مذكرات تحسين قدري المرافق العسكري الأقدم للملك فيصل الاول - ٣ و ٤

                                                       

               تقديم وتحقيق: أ.د. سيّار الجميل / كندا

              

         

مذكرات تحسين قدري 1894- 1986 المرافق العسكري الأقدم للملك فيصل الأول

تقديم

هذه هي مذكرات الاستاذ تحسين قدري (1894 -1986) المرافق العسكري الاقدم للملك فيصل الاول منذ التحاقه في عمليات الثورة العربية الكبرى عام 1916، و مرافقته له في الحكومة الفيصلية في سوريا، وبقائه تحت ظله على امتداد عهد فيصل في العراق ووصوله الى رئاسة دائرة التشريفات في البلاط الملكي العراقي واستمرار وجوده مرافقا وأمينا وسفيرا دبلوماسيا للعراق على عهد الملك غازي الاول 1933- 1939م، وعهد الوصاية 1939- 1953م  وعهد ابنه الملك فيصل الثاني 1953- 1958م وبقي يعيش في سويسرا حتى رحيله في شهر آب / اغسطس عام 1986، وهو من اصل سوري، ولكنه تربى ودرس في العراق وشهد تاريخ العهد الملكي في العراق بطوله، فهو ذاكرة تاريخية لحياته الطويلة في القرن العشرين.
الحلقة الثالثة:
تفوق في الدروس الحربية وإصابة الهدف بالعتاد والرغبة دخول الخيّالة

المدرسة العسكرية
رغم نجاحي في مكتب عنبر وتفوقي، إلا أن والدي كان يرغب في أن يكون مستقبلي في المجال العسكري، تخليدا واستمرارا لمسلكه، ولذلك قرر إخراجي من مدرسة عنبر الملكية، وإدخالي مدرسة الرشيدية العسكرية، ولم أكن أرغب حينها في هذا القرار، وكنت أعتقد أن هذا الاختيار هو من قبيل التراجع وليس التقدم، حيث أن تفوقي في الامتحان سوف لن يؤخذ بالحسبان، وسوف أدخل الفصل المقابل لسني، لذا فقد أمضيت العام الدراسي بدون اهتمام، وكنت أراجع الدروس فقط وقت الامتحان، وكنت أقضي الليل أقرأ التاريخ العربي وبعض قصص المغامرات بشغف، ونجحت في آخر السنة نجاحا عاديا بغير تفوق كعادتي، وأذكر من هذه الفترة أستاذ اللغة العربية وأسمه المرعشلي، وكان من أصل تركي، ويلبس العمامة، ومن الجدير بالذكر أن اللغة العربية كانت تدرس وتكتب بالتركية …!
وكنت أتساءل وأنا في المدرسة الإعدادية العسكرية، عن جدوى قيامي بإهمال الدراسة،فلم أجد المبرر، لذا عكفت من جديد على قراءة المناهج العسكرية، فوجدتها شيقة، وأزداد اهتمامي وزادت قراءتي، وحققت نجاحا كبيرا في المراحل الأولى وكنت متقدما، حتى أنني قمت بإعطاء الدروس ليلا لكثير من زملائي في الفصل  .
بداية التنظيمات العربية
ابتدأت الاتجاهات المتحيزة للقومية التركية تظهر من خلال الحركة الطورانية، مما دفع بالقوميات الأخرى للتكتل حفاظا على مصالحها واستقلال شخصياتها، فأنشأت النوادي والأحزاب والصحف القومية للأرمن والأرناؤوط وغيرهم  . ولاقى هذا الشعور صداه بين فريق من ذوي المقامات الرفيعة، وأهل الرأي من العرب، فأنشئوا جمعية الإخاء العربي، وكانت غايتها المعلنة إعلاء شأن القومية العربية وأبنائها ثقافيا واقتصاديا، لكن بدون إظهار أي عداء للحكم القائم، ومن سياستها دعم جمعية الاتحاد والترقي في الدفاع عن الدستور، والحفاظ على وحدة القوميات تحت راية الدولة العثمانية، بدون تعصب وبالعدالة والمساواة. ولكن كان الواقع لا يشجع هذا الشعور المثالي، فمظاهر العداء السافر للقوميات غير التركية، وخصوصا للعرب، كانت منتشرة، مما حدا بالكثير من جاليات الشعوب العثمانية لإنشاء الجمعيات السرية للدفاع عن حقوقها ومصالح شعوبها.  لم يدم الحال في صالح جمعية الإخاء العربي طويلا، ففي 31 مارس من عام 1909 م، قام أفراد الجيش في منطقة اسطنبول بالعصيان، وجردوا الضباط من رتبهم، وطالبوا بالرجوع إلى الأوضاع السابقة، واستعادة عبد الحميد لسلطاته، مما دفع بالجيش المرابط في الولايات العثمانية في أوربا، إلى الزحف على اسطنبول، بقيادة محمود شوكت باشا العراقي الأصل، والقضاء على الفتنة، وخلع عبد الحميد نهائيا . وبما أن معظم مؤسسي جمعية الإخاء العربي كانوا من مؤيدي العصيان، فقد انحلت الجمعية تحت هذه الظروف .
العودة إلى اسطنبول:
واستمرار لدراستي العسكرية، ذهبت إلى اسطنبول سنة 1911 م، للالتحاق بالمدرسة الحربية في القوله لي،  حيث يتجمع الطلاب من جميع أنحاء البلاد عثمانية للدراسة، وقتها كان مدير المدرسة هو وهيب بك الشهير بلقب وهيب باشا، وتولد لدي الشعور بوجوب التكتل للدفاع عن القومية العربية، أمام هجمات فرقة الاتحاد والترقي، واستعلاء أفرادها وتعظيمهم للقومية التركية، وكان من مظاهر العداء للعرب منع قراءة كتب التاريخ العربي، ولكني كنت أقرأها سرا خلال ساعات الليل، ومن مظاهر التضييق التي عشتها ما حدث معي عندما استلمت بالبريد من أخي أحمد في باريس، كتابا قصصيا بسيطا بالفرنسية،  رغبة منه في استمرار قراءاتي باللغة الفرنسية، لئلا أنسى ما درسته من اللغة الفرنسية، فاستدعاني المدير وأستفسر عن سبب مراسلاتي مع باريس، فأخبرته بأنني أراسل شقيقي، ولكن المدير منعني من التراسل مع أخي بدون سبب وجيه، مما زاد من مشاعر عدم ارتياحي من سياسة الاستعلاء الذي انتشر مع تعاظم قوة الاتحاد والترقي .
حادثة التنويم المغناطيسي :
كان لي ولع في الدراسة والإطلاع على الكثير من المواد مثل الفلسفة وعلم النفس والتنويم المغناطيسي، وقد نبهني أستاذ الفلسفة لأن نظراتي قوية الجاذبية، ومن الممكن أن أؤثر على الغير بالإيحاء، وحصلت لي واقعة غريبة، ففي ذات ليلة قبل العشاء، جاءني بعض الزملاء مذعورين، وطلبوا مني الإسراع بالذهاب إلى السرداب لإنقاذ حياة أحد الطلبة، الذي كان تحت تأثير  التنويم المغناطيسي، ولم يستطع الذي نومه من إيقاظه، فذهبت معهم، وركزت حواسي وتفكيري عليه، فشعرت بأني قد تغلبت على أحاسيس النائم، وكان يأتمر قبل أن أطلب منه صراحة، وقلت له أن الجو بارد، فأخذ يرتجف، ثم أمرته بالجلوس ثم المشي فأطاع بدون تردد. وأخيرا طلبت منه أن يستيقظ من نومه، ويذهب لتناول العشاء فأمتثل، وهكذا أنقذته من مغبة الانزلاق في غيبوبة عميقة لا تعرف نهايتها. بعدها ذهب الجميع بما فيهم الذين قاموا بتنويم الطالب لتناول العشاء في قاعة المطعم، وكان فيها أكثر من ألف وخمسمائة طالب. ومن شدة التوتر، حصل لي شيء من التشنج، فاتكأت قليلا على الحائط، وكانت جموع الطلبة متحمسة لما حدث، وحصل شيئا من الشغب، لكني توجهت إلى محلي على طاولة الطعام بهدوء.
وصلت أخبار الحادثة إلى المدير في الليلة نفسها، فاستدعاني فورا وأودعت السجن الانفرادي في غرفة صغيرة بدون أي منفذ،  وقضيت ليلة مزعجة،  ثم مثلت أمام محكمة “ديوان حرب”، فاعترضت على معاملتي معاملة المذنب،  في حين كنت الذي أنقذ الطالب، ويبدو أن المحكمة اقتنعت بحجتي وأيقنت ببراءتي، فأطلق سراحي بعد أن أمرتني المحكمة بتجنب الانشغال في الأمور النفسانية .
بعض التنظيمات السياسية على الساحة العربية
تسبب جو الاضطهاد في إنشاء التجمعات العربية، وأولها ” المنتدى العربي ” الذي شاركت في نشاطاته، وساهم في تأسيسه أخي أحمد عام 1909م بالاشتراك مع يوسف مخيبر وسيف الدين الخطيب ورفيق رزق سلوم وعبد الكريم قاسم الخليل وجميل الحسيني وأحمد عزت الأعظمي الذي قام بإصدار مجلة المنتدى. قام هذا التنظيم العلني بمساندة الطلاب الوافدين، وتعزيز شعورهم القومي العربي، وحاز على مكانة اجتماعية واحترام السلطات سواء من الزعماء العرب أو الاتحاديين، وخصوصا بعد عقد مؤتمر باريس عام 1913م، وكانت شخصية رئيس المنتدى عبد الكريم قاسم الخليل الطموحة والمعتدلة، من أهم العوامل التي ساعدت في رفعة شأن هذا التنظيم، وقد دام نشاط المنتدى إلى بداية الحرب العالمية الأولى حيث أغلق في أوائل عام 1915 م .  وكانت السرية في العمل السياسي هي النتيجة الطبيعية للظروف السائدة آنذاك، وكنت على اتصال دائم بالحركة العربية، وخصوصا المنتدى العربي، ومن أعضاء الجمعية اللامركزية عزيز علي المصري وعبد الحميد الزهراوي، ولكني كنت كثير الحذر والكتمان، وساعدني على إخفاء عواطفي الجياشة وتطلعاتي الثائرة، إتقاني للغة وإجادتي الأدبية، حتى أنني كنت أنظم الشعر باللغة التركية .
جمعية العربية الفتاة:
أما جمعية العربية الفتاة التي بدأها أخي أحمد، و كان بمثابة المفكر الأيديولوجي للجمعية بالاشتراك مع عوني عبد الهادي ومحمد رستم حيدر في أسطنبول، فقد انتقلت إلى باريس قبل رحيلي من دمشق، وكانت أوضح مثال على سرية العمل المنظم، فالانتساب يتم بالتزكية من عضوين، بحيث لا يتعرف العضو الجديد إلا على شخصيات عضوين فقط، والاتصالات الحذرة وغيرها الكثير من الانضباط لحماية سرية العمل .
نشطت جمعية العربية الفتاة واتسعت بعد بداية نشاطها في باريس سنة 1911م، وكان هدفها النهضة والتقدم بالعرب إلى مستوى الدول الحديثة، وضمت أول هيئة إدارية بالإضافة للمذكورين رفيق التميمي، محمد محمصاني، عبد الغني العريسي، صبري الخوجة، وتوفيق الناطور، ثم أنضم إليهم جميل مردم بك، صبحي الحسيبي، الأمير مصطفى الشهابي، توفيق فايد، وإبراهيم حيدر .   وقد ارتبطت العربية الفتاة في باريس بالمنتدى الأدبي، بعد أن أنضم للمنظمة سيف الدين الخطيب ورزق سلوم ويوسف مخيبر، وهم من أعضاء المنتدى في أسطنبول  .
ومن أهم أعمال الجمعية القيام بدور رئيسي في تنظيم مؤتمر باريس الذي ضم ممثلين من المسيحيين العرب والجاليات العربية في دول المهجر، ومن عدة تجمعات عربية، مثل حزب اللامركزية المصري الذي يسعى إلى حصول البلاد العربية على شـــــكل الإدارة اللامركزية من الحكم العثماني، والجمعية الإصلاحية في بيروت ذات الأهداف المشابهة .   أنعقد مؤتمر باريس في 18 إبريل 1913م، وكانت غايته الاتفاق على مطالب محددة للمفاوضة مع الحكم العثماني باسم العرب جميعا، وتّم هذا، وأرسلت الحكومة العثمانية على أثر صدور قرارات المؤتمر مندوبها إلى باريس، للاتفاق على صيغة مقبولة، وقد تم هذا بالفعل،  لكن الأحداث أظهرت سوء نية الأتراك على الإيفاء بوعودهم .
حياتي في المدرسة العسكرية:
مصاريفي الشهرية كانت لا تعدو الجنيه الذهب، وكان والدي يرسله لي بواسطة وكيل أعماله في اسطنبول، و كنت في أيام الجمع وهي إجازتنا الأسبوعية، أشتري الكثير من الحلويات والوجبات وأغطي مصاريفي والنثريات، وبعد كل ذلك يتبقى بعض الفائض من المال. فجعت بوفاة والدتي قبل تخرجي من المدرسة الحربية بعد إصابتها بالكوليرا، وأوجعني ذلك كثيرا، وزاد من آلامي عدم تمكنها من رؤيتي بملابسي العسكرية، عندما تخرجت ضابطا، حيث كنت أعرف أنها كانت تلك أمنيتها، لقد زادني فقدان والدتي الأليم، تصميما على التفوق واجتهادا في متابعة الدروس في مسلك الجندية.   أما أخوتي فكان أخي زكي قد عين قائم مقام قضاء قطنة،  في حين أتمّ أحمد دراسة التخصص الطبي، وفتح عيادة لعلاج الأمراض الجلدية والزهري، في موقع ملاصق لدار والدي في “الشابكلية “، في ضاحية القنوات المحاذية لسوق الحميدية الشهير في دمشق.
مقررات الدراسة
 كان من مقررات الدراسة في مدرسة ” القله لي ” في مقري كوي في اسطنبول آنذاك، القيام بالمناورات العملية، وأذكر أن دفعتي ذهبت إلى منطقة ” جتالجه”، وبرفقة طلاب مدرسة الحربية (بانفلاتي) لاجراء المناورات لمدة شهر، وقد أمضينا الشهر بطولة ننام في العراء ونتوسد الصخور، ونمشي باليوم الواحد ثلاثين كيلومترا، وكل واحد منا يحمل من حوائجه ما وزنه ثلاثين كيلو غراما، بالإضافة إلى بنادق الماوزر الألمانية الصنع، ومن ناحية أخرى فقد كوفئنا بعض الأوقات بالذهاب إلى قصر ” الماصلاق ” من قصور سلاطين آل عثمان، وفيه حديقة غناء،وأذكر أننا دعينا إلى حفل ختان أبن وهيب باشا .
نجحت بتفوق في الدروس الحربية، وخصوصا في إصابة الهدف بالعتاد الحي، وكنت أرغب في دخول سلك الخيالة، وحالفني الحظ وفزت بالقرعة لأختيار طلبة الخيالة، فسررت لذلك وزاد عزمي لإتمام الدراسة بتفوق، كانت حرب البلقان قد دارت رحاها، وحصلت الهزيمة الفاجعة لحكومة العثمانيين، وكان آنذاك السلطان هو رشاد آخر سلاطين بني عثمان، وحصلت الكثير من المشاكل في عهده من أجل توطيد الأمن في اسطنبول، وذلك لغياب القوات العسكرية للقتال ضد البلغار والصرب، لذا أنيط بنا محافظة السفارات في اسطنبول، وكنت رئيسا لفرقة الخيالة التي تقوم بالحراسة الليلية. كان الفصل شتاء، والبرد الشديد يؤثر فينا، ومن المعروف أن شتاء اسطنبول قارص وحادّ، لكنا وجدنا ما يخفف العناء باحتساء البونج البارد، وهو مزيج من البيرة وقدح من القونياق، وقد أثرت كارثة حرب البلقان كثيرا بالحياة اليومية في الدولة العثمانية، وخصوصا حينما وصل الصرب واليونان والبلغار إلى مشارف اسطنبول (شتالجه)،فأخذ الطلبة في المدرسة الحربية يطالبون بالالتحاق بالجبهة، ولكن القائد العسكري في اسطنبول حال دون ذلك، حيث لم تكن هنالك قوة عسكرية كافية للمحافظة على الأمن في اسطنبول ذاتها، وكان الطعام المتوفر أصبح شحيح و لا يمكن أكله.
ففي الصباح يقدم فنجان شاي مع قطعة من الخبز سوداء اللون، وظهرا فاصوليا خضراء، وذات يوم اكتشفنا وجود فارة في إناء الطبخ، فأرسلنا كتاب احتجاج إلى مدير المدرسة، وكثيرا ما كنا نكتشف الصراصير في الفاصوليا، أما الذباب فكان وجوده لا يثير التساؤل بعد الفئران والصـــراصير. وعندما راجعت ضابط الخفر للمطالبة بتحسين الأكل والنظافة العامة، كان رده أن الجندي يجب أن يتدرب للتحضير للمعارك التي فيها ظروف أقسى من هذه.. والجنود في الجبهة تأكل البقصم الناشف مع الزيتون فقط ! وأنتم تأكلون الطعام الساخن.. وهنا فضلت أن ألتزم الصمت، والصبر على هذه المشاكل، وكنت أشتري بعض المواد الغذائية الناشفة مثل الجبن والزيتون من السوق للتعويض عن طعام المدرسة الحربية، ودام هذا الحال فترة طويلة من الزمن، و أذكر من مدرسة الفروسية مدير الإدارة الفون فريزة الألماني،  ورئيس المدرسة ناصر بك التركي، وكان التدريب صعب للغاية، حيث يستمر لثلاث ساعات يوميا على ظهر الجواد وبالعدة والبندقية المحمولة على الظهر،  وقد ترك هذا أثره لاحقا على العمود الفقري، ولكن حيوية الشباب كانت تغطي على المشاكل الصحية التي ظهرت فيما بعد.

  


الحلقة الرابعة:
إيقاف زحف الروس على أبواب أرض روم وشن هجوم مضاد

تقديم
هذه هي مذكرات الاستاذ تحسين قدري (1894 -1986) المرافق العسكري الاقدم للملك فيصل الاول منذ التحاقه في عمليات الثورة العربية الكبرى عام 1916، و مرافقته له في الحكومة الفيصلية في سوريا، وبقائه تحت ظله على امتداد  عهد فيصل في العراق ووصوله الى رئاسة دائرة التشريفات في البلاط الملكي العراقي واستمرار وجوده مرافقا وأمينا وسفيرا دبلوماسيا للعراق على عهد الملك غازي الاول 1933- 1939م، وعهد الوصاية 1939- 1953م  وعهد ابنه الملك فيصل الثاني 1953- 1958م وبقي يعيش في سويسرا حتى رحيله في شهر آب / اغسطس عام 1986، وهو من اصل سوري، ولكنه تربى ودرس في العراق وشهد تاريخ العهد الملكي في العراق بطوله، فهو ذاكرة تاريخية لحياته الطويلة في القرن العشرين.
تكملة :
نجحت في مادة الفروسية بدرجة “ممتاز″، أما في مادة الفنون الحربية فأحرزت المرتبة الأولى على ما يزيد على الألف طالب، وكوفئت على ذلك بإعطائي إجازة أسبوعية ليوم إضافة للعطل المعتادة. ونجحت بتفوق في الامتحان التأهيلي الذي بموجبه أمنح مرتبة “ضابط وكيلي”، وبعد التدريب العملي لفترة ستة شهور يصبح طالب المدرسة العسكرية ضابطا . وما أن وصلت دفعتنا إلى هذه المرحلة وحان تخرجنا، حتى اندلعت شراره الحرب العالمية الأولى، واقتضى الأمر أن أذهب إلى ميدان القتال في ” جبهة أرضروم “، لأبدأ بالتحرك نحو ميدان الحرب مباشرة.

الفصل الثاني
الحرب العالمية الأولى
كثرت الصراعات والتحالفات السياسية بين الدول الأوربية في مطلع القرن العشرين، ثم تبلورت ساحة الصراع إلى معسكرين، فهنالك فرنسا وروسيا وحلفائهما من ناحية، وألمانيا وحلفائها من ناحية أخرى. ونظراْ لحدة الصراعات وقرب الدول المتصارعة، لم يكن في وسع الدولة العثمانية المحافظة على موقف الحياد لفترة طويلة، ومما لا شك فيه أن من أهم العوامل التي دفعت بالدولة العثمانية للتحالف مع ألمانيا، خوفها من مطامع روسيا في التوسع جنوباْ والسيطرة على ممر الدردنيل  . وقد تجلت هذه الأطماع عام 1909م، حين عقد التحالف بين روسيا وإيطاليا، حيث أطلق الروس فيه يد الطليان في احتلال ليبيا، مقابل الوعد بعدم التدخل إذا ما أراد الروس احتلال الدردنيل .  وبالرغم من وضوح الأطماع الروسية لم تتخذ الدولة العثمانية قرار الانضمام إلى المعسكر الألماني بسرعة أو بسهولة، فقد أصابها الوهن بعد خسائر حرب البلقان، وكانت تريد استعادة قواها، وكان لفرنسا أصدقاء ذوي نفوذ في اسطنبول، ومنهم جمال باشا الذي سافر إلى باريس قبيل اندلاع الحرب، واجتمع بوزير الخارجية الفرنسي، طالباْ منه المساعدة في إعادة البناء، وضمان كيان الدولة العثمانية، مقابل خروجها من الحياد وانضمامها إلى المعسكر الفرنسي، ولكن إجابة وزير الخارجية الفرنسي على جمال باشا كانت بأن عليه التشاور مع الروس، وهم كما هو معروف خصوم تركيا التقليديين قبل إعطائه الرد، وكان هذا الموقف من أهم العوامل التي أدت إلى معاهدة سرية بين تركيا وألمانيا في 2 أغسطس 1914م، ومن ثم دخول تركيا الحرب في منتصف نوفمبر عام 1914 م .
ابتدأت الهجمات الروسية من خلال أرمينيا  على بلاد الأرضروم، الواقعة في شرق تركيا، وكان على اسطنبول الإسراع في حماية هذه الجبهة، ولم يكن في دفعتنا من صنف الخيالة أكثر من خمسين  خيالا، وكان عدد الخيالة في تقلص مستمر، حتى أنني  كنت أخشى أن يتم تنسيبي لصنف آخر كالمشاة أو المدفعية، وكان يتم ذلك من خلال القرعة. و تم سحب القرعة لاختيار عشرة فقط من بين الخمسين خريج، للانتساب لفرق الخيالة، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما خرجت قرعتي مع فرقة الخيالة العشرة .
صدر الأمر الإداري للتسفير إلى جبهة القتال في اليوم التالي لسحب القرعة، وركبت الباخرة للتوجه إلى ميناء سيواس على البحر الأسود، ومنها إلى أرضروم.وقد عينت ضابطاْ نظامياْ برتبة ملازم ثان في لواء الخيالة الثاني في البلوك أو الفوج الثاني والسرية الثانية، وكان آمر الفرقة يوسف عز الدين الشهير وهو قائد معروف، وآمر اللواء مرسل باشا وآمر الفوج يوسف ضياء وكان من أهالي دمشق، أما آمر السرية وهو رئيسي المباشر فلم يكن من خريجي المدارس الحربية، وإنما تدرج في الترقية، ويطلق عليهم أسم (الأيلي)، وكان هو ومن معه من رفاقه يهزئون من تعليمات الفروسية الألمانية الحديثة، ويعاكسونني وأنا أشعر بالضيق من ذلك، ورغم هذه المشاكل أمضيت أكثر من ثلاثة شهور في إعطاء التدريبات والدروس في فنون الفروسية والحركات القتالية. ونتيجة لنجاحي وإخلاصي في التعليم عينت مرافقاْ لآمر اللواء، وهكذا تخلصت من مضايقات ضباط الأيلي، و اخترت حصاناْ عربياْ، وكان مرافقي أحد الجنود من مناطق أرضروم وأسمه رفعت .
بدأ الروس هجومهم على أرضروم في أوائل فصل الشتاء، وكنا مرابطين في واحة أسمها حسن قلعة، في سهل ياسين الذي يمر فيه نهر أراس في بلاد الأرمن، وكان الأتراك يحسبون حساب الأرمن الذين كثيراْ ما كانوا يلتحقون بالجيش الروسي. كانت فرقتنا النظامية الثانية مدربة ومسلحة تسليحاْ جيداْ، ولذلك فقد احتلت موقعاْ إستراتيجياْ في بداية القتال، وأعطى آمر الجبهة خليل باشا والقائد العام أوامرهم بإيقاف الهجوم، والتمركز في مواقعنا، وتلا ذلك وصول طلائع قوات القوزاق المشهورين بشجاعتهم وفروسيتهم، وسرعان ما أحاطوا بنا ذات اليمين وذات اليسار، فصدرت الأوامر لنا بشن الهجوم المضاد عصراْ وبالسلاح الأبيض، وحسب تعليمات الفروسية الحربية، قام آمر اللواء بإشهار سيفه أمام قطاعات اللواء إيذانا ببداية الهجوم، وكنت بجانبه، وجردت السيوف، وبدأ الهجوم بكلمة (الله الله الله)، وفوجئت بآمر اللواء  يقترب مني ينهرني، ويطلب ْ مني الإبطاء والبقاء معه في الخطوط الخلفية وراء الجنود، وعندما ذكرته بالتعليمات المكتوبة، قال لي أن ما يطلبه موجود في التعليمات، ولكنها تعليمات سرية.
لم ألتفت لهذه التفسيرات، وبقيت مع الجنود في الخطوط الأمامية، وغنمت سيفاْ من القوزاق احتفظت به في دار شقيقي الأكبر زكي فيما بعد تذكارا لأول معاركي في الميدان .
توفقنا في وقف الهجوم الروسي السريع، ورجعنا إلى مراكزنا في مقر قيادة الفرقة، وحينها كان موقف الجناح اليساري في غاية الصعوبة، حيث أن القوات الروسية كادت تكمل تطويقها له، وتهدده بالإبادة التامة، وبناء على خطورة الموقف فقد طلب قائد الفرقة متطوعين فدائيين من بين الضباط للتوجه إلى المواقع المهددة، حيث أن الاتصال المباشر كان مقطوعاْ، والقوات الروسية منتشرة بين القيادة وبينهم، ولم يتطوع لهذه المهمة إلا أنا ! أخذت الأمر التحريري بالانسحاب، و انطلقت ومعي الجندي رفعت الذي كان بإمرتي. أضعنا الطريق وصادفنا قروي من الأرمن، إدعى أنه يعرف مداخل هذه المنطقة جيداْ، فطلبت منه أن يدلنا على قطعاتنا فوافق، فإذ هو يقودنا إلى مقربة من المواقع الروسية، فانهال علينا وابل من الرصاص، حينها اتضحت النوايا السيئة لدليلنا، فأشهرت عليه المسدس وهددته بالقتل، إذا لم يوصلنا إلى قطعاتنا المطوقة، فأنصاع الدليل، ووصلنا إلى قيادة الرتل المطوق قبيل منتصف الليل، ووجدناهم في حالة سيئة، وفي خوف من الدمار، وكان استلامهم للأمر بالانسحاب الذي حملته لهم قد أنقذهم من الإبادة المحتومة.  بعدها رجعت إلى قيادة الفرقة، وأعطاني قائد الفيلق ميدالية حربية للشجاعة مكافأة لي.
أوقف زحف الروس على أبواب أرضروم، وتمركزنا في قرية جامورلي واتخذناها مقراْ مؤقتاْ للفرقة، وحضر أنور باشا وخليل باشا لتفقد قوات الجبهة، ثم أعطيت الأوامر للزحف والهجوم المضاد على الجبهة الروسية، وكان الجيش العاشر يشغل جناح اليسار، أما في جناح اليمين فكانت قطاعات الشاشان والمتطوعين الأكراد، بقيادة محمد باشا الداغستاني القائد الشهير، وفي هذه الأثناء سقطت الثلوج، وبلغ ارتفاعها أكثر من مترين، مما سبب الكثير من الصعوبات في النقل وتنظيم الإعاشة، وفقدان اللباس المناسب، وكانت هذه الإشكاليات العامل الرئيسي الذي أدى إلى فقدان الجيش العاشر بكامله تقريباْ، وكنت أرى المئات من القتلى من الجنود الأتراك، فضلا عن الخسائر الفادحة، مما أضطر أنور باشا إلى إعطاء الأوامر بالتقهقر إلى مراكز دفاعية على الجبهة، ومع ذلك استطعنا الاستيلاء على القامشلي، ووصلنا إلى أردهان في جناح اليمين
جنود الأناضول:
وهنا أريد أن أسجل إعجابي بتفاني الجندي الأناضولي، وطاعته للأوامر وتحمل المصاعب، حيث كنت أرى الكثير من الجند وهم من الفقر والحاجة لدرجة إنهم كانوا شبه عراة إلا من خيشة لستر عوراتهم، ويأكلون حفنة من الشعير المحروق لسد جوعهم،  أما أنا فقد عانيت معاناة لا تنسى، فقد أصبت بمرض التيفوس، وأفقدتني الحمىّ الشعور أربعين يوماْ قبل أن تخّف حدتها، ولم أتمكن معها على الخروج من إسطبل الخيل الذي كنت معزولاْ فيه، خوفا من الاختلاط بالناس وانتشار العدوى.
الانتقال إلى حلب:
عينت بعدها آمراْ لمقر الجيش الرابع في حلب، وأذكر مبنى المقر في أوتيل بارون، وأوتيل المان، و كان تحت أمرتي سرية خيالة وسرية نقل البغالة، وسرية متطوعين من الشركس الذين إستقر فيهم المطاف فيما بعد في الأردن، ورئيسهم أسمه عرفة .
إبادة الأرمن:
كان الأرمن من الذين ثاروا في أورفه والأناضول، وعين فخري باشا لضربهم والتنكيل فيهم، وطبعاْ كنت في الأركان الحربية في المقر، وذهبت إلى أورفه مع قوة عسكرية ومدافع، وقاد فخري باشا بنفسه تطويق الإبادة، وقاوم الأرمن أكثر من أسبوعين مقاومة بطولية ّ، كان أحد قادة الأرمن وأسمه (يدي قراشعر) على رأس أخوته السبعة محاصراْ في أورفه من كل جانب، ودافع وقاوم لأكثر من خمسة أيام، ثم حوصروا في الكنيسة. وبعد قذف الكنيسة بالمدافع، استسلمت المدينة، وقتل يدي قرداشعر، وكان عنده امرأة جميلة، وجاءت تتوسل عند فخري باشا لئلا يقتلها، وقدمت له جميع ممتلكاتها من الذهب، والتي تساوي حوالي الألف من الجنيهات الذهبية . وكان هنالك الكثير من الأسرى من الشباب والرجال الأرمن أبيدوا بالسلاح الأبيض.. أما النساء فحشدوا في معسكرات بصورة تقشعر منها النفوس، ورأيت بعيني هذه المأساة، وأذكر الكثيرين من الآباء والأمهات الذين كانوا يرجونني لأخلص لهم أطفالهم، وقد نجحت في تخليص طفلتين، واحدة منهما كانت ابنة ديشجي بدروس، والأخرى كانت إحدى أقاربها، وجلبتهما معي إلى دمشق عند شقيقتي عصمت، و قد عاملتهما معاملة الأخوات، وبقيتا عندنا في البيت لمدة ثلاث سنوات، وبعدها  حين دخولنا دمشق مع جيش فيصل بن الحسين، حضر بعض أقاربهما واستلموهما منا، لقد  أثرّ التنكيل بالأرمن في عواطفي، مما دفعني لإنقاذ ما يزيد على المائتين من الأسر الأرمنية المنكوبة وإرسالهم إلى القاهرة،  وهو ما سأتناوله عند الحديث عن الالتحاق بالثورة العربية الكبرى .
أحتج الألمان على المعاملة الوحشية للأرمن، وأرسلوا احتجاجهم إلى جمال السفاح، وهذا بدوره أرسل” فالح رفقي ” بصفة حقوقي لكي يستعلم من فخري باشا عن وضع الأرمن، وقد أحتضن فخري باشا الحقوقي فالح رفقي، وكان هو وأعوانه يجيبون على التهم للتخلص من احتجاج الألمان، ومنظمة الهلال الأحمر الدولي، وكان فالح رفقي ينظر إليّ بحنق، لأنه يعرف موقفي من المذابح التي ارتكبها فخري باشا بحق الأرمن، واختفى هذا الشخص عن عيني إلى سنة 1931 أو  1933 م، وهو ما سأتناوله لاحقا .
إعدام الأحرار العرب في بلاد الشام:
فشلت حملة القنال ” قناة السويس “، مما سبّب نقل مركز قيادة الجيش الرابع إلى فلسطين في مدينتي القدس والناصرة، بعدها بدأ جمال باشا حملات الإبادة والشنق بأمر مباشر منه، وبدون مصادقة اسطنبول، ففي 21 أغسطس 1915م  شنق مجموعة من خيرة شباب العرب، ومنهم عبد الكريم الخليل وصالح حيدر ومسلم عابدين ونايف تللو ومحمد ومحمود المحمصاني ونور الدين القاضي وعلي الأرمنازي، وكانوا جميعاْ من أعضاء حزب اللامركزية، وكان  محمد ومحمود المحمصاني وصالح حيدر أيضاْ أعضاء في جمعية العربية الفتاة.
كشفت هذه الواقعة عن نوايا جمال باشا السفاح، وآلمت الشريف حسين أمير الحجاز الذي كانت بلاده ملاذ المضطهدين من القوميين العرب، وكان حصار الإنكليز لقناة السويس من ناحية، واحتياج الأتراك لمؤن وغلال الشام من ناحية أخرى، قد هدّد الحجاز بالمجاعة، ووفر للشريف حسين الدافع القوي للتعاون مع الحلفاء، ولكن بالرغم من هذه الضغوط، لم يرض التفاوض معهم إلاّ على مضض، وأستأذن منه ابنه الشريف فيصل للذهاب إلى اسطنبول،  للقيام بالمحاولة الأخيرة للتفاوض مع الأتراك، لعله يقنعهم بالتعاون، فأذن له بذلك .   كنت شاهد العيان على مذابح الأرمن، وكانت عودتي للشام تقربني من الأحداث الحزينة التي لاقاها أحرار العرب من أهل القلم والفكر، وكنت على ثقة بأن الأمور لن تبقى على حالها، لأنها وصلت حدا لا يطاق، ولا يمكن السكوت عليه أبدا .
العودة إلى الشام
تقدمت في المراكز والمسئولية، فعينت مرافقاْ حربياْ للأركان، ثم قائدا لمّقر الفرقة، لكن كل هذا لم يشغلني عن اهتمامي بمصير البلاد العربية، وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى، كان القائد العام للجيش الرابع المرابط في الشام هو زكي باشا، الحلبي الأصل وهو رجل ذو خبرة وحصين.   وتطلب إعلان الحرب والنفير العام تجنيد كل قادر على حمل السلاح، مما جمّع خيرة شباب المناطق العربية في دمشق، من خلال تجنيدهم كضباط احتياط، وساعد هذا التجمع على نقل بؤرة الوعي القومي ومركز جمعية العربية الفتاة إلى دمشق.
جمال باشا السفاحّ:
شجّع اعتدال زكي باشا على التعاون مع الأتراك، لدرجة أن جمعية العربية الفتاة أصدرت إعلاناْ عن غاية العرب في الاستقلال، ولكن ليس عداوة بالأتراك، وأكد الإعلان بأن العرب سوف يقفون مع الأتراك لدفع خطر الاستعمار الأوربي المحتمل من خلال الحرب العالمية، و لكن بقاء زكي باشا لم يدم طويلاْ، ّ فقد عين ممثلاْ للجيش التركي لدى غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا، فغادر الشام في 5 ديسمبر 1914م، ووصل في نفس اليوم خلفه جمال باشا الذي عرف فيما بعد بجمال باشا السفاح، حيث بدأت مرحلة صعبة من التفتيش والمتابعة والاضطهاد والشنق، وتغيرت نظرة أحرار العرب للعلاقة مع الأتراك

       

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

381 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع