د. محمد عياش الكبيسي
عرفت الدولة الإسلامية مبكرا نظام الفصل بين السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولم يكن الناس بحاجة إلى الاستفتاء السياسي إلا بحدود ضيقة وبظروف معينة، بيد أن الفقهاء كانوا يمدون السلطات الثلاث بثروة فقهية واسعة وفيها قدر كبير من الاجتهاد والتنوع تتيح لصاحب القرار رؤية واسعة وخيارات متعددة.
يمارس المجتهد دوره في استنباط الحكم الشرعي، وقد يتفق المجتهدون وقد يختلفون، وهذا الاجتهاد هو الذي أنتج المذاهب الفقهية المعروفة، فإذا ما طلب من المجتهد تنزيل حكم الله في واقعة معينة سمي هذا استفتاء وسمي بيان الفقيه لحكم الله هنا فتوى، وعلى هذا تكون الفتوى أكثر حساسية وخطورة من الاجتهاد لأنها أكثر تحديدا وألصق بحياة الناس من الرأي الاجتهادي المجرد، بيد أن المستفتي سواء كان حاكما أو جماعة أو مؤسسة أو فردا ليس ملزما بسؤال هذا المجتهد أو غيره، كما أنه ليس ملزما بالعمل بهذه الفتوى دون غيرها من الفتاوى، ذاك أن الفتوى لا تكتسب صفة الإلزام إلا في الحالات الآتية:
أولا: أن تحظى باتفاق جميع المجتهدين ولو في عصر واحد، وهذا سينقل الفتوى من دائرة الاجتهاد إلى دائرة الإجماع، والإجماع مصدر من مصادر التشريع يأتي بعد الكتاب والسنة، وهنا يجدر التنبيه إلى خطورة من يدعو إلى تنازل الفقهاء بعضهم لبعض من أجل وحدة الكلمة أو لأي هدف سياسي آخر، فإن هذا سيضفي على المسألة ثوبا من القدسية يصعب معه إعادة الاجتهاد حتى لو تبين خطأ الفتوى فيما بعد.
ثانيا: أن يتبناها الحاكم، حيث إن ولي الأمر يحسم الخلاف في المسائل الاجتهادية المتعلقة بسياسة الدولة ونظامها العام، وهذا لا يعني بطلان الفتوى التي لم يتبناها الحاكم بل قد تكون هي الأرجح من الناحية العلمية، ولهذا لا بد من الاحتفاظ بكل الفتاوى والاجتهادات المخالفة لقرار الحاكم لأن الرجوع إليها وارد في ظل الممارسة والتجربة السياسية أو القانونية، وما ينطبق على اختيار ولي الأمر ينطبق أيضا على كل نوع من أنواع السلطة سواء كانت تشريعية كمجالس الشورى أو البرلمان، أو كانت تنفيذية كمجلس الوزراء أو حتى التنفيذية الجزئية كالصلاحية المخولة لوزير أو مدير ما ضمن اختصاصه ودائرة عمله، أو كانت قضائية بحيث تتبناها المؤسسة القضائية أو القاضي المعين في محكمته الخاصة، وهذا يعني أن الفتوى الفردية لا تكتسب صفة الإلزام إلا أن تمر عبر واحدة من السلطات الثلاث.
إن القول بإلزامية الفتوى خارج نطاق السلطات الثلاث يعني تأسيس سلطة رابعة خاصة بالفتوى، وهذا غير ممكن لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية، أما النظرية فلأن مهمة المفتي بأصلها علمية إذ المطلوب منه بيان حكم الله في نازلة ما، وليس تنفيذ هذا الحكم، فالتنفيذ مهمة السلطة الحاكمة بفروعها الثلاثة، أما العلم فهو أوسع بكثير من سياقات السلطة، إذ هو الباب المفتوح لكل راغب وطالب، ونشر العلم بحثا واجتهادا وتصنيفا من أهم الواجبات وأزكى القربات، وحصر العلم في مظلة السلطة يضر بالعلم ويضر بالسلطة، ثم إذا كان للإفتاء سلطة خاصة به فأين موقع هذه السلطة بين السلطات الثلاث؟ وما قيمة البرلمان أو مجالس الشورى إذا كان للمفتي أن يلزم الأمة بفتواه خارج الشورى وخارج البرلمان؟
أما من الناحية العملية فإن الفتوى تحتمل التعدد بالضرورة وهذا من أهم ما يميزها عن سياقات السلطة، إذ التعدد والاختلاف من لوازم الاجتهاد العلمي بخلاف القوانين والقرارات التي تصدرها مؤسسات الدولة، فمع اختلاف المجتهدين أو المفتين لا يتصور القول بإلزامية الفتوى من حيث المبدأ لأن هذا يعني أن نلزم الأمة بأحكام مختلفة في المسألة الواحدة.
في الأزمات السياسية الحادة تتصاعد الضغوط على العلماء والمفتين لتوحيد آرائهم وفتاواهم، وهذا بحد ذاته يمثل خللا منهجيا، فالفتاوى لا يجمعها إلا الدليل القاطع، وفي القضايا السياسية لا يتصور وجود الدليل القاطع إلا نادرا، ومن ثم فإن اتفاق المفتين في مسألة اجتهادية لا يخلو من تدليس أو تلبيس علمي، فالمجتهد عليه أن يكون أمينا فيما توصل إليه، وقول الأعلم أو الأكبر أو الأغلب لا يسوّغ له أن يخفي هو نتيجة بحثه الذاتي واجتهاده، ولذلك رأينا في تراثنا الفقهي ظاهرة عامة وهي مخالفة التلاميذ لشيوخهم وتصريحهم بهذا من دون نكير من الشيوخ بل بتشجيع منهم كما هو الحال بين أبي حنيفة وتلامذته أبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر، بل إن الشافعي قد أخذ عن مالك وعن محمد بن الحسن ثم أنشأ مذهبه المخالف لكليهما، ثم جاء أحمد بن حنبل فأنشأ مذهبه المخالف لمذهب شيخه الشافعي، وكل هذا كان من الورع العلمي والأمانة المعرفية، أما إخفاء الحقيقة التي توصل إليها العالم باجتهاده مجاملة لغيره من العلماء أو تنازلا لرغبة السلطان أو لرغبة الجمهور فلا شك أن هذا من الإثم، ويكفي أنه شارك في نقل المسألة من دائرة الاجتهاد إلى دائرة الإجماع، فاكتسبت شيئا من القداسة الدينية وقد لا تكون هي كذلك.
نعم هناك فرق بين توحيد الفتاوى وتوحيد المواقف، ففي القضايا المصيرية تدعو الحاجة إلى حد الضرورة للاتفاق على موقف واحد، إلا أن توحيد الموقف لا صلة له بتوحيد الفتوى، بل إن الموقف لكي يكون صحيحا أو أقرب إلى الصواب لا بد من فتح المجال لكل الاجتهادات والآراء المختلفة، لنتمكن من وضع تصور شامل للمشكلة وأبعادها وتداعياتها واحتمالاتها، وهذا هو ما يحتاجه صانع القرار وليس خنق الاجتهاد أو تقليص مساحة التفكير.
إن وحدة الموقف في القضايا المصيرية مطلب مشروع، كما أن حماية الفكر والقيمة المعرفية مطلب مشروع أيضا، لكن ليس من المشروع أن نلغي أحدهما بذريعة الحفاظ على الآخر، بل الصحيح أن كلا منهما يكمل الآخر، حيث أن العلماء والمفكرين عليهم أن يقدموا كل ما بحوزتهم من معلومات واجتهادات متعلقة بالقضية مدار البحث، ثم يترك الأمر لمن يمتلك القرار وهو في العادة لا يخرج عن دائرة السلطات الثلاث، فالقرار الملزم لا بد أن يصدر من صاحب سلطة، والقرار حتى لو صدر من أعلى سلطة في البلاد فإنه يقيد الجانب العملي والإجرائي وليس الجانب الفكري، حيث ستبقى المسألة تناقش في أروقة العلم بكل أبعادها واجتهاداتها المختلفة، وبهذا نكون قد نجحنا في التوصل إلى حل متوازن يضمن حرية الفكر والاجتهاد من ناحية ويضمن وحدة الموقف العملي من ناحية أخرى.
في تاريخنا الطويل لم تظهر الحاجة أبدا إلى توحيد الفتاوى، بل كان التعدد المذهبي الواسع سمة بارزة من سمات العصور الذهبية للأمة الإسلامية، وما ذاك إلا لوجود ميزان واضح لتوزيع المهام والصلاحيات، وحين تتصاعد المطالب اليوم في أي مجتمع بتوحيد الفتوى لضبط توجهات الأمة في قضاياها المصيرية فهذا يعني وجود خلل فادح في هذا الميزان، أو خلل في مؤسسات السلطة ومدى الوثوق أو الاطمئنان إلى قراراتها وهذا يتطلب معالجة أكبر بكثير من مسألة توحيد الفتوى
816 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع