ثريا الشهري
اعتاد البطل في الفيلم الأرجنتيني مطالعة الصحف باهتمام يومياً باحثاً عن أغرب القصص الإنسانية كي يجمعها ويلصقها في دفتر قديم إلى جانب أخواتها من الحكايات الأخرى. ذلك البطل هو يتيم الأبوين ويعيش وحيداً مع دكانه البسيط لبيع معدات البناء، إلى أن يأتي عليه يوم ويتورط في إيواء رجل صيني تعثّر به، فيعيش معه الغريب ريثما يبحث له عن عمه الذي قدِم من الصين ليقيم معه.
فتمر الأيام بأحداثها بين الرجلين وفي البيت نفسه ولا أحد يفهم لغة الآخر، ولكن عامل توصيل الطعام الصيني بإمكانه أن يتولى الترجمة بينهما، فيطلب منه الأرجنتيني أن يفعل. وعندها فقط يتعرّف أحدهما على الثاني، فيسأل الصيني بائع المعدات الأرجنتيني عن سبب تجميعه قصاصات الصحف! فيجيبه الأرجنتيني لكونه يهوى تكديس حكايات أناس لا يجمع بينها سوى عبثية الحياة، فينكر الصيني عليه جوابه، ذلك أنه يؤمن أن لكل شيء في الحياة معنى وارتباطاً، فيستفز بكلماته الأرجنتيني فيأخذ في سرد بعض مما لديه، كقصة الصيني الذي كان في نزهة على قارب مع خطيبته، فإذا ببقرة طائرة تقع عليهما فتقتل الحبيبة من فورها. فهل في هذا أي مغزى؟
نعم، فعلى ما يبدو أن المعنى والارتباط قد بلغا سمع الأرجنتيني الذي لم يخطر في باله عجيب ما ينتظره! فالرجل الصيني الذي آواه في بيته هو بطل الأقصوصة، أمّا البقرة الطائرة فتعود إلى مجموعة لصوص ابتكروا طريقة لسرقة المواشي بحشرها في طائرة شحن قديمة ينقلونها من مكان إلى آخر، فإذا بالطائرة يصيبها الخلل فتتأرجح وتسقط الحيوانات من بابها المفتوح، فتقع البقرة على الخطيبة فتموت، ليسافر الخطيب الحزين الذي لم يبقَ له أحد من أهله إلى عمه بالأرجنتين. فتمضي الأحداث ويعيش في بيت الرجل الذي لا يؤمن بارتباط الأقدار ويتهمها بالعبثية، فإذا بالقدر الذي جمعهما يصيب قناعات الأرجنتيني بالاهتزاز، وإذا بمنظوره للحياة يكتسحه وعي آخر يراجع معه ترتيب فهمه لحياته بما فيها. وعندها فقط يقرر التواصل مع المرأة التي أحبته والذي بتردده لم يحسم أمره معها. وبالمناسبة، أحداث الفيلم مأخوذة عن قصة حقيقية وقعت في مدينة بوينس آيرس بالأرجنتين، كما تم التنويه عند بداية عرض الفيلم.
بذكري شيئاً في مقالة مضت يتعلق بارتباط أقدار البشر وتأثيرها الممتد، اتهمني البعض بالمبالغة. فهل يعني هذا أن مجرياتنا وأحداثنا تجري هكذا وتسير بلا هدف أكبر يوحِّدها أو رابط ما يربط ما بينها؟ أهذا ما نعتقد؟ إذاً فنحن نعرف أنفسنا من الخارج فقط، فنتشبث بمعرفتنا، ولن نقتنع بغير ما نقتنع به ما لم يتغيّر وعينا. لكن الناس يصيبهم الحُمق أحياناً. فعوضاً عن أن يستبدلوا الأفكار المعطِّلة التي تستمر في التنكّر بزي المعرفة والفهم، تراهم جاهزين لإسقاط المعرفة نفسها. حسناً، فإن كانت معرفتنا الحالية هي المعرفة المنشودة، وإذا كنا العارفين بمعرفتنا فلِمَ نحن على ما نحن عليه؟ فهل يكون تاريخ الإنسان إلى يومنا هو تاريخ الغباء؟ ولِمَ لا؟ فحين تُسقِط الشيء الحقيقي وتكتفي بالزائف فماذا تكون؟ فإن كانت معرفتك حقّة فلا يمكنها خلق العناد، ذلك أن العارف دائماً ما يعي جهله بأمور غابت عنه. فليكن هذا معياراً نقيس به معرفتنا، فإذا خلقت المعرفة العناد فهي ليست بالمعرفة التي تقود إلى المعارف، فتخلّص من سيطرتها عليك، كي تتحرر منها وتنطلق إلى معرفة أرحب، فلربما اكتشفت نفسك معها.
نحن لا نكون بقدر معرفتنا، ولكن بقدر تصميمنا على التعلّم، وبقدر خوضنا هذا البحر ستتوالد الأسئلة، وعندها ستبحث لها عن أجوبة. وحتى اللا أجوبة هي أجوبة، ولكن بعد أن تحاول بعقل مخلص ومتفتِّح. ولن يقترب أحد من الجهل قدر اقترابه عند الاكتفاء بمعرفته وتضخيمه من حجمها. فماذا لو عرفت أن إنساناً لا يحكي لغتك ولا تحكي لغته بإمكانه أن يقلب موازين حياتك في أسبوع؟ فأين ذهبت معرفتك العنيدة؟ أيكون أن شيئاً عجيباً تفتّق في عقلك فأنار منطقة مظلمة فأنارت ما حولها فتغيّرت حياتك؟! تماماً... ذلك أن الله لا يغيّر ما بك حتى تغيّر ما بعقلك.
523 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع