د.قيس عمر محمد
شعائرية التمركز الأنثوي في مخاطبات حواء للشاعرة بشرى البستاني
تشكل اللغة الشعائرية في النص الأنثوي أهمية كبرى؛ لأنها تمتح من ضدية الخطاب الإقصائي الذي تعرضت له عبر رحلتها الوجودية وقد تمت في هذه المراحل عمليات معرفية قدمت خطابات ذكورية عملت على صياغة الأنوثة بوصفها دنسا ونجاسة وخطيئة وشرا وقد تعرض العهد الأمومي إلى انقلاب وقطيعة معرفية تمت من خلال " انقلاب الأبوي الذكوري على العهد الأمومي الأنثوي و سقطت أسطورة الجسد المسؤول عن عملية التخصيب الأزلي في فلسفة الوجود وحلت بدلا عنها أسطورة العقل الذي نصب نفسه مسؤولا عن مقدرات الحياة بوصفه المشرعن الوحيد لحق التملك ولعل الاحتفاء بالعقل قد أتى من قدرة الروح على تجاوز قدرة الجسد الفاني وظهور أسطورة البدء المقدس الذي رأى في عالم الأنوثة انها مجرد جسد مدنس في بنائه الخَلقي وان الذكورة هي روح مقدسة في بنائية خواصها العضوية(1 ) فاللغة الشعائرية التي تتمركز الأنوثة حولها تقدمها الأنثى بشكل جنائزي في عمقه وحزنه في مداره العام وقد تشكلت لغة الشعر الأنثوي من "واقع قاهر كان هو المسؤول عن صوغ هوية التجربة الشعرية الأنثوية، إذ غالبا ما كان يسلمها ذلك المؤطر الوجودي الحاد، لمسلمات تتبدّى بصيغة وأد عاطفي كالرهبنة، أو الصمت، وربما الجنون،وقد يصل الأمر أحيانا إلى حجب ذاتها، أو منعها من التداول إنتحارا، فيما يشبه الإتلاف المبرمج"( 2) وكانت بالنتيجة هذه اللغة الخاصة في شعريتها والتي تنهض على طقوس من الحزن والفجيعة.
إن النص الأنثوي اليوم يعيد كتابة المعرفة بشكل سري/علني إنها شعائر تعيد رسم العالم ولكن من منظور مختلف في بعده الانطولوجي. ثمة علاقة وثيقة جدا في شعر البستاني بين الشعري والمعرفي وحين يدخل الشعر مقتربات المعرفة محاولا إعادة ابستيمياتها تولد تواريخ وقراءات أخرى .
إن قابلية الشعر على احتواء المعرفة وإعادة إنتاجها تشكل لحظة ابستيمية في إعادة صياغة التمركزات لكن بشكل مغاير لما هو سائد يقوم على الجمالي. إذ إن شعر البستاني يقوم على منظومة معرفية تدرك مواضعات إنتاج الخطاب المعرفي الذكوري ومن هنا تولد مساحة متشابكة بين اللغة والمعرفة ، فاللغة الشعرية جمال محض ،ولكنه جمال مندمج بالمعرفي الذي يعمل " على مادة المعرفي ولكن ليس عملا عاديا أو تابعا كما كان عليه اغلب ما كتب من شعر قديم بل يسعى الشعري إلى تشفير المعرفي وتحويل الكتلة المعرفية الصلدة إلى إشارات وشفرات ورموز في محاولة لمنحها الطابع الشامل ثم نقلها من المحدودية إلى خارجها "( 3) فالاشتغال الجمالي في النص الأنثوي اشتغال يحاول الانعتاق من المواضعات الذكورية في خطاب المعرفة ويشيد لنفسه تمركزات تكشف عن فداحة الطقوس التي مرت بها الأنوثة فمجموعة "مخاطبات حواء "( 4) هي نصوص لماهية الشعر عبر حوارية طويلة نسبيا أقامتها الشاعرة في النص الذي حمل عنوان المجموعة الشعرية وهذا النص يعمل بوصفه بؤرة تشدُّ إليها جميع النصوص الأخرى إلى سديمه، وهذا السديم الشعري يكشف عن ماهية الشعر في جانبه المعرفي. فالمبدأ الحواري عند باختين مرتبط "بالموقف الايديولوجي للكاتب، وبصيرورة الأفكار ، وتشكلها الفني داخل العمل"( 5) فالحوارية تنتج موقفا من العالم ويكون الحوار هو اندماج أصيل ونحن كلنا عبارة عن حوار وجودي بصيغ متنوعة ، وكما يقول هيدجر" إننا معشر البشر حوار ، وكينونة الإنسان مؤسسة على اللغة ولكن اللغة إنما تتحقق تحققا تاريخيا في الحوار، على ان الحوار ليس وجها من وجوه استعمالنا للغة فحسب ، بل اللغة لا تكون أصيلة إلا من حيث هي حوار "( 6) وهي بهذا تنتج بعدا تفاعليا كونيا يخرج عن مواضعات الخطاب القبلي بل يحاول حراثة تلك الخطابات ويعيد مأسسة الرؤيا الشعرية من خلال تعالق الشعري بالمعرفي وتشفيره عبر الوعي الشعري .
التمركز حول أنوثة العنونة:
إذا كانت الكتابة الذكورية تشكل موقفا انطولوجيا من العالم فان الكتابة الأنثوية تسعى إلى كتابة تاريخ انطلوجي للغياب القسري للذات أو تاريخ كتب نيابة عنها في مرحلة زمنية معينة وهنا. نحاول ان نرصد هذا الاختلاف في اللغة وتحديدا العنونة بوصفها تجلياً للكتابة الأنثوية الحديثة وسنحاول رصد الاختلاف عبر جنوسة اللغة إذ يشكل الوسيط اللغوي مؤنث/مذكر هذا الموقف بشكل أو بأخر وبما ان العنونة بحسب تعريفها هي " علامة لغوية تتموقع،في واجهة النص ،لتؤدي مجموعة من وظائف تخص انطلوجية النص،ومحتواه وتداوليته في إطار سو سيو- ثقافي خاصا بالمكتوب. وبناء على ذلك فالعنوان من حيث هو تسمية للنص وتعريف به وكشف له ، يغدو علامة سيميائية ـتمارس التدليل وتتموقع على الحد الفاصل بين النص والعالم ليصبح نقطة التقاطع الإستراتيجية التي يعبر منها النص إلى العالم والعالم إلى النص لتنتفي الحدود بينهما ويجتاح كل منهما الآخر"( 7) وفي مجموعة "مخاطبات حواء"( 8) نجد ان المجموعة احتوت على عشرين نصا شعريا اثنان منها فقط كان التذكير نصيبا للعنونة فيهما والبقية كانت عناوينها مؤنثة وأتت جميعها خبرا لمبتدأ محذوف تقديره "هذه" وكانت العناوين ضمن السياق التالي(( موسيقى- مخاطبات حواء-تداعيات-نوافل الماء-امرأة ورجل- الملكات-القصيدة –الأغنية الجبلية –أحزان الغضى -التفاحة-غرناطة-الوحشة آتية-ريثما تهدأ العاصفة-المحنة-دنيا-غابة-رؤيا-لواعج)) اما العناوين المذكرة فكانت((دخان- الليل)) وبعد معرفة هذه الإحصائية السريعة نجد ان العنونة للديوان تقوم على مفهوم الارتداد أي ان عنوان المجموعة هو ارتداد لدلالة العناوين الفرعية وهو إشارة كاشفة وتفسيرية لمحتوى النصوص التي في داخل المجموعة الشعرية ، فالعنوان يشكل مشيمة المجموعة ويربطها بالحبل السري بقوة , فالعتبات الفرعية تقوم بشحن مشيمة العتبة الرئيسة للمجموعة بطاقة إيحائية سرانية تهدف إلى ارتداد المضمون الشعري برمته في العتبة الرئيسة وتقوم العناوين الفرعية "بمضاعفة القدرة التفسيرية للمتلقي لكونها عتبات تأويلية للنصوص التي تعنونها وبالتالي تسهل الولوج إلى ردهات النص او المقطع النصي "( 9) وهكذا تساعد العناوين الداخلية على أعادة الارتداد للمضمون النصي للنصوص وهنا نجد التمركز الأنثوي للعنونة الفرعية التي توجت بالعنوان الرئيس مخاطبات حواء أي ان مجمل العناوين الفرعية التي مر ذكرها ارتدت لتشكل صياغة أنثوية لخطاب حوائي وهنا عمدت الشاعرة إلى تاء الجمع للمؤنث وهذا بفعل قصدية صياغة موقف أنثوي انطلوجي من اللغة الأبوية التي سيطرت على اللغة حسب مفهوم النقد النسوي من هنا تسعى الشاعرة بشرى البستاني إلى إعادة كتابة لغتها بعيدا عن تحيز اللغة الذكورية "ان كون اللغة أنثى من جانبها الدلالي يشكل دلالة مركبة تسعى إلى تشكيل قطب دلالي تتناسل منه بقية الدلالات الجانبية وكما نشعر بتلك العلاقة العضوية بين المرأة واللغة فكلتاهما أنثى اكتنز النص بهما وبفعلهما لقد اكتسبت اللغة فستانا نسائيا ابيض وتزينت بالشعر الأنثوي وكتبت المرأة نصها وذاتها"(10 ) إذ تشكل العناوين الأنثوية بمجملها رصدا فكريا لخطاب حواء الوجودي. وإذا عدنا سريعا لعناوين النصوص في المجموعة سنجدها تشكل نسقا لخطاب حوائي انطلوجي إذ هناك عناوين تعمل في جانبها الاركيلوجي حول ترسيخ خطاب حوائي سراني ينطلق من اللغة عبر أنوثة العنونة فعناوين مثل(( مخاطبات حواء- التفاحة- رؤيا)) تكشف عن نسق فكري متصاعد في صياغة موقف وجودي من العالم والخلق فنص "التفاحة" يعمل ضمن رصيد متشكل في المخيال الذكوري حاولت الشاعرة فيه إعادة إنتاج هذا المشهد الموغل في وجوديته وغنوصيته عبر تزمينة ورسم أبعاد أركولوجية جديدة له وهي هنا تعيد قراءة مساقات المعتقد المقدس في"مساقات الوعي الذكوري, حين اعتبر ان المرأة نصف شيطاني خطاء يقودها إلى العدم ويحرمها من الخلود , فمن هنا جاءت حكاية خطيئة حواء وفقدان ادم فردوسه الإلهي التي وردت في الأدبيات الأسطورية والديانات التوحيدية "( 11) ان هذه التصورات الدوغمائية هي إسقاط ذكوري لقصة التفاحة والخطيئة فالشعر الأنثوي يحاول تقويض هذه المواضعات الدوغمائية ويقدم بدلا عنها تصورا متوازنا يقوم على فهم وجه اخر من الحقيقة وثمة عناوين أخرى ترسم اللغة الشعائرية في المجموعة الشعرية لتعزز خرائط الوجود الأنثوي وتحاول تجلية الشعائر " تداعيات- الوحشة آتية - المحنة - أحزان الغضى". ان هذه العناوين تشكل طقوسية تمنح اللغة بعدا أسلوبيا خاصا يمتح من سيرة الإقصاء ويعمل على تقويضها بأقنعة جمالية. ان لهذه الخصوصية الأسلوبية في جانبها التشكيلي والدلالي بعدا يسعى لكشف فداحة الخطاب الذكوري في بعده العملي ، ودعوة إلى التأمل في البدايات للعهد الأمومي وكيف انه حقق "موجوديته البدائية بشكل تلقائي على عكس الوعي الذكوري الذي حقق موجودية تطورت بالقوة ( 12)" ان تواشج وتناغم الموقف الأنثوي يقوم على هذه التفاصيل التي ولدت بالفطرة وليس بالقوة فهذه العناوين تعطي بعدا تتجلى فاعليته في إعادة رسم المعرفي ورفض المواضعات الأحادية .
وفي نص "الرؤيا" الذي يأتي ليعزز بنائية النص الأنثوي وتمركزه حول أنوثة العنونة يعود ليرسم مراحل فكرية للخطاب الأنثوي في لغة شعرية احتشدت بكثير من التمثلات للعالم والخطيئة التي تشكلت في الوعي الذكوري .في نص رؤيا نجد ان هذا العنوان يعمل على إيجاد مساحته الخاصة التي تعمل على سرد تفاصيل خائفة تحاول الخروج والانعتاق من سلطة الذكورة ، فالرؤيا هي"ما يرى في النوم,وجمعه رؤى , وقد يطلق لفظ الرؤى على أحلام اليقظة. فالرؤيا بالخيال وهي مختصة بما يكون في النوم "( 13) ، والرؤيا لدى المبدع هي عمق الوعي بالذات والعالم والاحداث لدى الشاعرة ، هذا الوعي الذي تعبر من خلاله عن مواقفها من الوجود والانسان والأشياء ،سواء فيما تكتب أو في قراءتها لنصوص الآخرين. ان الرؤيا هنا تتيح سلاسل من البوح الحذر، انه بوح مشوب بالارتباك لوعيه بما يحيط به من خطر ومحاذير ، ونلمح مفردة السور التي شكلت بؤرة مركزية حين يصعد رأسٌ فوق هذا السور:
رأسٌ فوق السورِ يفتش عن رؤيا عن جسدٍ,أو جيدٍ يتشكل فيه..
فالرأس الأنثوي هنا نكرة تفيد الشمولية، وهو رأسٌ يبحث عن بلورة وعي يمكنه من تشكيل رؤىً واضحة لقراراته ومواقفه من الحياة تجعله قادرا على المواجهة والمقاومة ، لقد شكلت هذه العناوين تمركزا واضحا ومدخلا لعالم حواء وجذره الفكري وما تريده من اللغة بوصفها وسيطا عبر العالم فهي تحاول كشف أنوثة اللغة في قصديتها العالية وتأنيث العنونة برمتها، فمخاطبات حواء هي معجم أنثوي يكشف عن كينونة الأنثى الشاعرة وترسيخ لأنوية هذه الأنثى والذات، ومجموعة من العوالم الأنثوية التي تصور طبيعة المرأة وعلاقتها بالعالم . إن مجموع ثمانية عشر عنوانا أنثويا تمثل صوتا عاليا أمام عنوانين مذكرين وكأنَّ الشاعرة بهذه المضاعفات تعمل على تعويض ما لحق بلغة الأنوثة من إقصاء وتغييب ، مؤمنة أن اللغة ليست منجزاً ذكوريا حسب كما تؤكد في محاضرتها ، بل هي منجز شارك في صنعه الرجال والنساء عبر التاريخ. وهنا تلوح دلالة الصوت أمام ذكورة اللغة المتمركزة حول خطابها الإبداعي. وهكذا تكون غائية النص الأنثوي إعادة كتابة لتاريخ اللغة المغيبة والمستلبة عبر اللغة الشعائرية .
إن غائية اللغة الأنثوية وطرق تمثلها للغة تشكل إعادة رسم لخارطة اللغة ،وإعادة رسم لجنوسة اللغة الأدبية في معناها العام والنصية بمعناها الخاص، وهكذا تصبح نصوص بشرى البستاني نصوصا تسعى إلى إضاءة المغيب والغائب من منظور أنثوي ، فتتحول عملية الصوغ الشعري للغة تاريخا جديدا لماهية الشعر الأنثوي. فترسخ النصوص مبدأ تجاوز وإعادة صياغة جماليات اللغة ، إذ ان اللغة لم تعد محايدة لدى الشاعرة ، ومحاولة إعادة صياغة المعجم الأنثوي في النص الشعري، فكمُّ العناوين المؤنثة يشكل خارطة مغايرة تقوم على فهم وظيفة اللغة بوصفها ناقلا للتاريخ والجمال ,ولكن من زاوية حوارية لتقدم مشروعا مغايرا ومتجاوزا للدوغمائية الذكورية.
التمركز حول الذاكرة :
تمثل الذاكرة في النص الشعري الأنثوي حياة لها عدة وجوه تغادر الأنثى صوبها دوما لتعيد إحياء زمن مستقطع من حياتها المعيشة ، إذ إن الذاكرة تشكل خزينا لكل ما هو حقيقي ، فالذاكرة تحتفظ دوما بما يعين على مواصلة الرؤيا الشعرية للعالم ومن هنا نجد ان الذاكرة تعمل بعدة وجوه زمنية ، فهي زمن يعاد إنتاجه بكل دقائقه ليتحول إلى زمن معيش " فهي من جهة تقدم لنا لوحة عن بقايا الماضي وآثاره، كما تقدم لنا من جهة أخرى وفي هذه اللوحة نفسها معالم المستقبل، نظراً لأن الذاكرة تبتدع بحد ذاتها مستقبلها الخاص "( 14) ومن هنا تسعى الذاكرة الأنثوية إلى إعادة إنتاجٍ للزمن وهذا يتجلى عبر الإحساس العميق بالزمن وإعادة برمجته ليكون من ذكريات تستدعى من مخزون الأرشيف إلى صور وإحساسات تنثال حول زمن حقيقي ومعاش؛ بل تعطي الأنثى تلك اللحظات إحساسا مكثفا بالزمن لتحوله إلى زمن يعاش مستقبلا بفعل النشوة التي تلم بمشاعر الأنثى ومن هنا يتم التلاعب القصدي بمفهوم الزمن والتلاعب بدفق الديمومة البروغسونية، فالزمن الماضي لدى الشاعرة يتحول إلى دفق مستمر رغم مضيه ، فالزمن الماضي لا يعد ((زمناً منقضياً، أو ذكرى ميتة لا يمكن استعادتها، أو بعث الحياة من رمادها المتجهم، بل هو على العكس من ذلك تماماً حيوات متفردة وطاقة روحية جياشة، وهو أيضاً زمن يكتظ بالدلالة والغنى والتوتر))( 15) ان الذاكرة بوصفها بعدا يضاف لتقانات النص الأنثوي يسعى إلى إيجاد مفاهيم فيزيقية للزمن وهذا ما نجده في نص الشاعرة بشرى البستاني في نص "مخاطبات حواء" وهو النص الأطول بين جميع النصوص إذ يستغرق ربع مساحة المجموعة الشعرية و يحمل عنوان المجموعة أيضا ، إذ نجد ان النص ينهض عبر إعادة تكرار لفعل "قلت" الذي يتكرر" 62" مرة وهو المذكر بدلالاته المعجمية والسياقية والصورية والذاكراتية .
ان تكرار الفعل "قلتَ" يشكل البؤرة التي تتمركز حولها مجموعة من طقوس حادة التذكر من خلال إعادة رسم ملامح المشاهد التي تسترجعها الذاكرة لتتحول تلك المشاهد من بعدها الماضوي إلى فعل يعاد إنتاجه وإعادة عيشه من جديد ان هذا النوع من الذاكرة التي تمسك بكل هذا الكم من الاسترجاعات هي ذاكرة حادة تمارس الصحو المدمر. ان الذاكرة الأنثوية لا تتعامل مع الزمن الماضي بوصفه موتا بل انها تعيد إحياء التفاصيل المخفية في زوايا الزمن ليتحول الزمن الشعري إلى زمن يعج بحيوات مهرولة نحو أماكنها وبشاعرية كبيرة .
إن تكرار الفعل "قلتَ" يشير إلى بُعدٍ أجناسي محمل بالذكورة التي تستدعيها وفق اشتراطات المخيلة الأنثوية حصرا وعبر لعبة الذاكرة . بيد أنها لعبة أقنعة نحوية فقط . ان دلالة المذكر لا تعدو ان تكون قناعا نحويا تستخدمه الشاعرة؛ لأن التفاصيل الحادة التي تأتي بعد الفعل قلت تقدم صورا مشبعة بطقس أنثوي متعين بالعديد من الدلالات السياقية داخل النص ، فالمضمرات التي تشكل بيئة النص في بعدها السوسيو- نصي تحيل إلى طقوس مشبعة بالشعائرية الأنثوية والتي حاولت الشاعرة فيها ان تكون حاضرة بقصدية خلف القناع النحوي. إذ يقوم النص هنا بالتعكز على المخزون الذاكراتي حيث يتردد الفعل "قلت" بشكل يمثل حشدا دلاليا وتتمركز أنوثة النص على فعل التذكر الأنثوي ويكون ممتدا بشكل أفقي وعمودي ليشمل اللغة وتفاصيل الزمن، ومن هنا تسعى النصوص الأنثوية لبعث الحركة وإعادة تركيبها وفق رؤية أنثوية تحاول التمركز حول الذاكرة بوصفها فعل احتماء وتعويض وإعادة حياة في زمن يتفوضى فيه العالم والزمن على حد سواء، فتكون الذاكرة وإعادة إنتاج التفاصيل وإعادة التمركز حول الذاكرة أمراً جليّاً، ليكون للنص حركية ذات خصوصية شفافة و عبر اللغة وبعيدا عن مفهوم حيادية اللغة، إذ "أن اللغة ليست أبداً بريئة، فالكلمات ذات ذاكرة ثانية تظل تلحّ على مثولها من خلال المعاني الجديدة،والكتابة بدقة هي هذه المصالحة بين الحرية والتذكر، إنها الحرية التي تتذكّر وليست حّرة إلا في لحظة الاختيار" ( 16) وذلك من خلال إعادة إنتاجٍ وإحياءٍ لزمن مضى في مفهومه الفيزيقي، بيد انه يعاد إلى واجهة الفعل الشعري. ان الشاعرة تصرخ بصوت الإنسان العالي قائلة "أنا سجينة" لكنها بلغة الشعر الرفيعة تقول "يارهينة المحبسين" تعبر عن العزلة المطلقة عن السجن وباعترافٍ سافرٍ من الرجل، وتبحث عن الوحدة التي تعيد اليها الضياء الروحي . ان في روح الشاعرة عتمةً موجعة إذ تقول البستاني :
"قلتَ:
يا رهينة المحبسين خذيني
ادخلْ ملكوتَ محبسيكِ
ليصيرا أربعة
ونصيرَ داخل الأربعة واحداً
الوجد وأنا.
والأغنيةُ وأنت"(17 )
إن التمركز حول الذاكرة يستدعي الإمساك بكل تفاصيل الحدث، فهو حدث يعاد إنتاجه وفق المخيلة الأنثوية التي تبعث فيه أبعاداً دلالية جديدة تضاف إلى ما جرى، فيتحول إلى ما يجري وهو بفعل استدامة المخزون الذاكراتي ، فالصورة الشعرية هنا تساق نحو إنتاج طقس من الذاكرة ينهض عبر اللغة وسياقها العاطفي وثم تعمد الى اللغة الشعرية لرسم جديد للأرشيف الأنثوي ، فالتناص الحاصل مع بيت تسمية أبي العلاء برهين المحبسين يسحب النص إلى مساحة دلالية بكر تقوم الشاعرة بملأ المساحة وفق زمنها المعاش الآن ، فملكوت الأنثى وسرها الخالد والإشكالي يحوِّلُ الأربعة إلى واحدٍ وفق صوغ شعري يهدف إلى كشف راهنية الزمن وتحويله إلى دفق مستمر يشع بالديمومة السرمدية فتكون الأطراف الأربعة هي الوجدُ وأنا \ والأغنية وأنت وهذه الأطراف الأربعة تشكل معادلة طرفها الأول الأنثى الشاعرة والطرف الثاني هو الأغنية وهي أنت وثم تتحول الأطراف الأربعة إلى طرفين فقط . فتنهض من خلال بعث الحياة في زمن مضى ليتحول إلى ديمومة بفعل التمركز حول فعل الذاكرة والاحتماء بها لمواجهة زمن آخر يحضر بقوة .
إن الأنوثة هي الحب والتصوف وهي هذا الانسجام المتوحد مع الذكورة بمعناها الشفاف ,وهي القوة الخلاقة والإبداع المعبر عن الفرح والتضرع والعبادة, انها الغناء التعبيري والموسيقى الكونية إنها الشعر والشاعر وهي التجلي الذي يعانق الإيمان ويحتوي الكون،وهي الابتهال الخالدُ الذي توجههُ الشاعرةُ للحياة والحرية، والأنوثة وعي وضياء ونقاء وخصوبة ، كما ان حضور الرقم أربعة متواشجا مع الأنوثة له دلالة انطلوجية تحاول الشاعرة من خلاله الترميز إلى عناصر كونية تخص هذا الرمز، اذ انه يرتبط بكثير من الاعراف الكونية إن جاز التعبير من مثل : الفصول الاربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف، وعناصر التكوين الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار؛ لأنها تجمع كلً هذه العناصر البانية للحياة في مخاطباتها.
إن الأنوثة ضياء يتألق، إنها السحر وطقسه وجمال الإيمان وهي كمال الفعل الكوني في الزمان والمكان كما تعد الأنوثة قوة ومهارة وخصوبة واتساعا وبمعناها الميتافيزيقي تعني سرا من الأسرار الإلهية:
"وقلتَ لي...
قطا الحزن يقتاتُ عشبَ الذاكرةْ
قطا الحزن يغوص في رمل الروحِ
ثم ينكفئ ببركة دمْ
فافتحي لروحك روحي..
كي تتسعَ أروقة الكون.."(18 )
إن الأنوثة في شعر البستاني هي سرُّ الكون الثري برموزه إنها ميلاد الكون وهي ثمر الإبداع وهي الأصلُ وكلُّ أصل هو سر ، إنها أسطورة . إن الأنوثة تخلق كل ما هو سامٍ وفائق، إنها تنطلق بالجوهر المكنون في خفايا النفس الإنسانية ومنها يتدفق الضياء وتتفجر الطاقات. إنها البناء الكامل والنموذج المثال لما تحمل في ثناياها الروحية من حب وسلام وتناسق وانسجام، إنها العمل الفني. لهذا فان الشاعرة تعتبر الأنثى والذكر توأمين هما الليل والنهار يجسدان معا الطاقة الكونية المتدفقة . ان الشاعرة ترفض لغة الدم والحرب والصراع الذي يتجلى في طبيعة العالم اليوم التي مسخت فيه جمالية الحياة بفعل عوامل عديدة ، إنها تنشد التناغم الوجودي الغائب في العدم ، المنسي بفداحة كبيرة . فالذكريات التي تستلها الشاعرة تكشف " هيمنة نوعية للذاكرة الأنثوية على الزمن لأن الذاكرة تخزن تقنياتها وآثارها وكنوزها بعيداً عن خطر الزمن وتأثيره، فهي تحتفظ داخل فضائها الخاص بزمن له كيان خاص، ومن إبداعي لا يخضع لآليات الزمن العام ، ويحتفظ بموجوداته وحالاته وأحداثه بمنأى عن آليات تطور الزمن العام وانتقاله من حال إلى حال"( 19) ان الشاعرة تعتبر الذاكرة قصرا شاسعا يمنحها شعورا بالأمان الدافئ في محيط العالم الموغل في العتمة . ان هذه الذكريات ليست إلا غذاءً روحياً مرغوبا . وان ما يحفظ هذه الذكريات هو هذا الرقي الجوهري الذي تتسم به روح الشعر وهو الذي حول الماضي إلى حاضر تتنزه فيه روح الشاعرة بلا توقف بطقوس فائقة الجمال يندمج فيها الماضي بالحاضر في الكمال المطلق الذي لا يحجبه أي
ضباب .
بستان المخاطبة /شعائرية الكوجيتو المتصدع:
في مجموعة مخاطبات حواء تمركزات نوعية تقوم على حشد شعائرية الخطيئة التي تلبست بها الأنوثة عبر رحلتها نزولا من الجنة إلى الأرض وتبدو نصوص البستاني هنا مثل بستان شعائري يحمل كما كبيرا من أشكال الخطيئة التي تأخذ عدة صور وعدة وجوه تحاول الشاعرة فيها صياغة رؤيا الخطيئة وكشف الغائب منها ، فالمخيال الذكوري يحاكم سيرة الأنوثة من خلال الخطيئة/ التفاحة وما نتج عن ذلك من تصورات ارتبطت بالتفاحة /الخطيئة. إن صوغها الشعري يتأسس على طقوسية الكوجيتو المتصدع لتدخل في إعادة صياغة الأنوثة بوصفها معادلا لا يقلُّ بأي درجة عن الذكورة التي تشيد رؤيتها للأنوثة من خلال الخطيئة. ان تلك التصورات التي بقيت محكومة بتأويل ذكوري للنص الديني رسخت صورة نمطية تحاول الكتابة الأنثوية إعادة النظر فيها من أجل التماس الأدلة العرفانية لتقويض تلك التصورات الباطلة بواسطة اللغة الشعائرية واستعراضاً للخطيئة/التفاحة في بستان الوجود. فنصوص البستاني بستانُ مخاطبات/ متوتر عرفانيا، إذ تتحول المخاطبة وفعل الكتابة بوصفه شكلا من أشكال الخروج من حيز الخطاب إلى حيز الفعل فيكون الخطاب الحوائي بمجرد تدوينه " شروعاً بالتحرر من أغلال الصمت الذي فرضته اشتراطات عدة وليس الرجل وحده، فكثيرا ما نجد الرجل أو شرائح متعددة من الرجال يدخلون في دائرة الاضطهاد ذاتها حين تكون منظومة الاستبداد واحدة "( 20) ان البستاني تصوغ بستان وجودها الأنثوي وتعري تاريخ الكوجيتو لتصل الى ترميم كوجيتو الأنوثة الذي يبدو للوهلة الأولى وهو منظور إليه، متصدعا ومتلبسا بالخطيئة الأولى التي ظلت تحكم تاريخها الجمالي والروحي وهي تسعى إلى الانجاز العرفاني وتستعير رؤية المتصوفة للأنوثة بوصفها بستاناً ومحلا تكوينيا تنطلق منه كل أجزاء العالم، فاللغة الشعائرية تناسب طقس الخطيئة . إن عنوان المجموعة يحيل على اللغة الشعائرية التي تسعى من خلالها الشاعرة إلى عرض ثنائية تاريخية يتصورها البعض ضدية بفعل المهيمنات الذكورية للغة والعالم، بيد ان العنوان لدى بشرى البستاني يشتغل وفق رؤية مغايرة تقوم على الحوار، لكنه يبدو حوارا صامتا بحكم هيمنته التي تتمُّ بنعومةٍ وشاعرية، إذ انه زمنُ الكلام الأنثوي فقط لان الذكورة تكلمت كثيرا وحان وقتها لتلقي السمعَ فقط وتتأمل هذه المخاطبات في تجلياتها الطقوسية. ان المخاطبة تستدعي بالضرورة طرفا اخر لكن هذا الطرف سيكون خاضعا لاشتراطات جديدة ، بيد ان هذه الاشتراطات تُنجَزُ داخل المتن الشعري الحوائي بلغة شعائرية ويمكن، تلمس شعائرية الكوجيتو من خلال حشد كمٍّ كبير من المفردات التي شكلت معجما شعائريا:
" التلاشي - رهينة المحبسين - ملكوت- مطفأةٌ عيونُ التفاح - في الجب عيناك - بورق الجنة دثريني- التفاح مصلوب على الأغصان - رذاذ التكوين- المعراج - من يعيدني للطين - الرجال يرتلون الحمد حول غيومها - هبطت من كف الأفق - الهي اله السماء - التفاحة -الخطيئة –ثوبك الأسود "
إن هذه الاختيارات من كمٍّ كبير من المفردات يشكل معجم لغة شعائرية تقدم اللغة الأنثوية بشكل آخر تعى الشاعرة من خلاله إلى تشكيل معجم حوائي يعكس تصورها للسر الوجودي ويعيد صياغة الخطيئة ويخرجها من حيز العبارة القصصية إلى حيز تأويلي لوقائعية التفاحة /الخطيئة. ان المعجم الحوائي يسعى إلى ترميم الكوجيتو الحوائي بصورة عامة وإعادة بناء الحقيقة الذكورية .
إن نصوص البستاني تنطلق من رؤيا أنثوية متمركزة حول حقيقة مغايرة ، لها ما يشدُّ بنيانها النصي والمعرفي ، انه إعادة اكتشاف للسر الوجودي وتتم إعادة الصياغة للغة في بعدها التكويني والايكلوجي. ان اللغة الشعائرية هي لغة الخطيئة/التفاحة فالمخاطبات هي بستانُ الخطيئة وشعائريتها فكل " مخاطبة وكلّ قول يخاطب به الإنسان غيره ، فهو إما يقتضي به شيئا مّا وإمّا يعطيه به شيئا مّا. والذي يعطي به الإنسان غيره شيئا مّا ، فهو قول جازم إمّا إيجاب وإمّا سلب، " ( 21) وهنا تخرج البستاني بدلالة المخاطبات من المعنى اللساني إلى فضاء اخر تشكّلُ فيه مضمرات معرفية على مستوى الأنساق التاريخية والجمالية والدينية والعرفية. ان دلالة المخاطبات التي ترتبط بحواء تحاول الوصول إلى اكبر توتر شعائري ممكن لتتحول المسافة التي تشكلت في بستان الوجود الى صورة تقوم على التذوق العرفاني. ونجد مباشرة ان المجموعة تقدم نفسها من خلال العتبة النصية الرئيسة لهذه المجموعة وهي مقولة لابن عربي حول الأنوثة من كتابه فصوص الحكم " فكن على أي مذهب شئت فانك لا تجد إلا التأنيث يتقدم ، حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم ، والعلة مؤنثة. وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء فلما في النساء من روائح التكوين فان أطيب الطيب عناق الحبيب "( 22) فمن العنوان وعتبة ابن عربي تسعى البستاني إلى إعادة تقييم لبستان الوجود وما أثمر عنه من ضديات وهمية خلخلت سياق المعرفة الانطولوجية بماهية الأنوثة //الذكورة وكيف تحولت لضديات تناسلت منها ضديات أخرى كرست بشكل كبير علاقة تضاد حكمتْ صيرورة التحولات المعرفية البايلوجية والجمالية , فاللغة الشعائرية التي تقدم بها البستاني نصوصها محكومة ببناء وترميم الكوجيتو المتصدع تاريخيا ، وهي بهذا تحاول رصد اشد اللحظات إحراجا للتصور الذكوري من خلال اللغة العرفانية. إن هذه العتبة التاريخية العرفانية تنهض بنفسها في إعادة تدوين الوقائع عرفانيا بعيدا عن مفاهيم التاريخ وزيف الوقائع المغيبة بفعل سلطة تحيل سياقات القصص المتعلقة بآدم وحواء عليهما السلام ، فتذوّقُ المتصوفة للأنوثة يقوم على بعد انطولوجي يجعل الأنثى الجذر التكويني الأول لكل ما هو خارج من الحياة وداخل فيها بفعل كينونتها المتجاوزة للماهية الذكورية. ونجد في مقولة ابن عربي ان العطر هو عطر الأنوثة الذي هو عطر التكوين الأول يشعُّ قويا وساحرا على كل شيء يحيطُ به، وإذا عدنا لجمع دلالة العنوان المركب في المخاطبات وحواء ، إذ ترى بشرى البستاني ان الفعل الشعري يتمُّ انجازه في النص الأنثوي بمجرد الشروع بالمخاطبة ، فالتدوين هو صوت كينونة وهو فعلٌ خلاقٌ للانا التي تنعتق من قيومية الاخر المضادة والتي تحتمي بفهم وقائعي/ تاريخي ,من هذا التأسيس والانعتاق تنطلق رؤيا البستاني للأنوثة بوصفها مرتكزا ومحلا لمساقط الوجود بكليتها ، تعيينا وتخصيصا يقوم على فرادة لا تتغير ولا تتبدل , تحاول الشاعرة من خلالها تسليط موجات ضوئية مهولة على تاريخ محتدم من التأويلات التاريخية والدينية ، والمستمرة بفعل ذكورية اللغة وتهميش بستان الوجود الخاص بالتاريخ الأنثوي بوصفه محلا للتكوين، وبما ان الأنثى لدى المتصوفة هي صاحبة محل التكوين والمحل لدى ابن عربي هو " تسمية تخص كل ما تغلب عليه الأنوثة لما يتمتع به من استعداد وقابلية وإمكان ليحتل المرتبة التي ترجع إلى المرأة، يقول شيخ العارفين: وأشبهت المرأة الطبيعة من كونها محلا للانفعال فيها وليس للرجل ذلك، فإن الرجل يلقي الماء في الرحم لا غير والرحم محل التكوين والخلق، فتظهر أعيان ذلك النوع في الأنثى لقبولها التكوين. الاستعداد للقبول خاصية ذاتية تميز المحل ،وبفعل هذه الخاصية وجد الكون لأن كل الموجودات هي قوابل ومحال باستثناء الله"( 23) فتصور المحل يقوم على أبعاد الاسم الحوائي إذ ان اسم حواء في بعده المعجمي يحيل على أم الأحياء أول إمرأة في التاريخ الإنساني ، فهو من مصدر حوى - و حياة أو الذي يحوي الحياة في داخله ، و هذه الصفة تطابق معنى اسم حواء حيث انها تحوي الحياة في داخلها وتجمع واستدرار وانقبض،وهو اسم عبراني معناه: أم الأحياء . إن المقدرة التكوينية في صيرورة الانفعال هي القابلية على التكوين وهي ما ذهب إليه ابن عربي نفسه من تقديم الأنوثة على الذكورة مخالفا وقائع التاريخ الفقهي الظاهري .
إذ تقول الشاعرة :
" هذا دأبكَ ..ما خاتلتَ
ولا كذّبتَ الرؤيا
منذ اختار الله الكونْ
بيتاً للأشياءِ
ومنذ غزاك الإنسانُ
وجرَّح فيك جذوعَ النخل"( 24)
فالأنوثة هنا هي المائزة في طبيعة بنيتها وسرانية محل التكوين الوجودي، فهي ذات طبيعة متجاوزة بالقوة الكامنة في بنيتها وهذا ما تراه الشاعرة وتقيم توازيا بين محل الكون بوصفه بيتا للأشياء وبين طبيعتها المشابهة أي طبيعتها الحاوية للسر الوجودي:
" أهداني الرجلُ الصمتَ
واهديته الخمرة"( 25)
فالصمت هنا بوصفه التجاء إلى النبع الأول للإنسان . الصمت هو البياض غير المشوه ، هو الداخل غير المدنس . انه العودة إلى بدايات الطفولة الوجودية ،إن للصمت ترميزا اكبر يتجلى من خلال سلب الحقوق وهدم وقلب وحراثة التاريخ بمزاج فكري لتتحول الأنثى إلى كائن صامت لا يجيد سوى التحديق ,وليكون ما أهدته الأنوثة للذكورة هو الخمرة بيد انها خمرة مختلفة إنها خمرة السر الأنثوي.
لا تلتفتي وراءك ذئبْ
لا تتقدمي..
أمامك هاويةْ
كيف ستفصحُ الوردةُ عن جرحها اذن"( 26)
في هذه المخاطبة الطقوسية تجنح اللغة الى انحلال العوالم وذوبانها في طاقة خفية متخلية تعمل على إعطاء الصورة الشعرية مركزية شعائرية وفي المخاطبة الطقوسية تسعى الشاعرة الى أن يكون النص الشعري الأنثوي موصولا ككتابة طبيعية بالصوت وبالنفس، حسب تفريق جاك دريدا بين الكتابة ذات الطبيعة الغراماتولوجية المتعلقة بالكتابة ومقابلها البنويمالوجي المتعلق بالروح والنفس الإلهي، فهي كتابة شعائرية، وأقرب ما يمكن من الصوت المقدس الداخلي، صوت الإعلان الإيماني، الصوت الذي يسمعه المرء عندما يفيء إلى ذاته: حضور مليء وحقيقي للكلام الإلهي الموجه إلى شعورنا الجواني.( 27) يمكن هنا ان نشير الى ان فعل الكتابة الأنثوية ينعتق من حدود البعد الغرافي للكتابة فهي هنا تنجز انوجادها المرتهن بوقائعية التاريخ فالكتابة الأنثوية تنحت وجودها عبر عوالم جوانية تعيد فعل الكتابة إلى صيرورته الأولى خارج حدود التزمين فهذه السابقة تؤسس للصوت الطفولي القادم من أعماق الإنسان انه صوت الشاعرة الأنثوي الذي ينبع من عوالم لا يهيمن عليها العقل ، انه عالم الوجود الداخلي الذي هو أكبرُ من العقل، فصوت الوحشة والتغريب الذي تعيشه الأنثى يُسمع من تلك العوالم الجوانية للشعر وطبيعته المتعالية المشتبكة بالفزع والقلق الوجودي .
ان تسليط موجات كمية من الضوء على عتبة التكوين الوجودي بوصفه فعلا انطولوجيا ينحدر منه العالم على اعتباره منطلقا لحضور العوالم الأخرى لتكون في حلقة توزن في تجلياتها الايكولوجية. ان انجاز الكوجيتو عبر الفعل الشعري ينهض عبر حشد كمٍّ من العتبات التكوينية متبادلة بين طرفين ينبغي إعادة التوازن في سياق العلاقة التي تربط بعدها الوجودي، فبستان الوجود لدى الشاعرة يحتلُّ مرتبة مركزية مهمة في سلم الصوغ الشعري إذ تقول الشاعرة عن فعل الكتابة الأنثوية وخصوصيته فالكتابة" إفضاء والإفضاء تعبير عن امتلاء وثراء، وذلك أول مفاتيح الحل، والكتابة هوية وديمومة وخطاب، والخطاب سلطة، والسلطة حضور بقوة، وإملاءٌ لأوامر كانت مسكوتا عنها، والسلطة صوت، وهذا الصوت بالنسبة للمرأة كان في طي الكتمان خشية أو رهبة أوتقية، والصوت إفصاح وعلامة وكشف عن الذات، إنه الهوية وقد تجلت"( 28) إن الكتابة الأنثوية هي فعل عودة والتحام متصل بالمقدس ونابع من العودة دوما إلى الغيب إذ تتحول الكتابة في النص الأنثوي إلى فعل ينجز الكوجيتو عبر بستان الوجود من خلال مخاطبة تأخذ شكل طقوسية خطابية/حوارية شعائرية .
المصادر والمراجع:
الكتب
اتجاهات الشعر العربي المعاصر، د.إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة (2)، الكويت، 1978 .
الجنسانية أسطورة البدء المقدس , منير الحافظ , دار الفر قد . سورية –دمشق, 2008.
سادنات القمر، سرانية النص الشعري الأنثوي ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق – سوريا، 2010
سرد الجسد وغواية اللغة قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى، الأخضر بن السايح .
الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 1992. في حداثة النص الشعري، د. علي جعفر العلاق، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1990.
العقل الشعري ,خزعل الماجدي. دار الشؤون الثقافية – بغداد –ج1،
في الفلسفة والشعر, مارتن هيدجر, ترجمة, عثمان امين, الدار القومية للطباعة والنشر, القاهرة،
في نظرية العنونة مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، خالد حسين حسين ،التكوين للنشر دمشق 2007.
المرأة واللغة ،عبدا لله الغذامي، درار توبقال 2010، ط1
اللغة المنسية، أريك فروم، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء 1992.
مخاطبات حواء، بشرى البستاني،شمس للنشر والتوزيع ،القاهرة،ط1 ،0 2011.
المعجم الفلسفي ,جميل صليبا ,منشورات ذوي القربى ج1,
الوعي الجسدي الإشارات الجمالية في طقوس الخلاص الجسدي, منير الحافظ, دار النايا، سوريا ط1،2012
الرسائل الجامعية:
الذاكرة نصّـاً في الشعر العراقي الحديثــ التجربة الشعرية عند الروّاد ــأطروحة دكتوراه، فاتن عبد الجبار جواد الحياني ، كلية التربية للبنات/جامعة بغداد 006 2.
الدوريات والأنترنيت:
إبداع المرأة بين الخصوصية والسؤال موقع الحوار المتمدن بشرى البستاني .
انترنيت : رسالة في الحروف الفارابي: http://ar.wikisource.org/wiki .
المرآة أو حضرة الأنوثة في فكر ابن عربي، نزهة براضة ،مجلة مدارات فلسفية عدد 4.
الهوامش:
( 1) ينظر: الوعي الجسدي، الإشارات الجمالية في طقوس الخلاص الجسدي, منير الحافظ, دار النايا، سوريا ط1
، 2012: 18.
(2)سادنات القمر ,محمد العباس , دار الانتشار العربي :10.
(3)العقل الشعري ,خزعل الماجدي. دار الشؤون الثقافية – بغداد –ج1 :120.
(4 ) مخاطبات حواء، بشرى البستاني،شمس للنشر والتوزيع ،القاهرة،ط1 ،0 201.
( 5) الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر،دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 1992: 32
( 6) في الفلسفة والشعر, مارتن هيدجر, ترجمة, عثمان امين, الدار القومية للطباعة والنشر, القاهرة :87 .
( 7) في نظرية العنونة مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، خالد حسين حسين ،التكوين للنشر دمشق 2007 :77-78 .
( 8) مخاطبات حواء، بشرى البستاني، شمس للنشر والتوزيع ،القاهرة ، ط1 ،0 201.
(9 ) في نظرية العنونة مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، خالد حسين حسين ،التكوين للنشر دمشق 2007 :83 .
( 10) ينظر : المرأة واللغة ،عبدا لله الغذامي:198وينظر:سرد الجسد وغواية اللغة قراءة في حركية السرد الأنثوي وتجربة المعنى،الأخضر بن السايح :108 .
( 11) الجنسانية أسطورة البدء المقدس , منير الحافظ , دار الفر قد . سورية –دمشق, 2008: 110.
(12)ينظر: الجنسانية اسطورة البدء :9.
(13)ينظر: الجنسانية اسطورة البدء :9.
( 14) اللغة المنسية، أريك فروم، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء 87:1992.
(15)في حداثة النص الشعري، د. علي جعفر العلاق، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1990 :41 .
( 16) اتجاهات الشعر العربي المعاصر، د.إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة (2)، الكويت، 1978 :140.
(17)مخاطبات حواء؛ بشرى البستاني :9.
( 18) مخاطبات حواء:11.
( 19) الذاكرة نصّـاًفي الشعر العراقي الحديثــ التجربة الشعرية عند الروّاد ــأطروحة تقدمت بها فاتن عبد الجبار جواد الحياني إلى مجلس كلية التربية للبنات/جامعة بغداد وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكتوراه 006 2: 23.
( 20)انترنت : إبداع المرأة بين الخصوصية والسؤال موقع الحوار المتمدن بشرى البستاني .
(21) انترنيت : رسالة في الحروف الفارابي: http://ar.wikisource.org/wiki .
(22)مخاطبات حواء: عتبة .
( 23) المرآة أو حضرة الأنوثة في فكر ابن عربي مجلة مدارات فلسفية عدد 4 نزهة براضة .
(24)مخاطبات حواء:117 .
( 25) المصدر نفسه: 95 .
(26)مخاطبات حواء، 67.
( 27) ينظر: سادنات القمر:88 .
( 28) إبداع المرأة بين الخصوصية والسؤال الحوار المتمدن بشرى البستاني .
946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع