تقديم وتحقيق: أ.د. سيّار الجميل
مذكرات تحسين قدري المرافق العسكري الأقدم للملك فيصل الاول - ٢
الترجمان الجد الأكبر والطريق إلى البصرة يبدأ من نابلس ويصطدم بالملاريا
هذه هي مذكرات الاستاذ تحسين قدري (1894 -1986) المرافق العسكري الاقدم للملك فيصل الاول منذ التحاقه في عمليات الثورة العربية الكبرى عام 1916، و مرافقته له في الحكومة الفيصلية في سوريا، وبقائه تحت ظله على امتداد عهد فيصل في العراق ووصوله الى رئاسة دائرة التشريفات في البلاط الملكي العراقي واستمرار وجوده مرافقا وأمينا وسفيرا دبلوماسيا للعراق على عهد الملك غازي الاول 1933- 1939م، وعهد الوصاية 1939- 1953م وعهد ابنه الملك فيصل الثاني 1953- 1958م وبقي يعيش في سويسرا حتى رحيله في شهر آب / اغسطس عام 1986، وهو من اصل سوري، ولكنه تربى ودرس في العراق وشهد تاريخ العهد الملكي في العراق بطوله، فهو ذاكرة تاريخية لحياته الطويلة في القرن العشرين.
وصيتي للأجيال العربية الجديدة أن لا ينسوا من جاهد في سبيل استقلال العالم العربي، وإعلاء شأن العروبة، بصمت وصبر وصلابة بدون السعي طلبا للشهرة، ومنهم من وافاه الأجل، وليس له سبيل الدفاع عن نفسه ،أمام تطبيل وتشويش أولئك الذين يتحكمون في وسائل الإعلام
أجل لقد شاهدت ما قد يبدو للمواطن العربي المعاصر، إنه خطايا سياسية جوهرية، وعلى سبيل الأمانة التاريخية، أذكر في مذكراتي هذا ما أعرفه من التفاصيل والدوافع، لكي أترك الحكم عليها للقارئ النبيه .
تحسين قدري
الفصل الأول
عصر الدولة العثمانية : السنين الأولى
ترجع أصول أسرتي إلى جدي الأكبر الذي يسمى “يحي الترجمان ” وكان من أهالي الشام، اصطفاه الأتراك بعد فتح الشام، حين وجدوه يجيد اللغتين الفارسية والتركية على عادة أدباء ذلك العصر، ولقبوه” بالترجمان “، وأصبح من الأعيان، وله إلى الآن أوقاف خيرية مسجلة في حجج مدينة دمشق في السجلات الشرعية، وله ذرية كبيرة معروفة في سوريا، وخصوصا في مدينة حلب. أما والدتي فتنتسب إلى أسرة ” الكليدار “، ويقال أن أصولها ترجع إلى خالد بن الوليد، وأذكر أن عمها هو السيد أمين كليدار الحضرة لخالد بن الوليد، وكان عالما جليل الشأن، يجلب لي الحلويات في طفولتي، ولا أزال أذكر عمامته ولحيته البيضاء .
والدي هو عبد القادر أبن أنس آغا الترجمان، وتخفيفا لأسمه دعي” بقدري “، وبقي هذا الاسم كنية لأولاده وأحفاده لا نعرف إلا بها. كان والدي من أمراء الجيش العثماني في بداية حياته العملية، وأصيب في معركة “يلوند”، فنقل على أثرها إلى بعلبك، ليصبح حاكما عسكريا .
ولدت سنة 1889م في بعلبك، في بيت كان يقع بجانب معبد جوبيتر الشهير ” بمعبد الشمس “، وكان أبي هو الحاكم العسكري، وترجع بي الذاكرة إلى سن الثلاث سنوات،حيث كنت مولعا بالفروسية، وكنت لا أتوقف عن البكاء إلا حين يضعوني فوق ظهر الحصان الذي كان دوما في الإسطبل، وربما عاد تعلقي بالفروسية إلى هذا الزمن المبكر في حياتي .
وبحكم عمل والدي، تنقلت العائلة حيثما تنقل، فبعد عمله في بعلبك، انتقلنا معه إلى بيروت وعكا
، حيث عين والدي مفتشا للجيش، ّوكان يغطي مناطق بيروت وعكا وفلسطين، وأذكر حين وصولنا بيروت عن طريق البحر، وكان ميناء بيروت لم يبن بعد، دفع بي البحارة مثل كرة الصولجان من الباخرة إلى القارب الذي نقلنا إلى الشاطئ .
امتدت هذه الفترة لمدة عامين، زرنا خلالها الكثير من المدن، مثل صور ويافا ونابلس وعكا وحيفا وطول كرم وبيروت ودمشق، ثم جاءت فترة استقرار نسبي، حين أصبح والدي قائدا لموقع نابلس، وكنت أنا في بداية دراستي الابتدائية، كنت هادئا، أميل إلى التفكير، وكان لدي ميل مبكر في الإطلاع على تاريخ العرب، وتركات الأسلاف، وبدأت مرحلة التعليم في حياتي عندما أدخلت مدرسة الفرير الفرنسية الجزويتية في يافا، وتعلمت هناك مبادئ اللغة الفرنسية مبكراْ، وكثيرا ما كان والدي يصطحبني معه في رحلاته التفتيشية، وكنت أنا وأختي “عصمت من المدللين لصغر سننا، أما أخواي زكي وأحمد، فكانوا في مدارس بيروت وأسطنبول، وكان والدي شديد الرغبة في إرسال أبنائه إلى المدارس ذات السمعة العالية أينما كانت، وكان لا يبخل في المصاريف الباهظة، ومن جيبه الخاص على تعليم أولاده، فهو قد أرسل أخي أحمد إلى باريس لإتمام دراسة الطب، وأدخل أخي الأكبر زكي مدرسة ملكية شاهان في أسطنبول، وهذه مدرسة كانت تشهد إقبالا شديدا عليها، ومن جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، حيث كان المتقدمين للالتحاق يعدون بالمئات كل عام، وكان عليهم النجاح في امتحان شديد الصعوبة، وكان لا يسمح بالالتحاق بها، سوى لأربعين طالبا من المتفوقين فقط، وهذا يعني أن أخي زكي كان من بين هؤلاء الذين أسعدهم الحظ فدخلوا هذه المدرسة المتميزة في عاصمة الدولة العثمانية .
ولم يكن هناك تمييز في هذه الفترة بين الطلبة من المتقدمين من حيث الجنس، إذ لم تكن نعرة القومية التركية ظاهرة في جهاز الدولة العثمانية في زمن السلطان عبد الحميد، بل العكس، فكان عبد الحميد يظهر مراعاته للعرب وغيرهم من شعوب الإمبراطورية، كالأرناؤوط وهم سكان جنوب تركيا حاليا، وقد أنشأ كتيبة من العرب، وأخرى من الأرناؤوط لحمايته في حرسه الخاص، وكان سكرتيره المقرب ” عزت العابد ” الملقب ” بعزت عرب “، ومستشاره الديني الشيخ “أبو الهدى الصيادي ” وغيرهم العديد من المقربين من العرب. وسياسة التقريب هذه زمن السلطان عبد الحميد الثاني معروفة، حيث كانت الزعامات المحلية تدعى إلى مركز السلطان في أسطنبول لكي تمنح الهدايا والأوسمة والألقاب، لينبهر الزعيم القوي بسلطة السلطان، وتخدر أعصابه، ولا يجد إلا الانصياع، ونسيان الأفكار القومية .
الرحيل إلى البصرة:
لم تدم فترة استقرارنا في نابلس طويلا، فقد رفّع والدي إلى رتبة أمير آلاي، وعين قائدا في البصرة، ورئيسا للهيئة التفتيشية في العراق، وكان ذلك في سنة 1903م أو 1904 م، لا أذكر بالتحديد، واستعدادا للسفر والانتقال إلى البصرة، سافرنا ا إلى دمشق لإتمام العدة للسفر
إلى بغداد، وكان حينها يتم السفر على الجمال بالقافلة، ويتطلب هذا الإعداد الشاق والمكلف، بتحضير الخيام وقرب المياه وأواني الطعام والسروج والهوادج وغيرها من ترتيبات الرحلة التي تستغرق أكثر من ثلاثين يوما في العادة . وبعد قرابة الشهر من التحضيرات وتوظيف المرافقين والحرس المسلحين للحماية، تحركنا من دمشق في اتجاه تدمر، ثم قطعنا الصحاري مرورا بدير الزور، فالقائم، ثم عنة وهيت، وأخيرا وصلنا بغداد، وأذكر أنني كنت (الولد المدلل) عند والدي ودائما ما كان يصطحبني معه على ظهر بعيره في المقعد المسمى” بالتختروان “، أما أختي ووالدتي فكانتا داخل الهودج( المحارة )، وكنا نتوقف مساء”، وتذبح الخرفان ويحضر الرز وتعد الموائد لإطعام القافلة .
الوصول إلى بغداد:
وصلنا بغداد في جانب الكرخ، فاستقبلنا مساعد والدي المقدم محمود الزهاوي، وهو والد ناجي وخالد الزهاوي، الذي وصل فيما بعد إلى رتبة أمير اللواء في الجيش العراقي في العهد الملكي، ونزلنا ضيوفا عندهم في محلة الميدان الواقعة في جانب الرصافة، واذكر من هذه الفترة برتو باشا الشهير، مفتش الجيش العثماني الثامن في العراق، ومن المدارس أذكر المدرسة الرشدية، والإعدادية المركزية، والإعدادية الملكية .
لم تطل إقامتنا في بغداد، وتوجهنا بعد فترة قصيرة إلى البصرة بالباخرة النهرية” البرهانية “، واستغرقت الرحلة من بغداد إلى البصرة ثمانية أيام، وعندما وصلنا البصرة، سكنا في محلة العشار، وأذكر اهتمام والدي الشديد بإنشاء الثكنة العسكرية في العشار، والمسماة ” بالقشلة “، وقد نشرت الصحف العراقية في فترة الستينات صورة أخذت في هذه الثكنة، والتي هي مركز لواء البصرة، وكان ظاهرا في الصورة الشيخ، وهو من آل الصباح، لأن الكويت آنذاك كانت قائمقامية تابعة إلى لواء البصرة حسب التقسيمات الإدارية العثمانية .
وفي البصرة دخلت مدرسة الرشدية، وأذكر مدير المدرسة التركي ا بعمامته الوقور، وعندما وصلت السنة النهائية كان في الصف سبعة من الطلبة فقط، وبعدنا بسنة واحدة كان الشيخ عبد القادر باش أعيان، و قد حرص والدي على استمرار دراستي للغة الفرنسية التي اكتسبتها من دراستي المبكرة في مدرسة الفرير، فعين لي الأستاذ “إيلي ويردي ” لإعطائي الدروس الخصوصية بالفرنسية . وفي هذه الفترة كان أخي أحمد لا يزال يدرس الطب في باريس، لكي يكمل التخصص، أما أخي زكي فكان في اسطنبول، وأذكر الفرحة التي عمت في البيت حين وصلت برقية من أخي زكي، يخبرنا فيها إنه كسب المسابقة، ونجح في الامتحان بترتيب الأول على دفعته في أسنا في تركيا .
استمر عمل والدي في البصرة حوالي السنتين، ومن خلال مركز والدي في المجتمع المحلي، تعرفت على الكثير من أسر البصرة المعروفة، مثل آل القرطاس والفداغ والزهير وباش أعيان والنعمة وآغا جعفر وغيرهم، وقد رقي والدي وعين قائدا ووكيل والي ورئيسا لديوان الحرب في بغداد، وتعين علينا عندها الانتقال إلى بغداد.
بغداد من جديد:
انتقلنا إلى بغداد، ووجدنا سكنا في محلة الميدان بالقرب من سكن ياسين الهاشمي وعزت الجراح، وكانت محلة الميدان في ذلك الوقت أهم منطقة في بغداد، وفيها مسكن الوالي والذي أصبح مركز المجلس النيابي في العهد الملكي، وقد أدخلني والدي في المدرسة الإعدادية بعد نجاحي في امتحان الدخول، وأذكر في هذه المرحلة، مدير المدرسة وأسمه أمين أفندي، والمعاون المغربي الأصل وأسمه محمد علي، ومن الأساتذة أذكر معروف الرصافي الشاعر العراقي الشهير، والذي كان يدرس مادة اللغة العربية، أما زملائي الطلاب فهنالك رشيد عالي الكيلاني، وحسن الكيلاني أبن السيد داود، وعاصم الجلبي الذي نجح بترتيب الأول على الصف، في حين كان توفيق السويدي وناجي شوكت ومزاحم الباجه جي قد سبقونا بسنتين .
كنت ناجحا في دراستي، ولا أزال أذكر بعض مواد الامتحان، والمواد التي تدرس بالتركية، ولكني كنت منزويا وهادئ الطبع، ولم أشترك في الكثير من النشاطات السياسية وغيرها مما يحاك من مؤامرات طلابية .
السفر إلى اسطنبول :
لم يكن قد مر على استقرارنا في بغداد سوى ستة شهور، عندما أستلم والدي أوامر النقل إلى البصرة ثانية، لشغل منصب مفتش في الجيش، وحيث أن مناخ البصرة شديد الرطوبة، وكان مرض الملاريا منتشراً فيها، لم ترغب الأسرة في العودة إلى البصرة، واتخذ القرار بالانتقال إلى اسطنبول، لذا فقد سافرت بصحبة والدتي وأختي عصمت إلى اسطنبول، للسعي في نقل والدي للجيش الخامس أو السادس، وأذكر أن السفر كان حوالي سنة 1905م، في باخرة روسية، ولما وصلنا اسطنبول، استأجرنا منزلا في ضاحية ” قاضي كوي “، ودخلت مدرسة وفاء الواقعة داخل المدينة، وحتى أصل المدرسة، كان عليّ أن أقوم في الصباح الباكر وأترك البيت في الساعة السادسة صباحا، لكي أركب الباخرة رقم 4ٍ شركة مخصوصة، وبعد الإبحار حوالي 45 دقيقة، أصل إلى المرسى في اسطنبول، وأكمل المسافة سيرا على الأقدام،لأصل إلى المدرسة في الساعة الثامنة صباحا وهو موعد الدوام المدرسي.
تصادف وصولنا إلى اسطنبول مع حلول شهر رمضان، ولشهر رمضان طابعه الخاص في اسطنبول آنذاك، وأذكر أنه في الجامع الذي يقع قرب نظارة الحربية (قيز قوله سي ) كان الباعة يقومون بغناء الألحان الجميلة لاجتذاب المشترين، حيث تباع الكثير من المشهيات النقلية وأنواع البهارات، وأذكر حتى اليوم لحن ( قرمزي يبر – بشيل يبر – دار شينده دار ..) وفي المساء كان أهل ” بشكه سي ” القريبة من ” سراي يلدز ” أي قصر يلدز، ترسل لهم موائد طعام الإفطار، ومن لم يصبه النصيب من الولائم السلطانية، كان يشتري صينية الإفطار الكاملة بمنوعات الطعام الشهي بسعر منخفض، وكان أهالي اسطنبول في قمة التمدن، ولهم طابعهم الخاص في المعيشة واللباس واللغة ونغمة الكلام والظرف والجمال والتربية البيتية والتقاليد الدينية وأصالة الأسر العريقة وغيرها .. أما لباس السيدات فكان جميلا للغاية، وأسمه : (يشماق وجارجف ) ويكون الوجه فيه مكشوفا.
ومن المشاهد التي لا تنسي، في ليلة المعراج حيث تذهب حاشية السلطان في موكب كبير يضم حوالي خمس وعشرون عربة، إلى ضاحية ” دير كلر أراسي ” لزيارة ضريح والدة السلطان، والصلاة في مسجد (والدة سلطان جامعي ) . وكانت الجواري الحسان من أصول كرجية وشركسية، والوصائف يلبسن اليشماق من التول الأبيض الرفيع، ويظهرن الوجوه الجميلة، والأعين البراقة التي توزع النظرات الجذابة ذات اليمين وذات اليسار. وما زلت أذكر البيوت الجميلة في مضيق أيجي، ولو ابتدأت في الكتابة عن اسطنبول وجمالها القديم، لما توقفت عن الكتابة أبدا، فلها سحرها وروعتها التي تسكن القلوب والعقول .
لم تدم فترة إقامتنا في اسطنبول، فقد تمكنت والدتي من النجاح في سعيها لنقل والدي، وبالفعل
عين مفتشا ورئيسا لديوان الحرب للجيش الخامس الواقع في دمشق، وكان علينا أن نعود إلى دمشق، فتركنا اسطنبول وتوجهنا إلى دمشق آنذاك لاستقبال والدي الذي تسلم عمله في دمشق، واجتمع شمل العائلة من جديد .
الاستقرار في دمشق:
أدخلت مدرسة عنبر الإعدادية في الصف الخامس، وكان معي في مدرسة عنبر “نسيب البكري، و مع أنني كنت الأصغر سنا في الفصل، إلا أنني نجحت بترتيب الثاني على الصف، وكان لي عندها ولع شديد بالأدب والتاريخ والفنون الجميلة والخط والرياضيات .
في تلك الأثناء كانت الأحداث التاريخية تتوالى بسرعة لتغير شكل المنطقة بأسرها، ففي سنة 1908م، أعلن الدستور في الدولة العثمانية، وزحف أنور ونيازي على اسطنبول انطلاقا من الرومللي، وفي البداية نظرت كافة الشعوب إلى هذا التطور نظرة التفاؤل، ورحّب الجميع بما فيهم المثقفون العرب بسيادة الدستور أيما ترحيب .
وفي مكتب عنبر، جري الاحتفال ابتهاجا بهذه المناسبة، وكلفت أنا بإلقاء الخطاب على الرغم من صغر سني، وقد ألقيته ارتجالا باللغة التركية، وقوبل بالتصفيق والاستحسان، وحين رجوعنا إلى البيت أعطاني والدي الذي كان حاضرا الاحتفال، مكافأة (مجيدي) أي ما يعادل الربع جنيه ذهب، وقال لي تشجيعا، أنه مسرور جدا لنجاحي في الخطابة .
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/maqalat/32514-2017-10-30-07-31-50.html
363 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع