيق امنياته و رغباته , فاطلقها واعادها الى الماء دون اي طلب, بل كان حتى متعاطفا معها, وعندما حكى كل ذلك لزوجته , طمعت تلك الزوجة وأخذت تطالبه بالعودة الى السمكة الذهبية كي يطلب منها تحقيق رغبات زوجته أكثر وأكثر , الى ان تصبح هذه الزوجة حاكمة بأمرها , ولكنها لم تكتف بذلك , بل طلبت ان تكون السمكة خادمة لها , وعندما يقول الزوج ذلك للسمكة , فان السمكة تغوص في اعماق المياه ليس الا , وهكذا يرجع الى زوجته فيراها وقد عادت الى كوخها العتيق , وتنتهي الحكاية باضاعة كل شئ نتيجة طمع هذه الزوجة , اي كما يقول المثل العربي المعروف – ( طمعه قتله ).
 لقد صدرت هذه الحكاية في المانيا بقلم الاخوين غريم قبل ان ينشرها بوشكين بسنوات,  وقد جاءت ( عند بوشكين ) متوافقة من حيث المضمون العام مع النص الالماني  , ولا يمكن لمربيّة بوشكين ان تحكي له هذه الحكاية ثم يبدأ بوشكين بكتابتها كما تروي المصادر الروسية  حول حكايات بوشكين بشكل عام . وتشير المصادر الروسية طبعا الى ان الحدث الاساسي لهذه الحكاية يرتبط بتلك الحكاية الالمانية , ولكنها تشير ايضا الى الاجواء الروسية التي تجري بها حكاية بوشكين . لكني اطلعت مرّة على حوارمنشور بالروسية مع مدير متحف الماني حول هذا الموضوع , وكان عنوان هذا الحوار قاسيا وحادّا جدا , وجاء كما يأتي – (لقد سرق بوشكين حكاية الاخوين غريم ). ولا يمكن ان نتفق مع هذا الرأي بتاتا , اذ ان صياغة بوشكين الروسية شعرا لتلك الحكاية  وفي اجواء روسية بحتة , جاءت بشكل يختلف اختلافا جذريا و جوهريا عن نثر الاخوين غريم , وبالتالي , فان بوشكين لم يأخذ سوى الفكرة العامة للحكاية , وهي بالطبع ليست ( سرقة !) كما أشار مدير المتحف الالماني , فليس كل من يتحدث او يكتب عن روميو وجوليت او قيس وليلى مثلا هو (سارق !).   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

762 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع