إبراهيم الزبيدي
أهلا أهلا يا أمريكا
كل شيء يتغير بقدرة قادر. فالحُب يصبح كراهية، والأبيض أسود، والأخضر أحمر، وظلام الليل ضياءً لا ينطفي. والذي لا يوافق على ذلك عليه أن يمعن النظر فيما يحدث في العراق هذه الأيام.
فالتدخل الأجنبي، والاستعمار، والاحتلال، في تاريخ العراقيين، قوميين ووطنيين، إسلاميين وعلمانيين، كانت بكل أشكالها، وما زالت، وستبقى، مرفوضة، ومقاومتُها بكل الوسائل حقٌ مشروع لا ريب فيه.
وقد نشأت أجيالنا المتعاقبة وهي تتعلم وتُعلم، وتغني وتتباهي، من أيام هولاكو وحتى زمن قاسم سليماني، بأن أعز ثلاثة أشياء لدى الإنسان الوطني الشريف، وأكثرَها قداسة واستحقاقا للتضحية من أجلها بالمال والبنين، هي "الكرامة" و"السيادة" و"الاستقلال".
إلا في أيامنا الجديدة هذه، في هذه المرحلة العجيبة هذه. فقد تغير المزاج العراقي الوطني والقومي والإسلامي، معا، تغيرا دراماتيكيا عجيبا غيرَ طبيعي، وغير اعتيادي، ومن النقيض إلى النقيض.
فبعد أن كانت الملايين تهتف ضد الأجنبي، وتبالغ في كراهته، وتتظاهر ضد ممثليه ومصالحه، وتحرق أعلامه، وتدوس بأحذيتها على صور قادته وزعمائه، عادت تتوسل به كي يتدخل في شؤونها الداخلية، وبحماس منقطع النظير.
والفضل الأكبر للرئيس الأمريكي الجديد ترمب. فخطاباته وتهديداته أدارت أعناق عراقيين كثيرين إليه، وجعلتهم يسارعون إلى نقل بنادقهم من الكتف الإيراني الصغير إلى الكتف الأمريكي الكبير، فورا، ودون مقدمات.
حتى صرنا نرى سياسيين (كبارا) عاشوا أربع عشرة سنة في كنف نوري المالكي، وبركات سفارة الولي الفقيه، من الشيعة والسنة، وبنوا تلالا من الذهب والفضة، وأصبحوا مهمين بعد أن كانوا نكرات، لا يجدون حرجا، ولا عيبا، في أن يخترعوا المبررات للقفز من الزورق الإيراني العراقي المهدد بعواصف ترمب المقبلة، والانتقال إلى جبهة الداعين إلى صداقة ترمب، والتحالف معه، ومشاركته الحرب على داعش، والتصدي لأية (دولة) مزعزعة لأمن العراق والمنطقة واستقرارها.
في الجانب الشيعي صرنا نسمع ونقرأ عن أجنحة جديدة تتمرد على الائتلاف الوطني، وعلى حزب الدعوة، بالذات، وتناصر حيدر العبادي الذاهب إلى ترمب، وهو مشمول بعطفه ورضاه، وموعود بنصره على من يعاديه، وتُجاهر باعتبار تدفق الجنود الأمريكان قوة للعراق، وعونا له على أعدائه الداعشيين.
أما سنة إيران فقد نفضوا عنهم رداء الكذب والنفاق والتخاذل، وتشجعوا، وصاروا قادة في تجمعات أقامها ومولها معارضون لنوري المالكي وإيران.
وحتى الذين حملوا البواريد والخناجر والسيوف والمفخخات بوجه (الغزاة) الأمريكان، وظلوا زمنا يُنشدون أناشيد المقاومة والفداء، ويمولون كتائب النضال القومي والإسلامي المقدس ضد الاحتلال وجيوشه وعملائه العراقيين، تحولوا، في غمضة عين، إلى مهللين مكبرين، ومبشرين بعودة (ماما) أمريكا إلى العراق لتحريره من الاحتلال، ولإحقاق الحق، ونشر العدل، وإعمار ما خربته (المقاومة) العراقية السابقة، وحروب داعش والقاعدة، ومليشيات نوري المالكي وهادي العامري وقاسم سليماني.
وصاروا يتسابقون على الفوز بمقاولات بناء القواعد والمعسكرات لجيوش ترمب، ونقل معداتها وتخزينها والتستر عليها. وبعد أن كان الرصاص يُطلق على جنودها (المحتلين) (الغزاة) أصبح يطلق فرحا بقدومهم، واحتفالا بعودتهم الظافرة.
ولم تتأخر منابر إعلام الحكومة وفضائيات معارضيها عن تبشيرنا بآخر أخبار الجيوش الأمريكية العائدة. وهذه عينة من آخر أخبار العراق الأمريكي الجديد:
"أعلن وزير عراقي أن الولايات المتحدة تخطط لتوسيع وجودها العسكري في العراق إلى نحو 10 ألاف جندي وعسكري سيتولون مهمات دعم قتالية وأخرى استشارية، فضلاً عن الإشراف على برامج إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية العراقية".
وأضاف الوزير العراقي يقول إن "الأطراف السياسية الكردية والسنية، وكتلاً مسيحية وتركمانية، وأخرى تمثل التيار المدني في العراق، رحبت بهذا الوجود العسكري الأمركي، واعتبرته أفضل الحلول لوقف الهيمنة الإيرانية على العراق وتوسعها الأخير من خلال استغلالها ورقة تنظيم داعش".
من جهته، قال برلماني عراقي، عضو في التحالف الوطني الحاكم، إن "الولايات المتحدة لن تنسحب من العراق بعد انتهاء المعارك مع داعش"، مشيراً إلى أن هذا الأمر "بات مؤكداً". وأشار إلى أن الوجود الأميركي "سيكون لإعادة تأهيل الجيش والشرطة، وتثبيت الاستقرار، ومنع عودة خلايا داعش، والمساعدة في إعمار المدن".
وحول موقف التحالف الوطني أكد البرلماني نفسه أن "التحالف يرفض الوجود الأميركي بالتأكيد، لكن بالعودة إلى اتفاقية الشراكة الأمركية - العراقية التي تم على أثرها الانسحاب الأمركي من العراق عام 2010، فإن لواشنطن الحق في ذلك".
وهكذا تتبدل القيم والمقاييس. فالظلم الوطني الذي كان عدلا بالأمس، عاد فأصبح ظلما من جديد، وفساد الزعيم الذي كان بالأمس كذبا وتلفيقا أصبح اليوم فسادا لا غبار عليه، ثم صار (عدو الأمس) الشيطانُ الأكبر زعيمُ الاستكبار وصواريخُه المدمرة الحارقة ملائكة َرحمة ٍ وعدالة وهداية ٍ وتحرر وأمان.
أما الحزن كله، والندامة كلها فعلى الدماء الشيعية البريئة التي سفكها سنة، وعلى الدماء السنية البريئة التي سفكها شيعة، كرها بالأمريكان، أو حبا بهم، ثم تبين لنا أخيرا أن مُحبهم كاذب، وكارهَهم منافق ودجال سوف تلاحقه لعناتنا إلى يوم الدين.
3933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع