هشام الهاشمي
حديث ذو شجون مع إبنتي عن ذكريات الماضي الجميل !
بمناسبة عيد ميلادها الثاني عشر، طلبت مني إبنتي أن أقدم لها هدية ثمينة (موبايل آي فون آخر موديل )، وإلا فإنها ستزعل ولن ترضى بغيرها ! فقلت لها ، بارك الله في أيامنا الماضية نحن كبار السن فقد كانت حياتنا أبسط ولكن أفضل بكثير من حياتكم أنتم الجيل الحاضر. حدقت في وجهي قليلاً وسألتني ، وماذا تعني بذلك يا بابا ؟! قلت لها سأجيبك على هذا، ولنبدأ من كلمة (بابا) التي لم نكن نعرفها آنذاك ، بل كنا نقول (أبي) لأن كلمة بابا ،وإن هي لطيفة، لكنها ليست من لغتنا العربية التي نشأنا وتربينا عليها ! ثم أكملت حديثي معها ، فقلت : لقد كنا أناس بسطاء لا يعرف أحدنا معنى الغنى ، ورغم ذلك كانت حياتنا ممتعة لأننا عشنا حياة طبيعية وغير معقدة إبتداءأ من أول ساعة ولدنا فيها عند القابلة المأذونة (الجدة سليمة) وحتى بلوغنا سن الثالثة من العمر حيث لم نجهد ونكلف والدينا بمصروفات كثيرة لأنهم أكتفوا بإرضاعنا من حليب أمنا ولم يفكروا في يوم ما أن يطعمونا حليباً صناعياً مستورداً، أو يلبسونا واقيات (الحفاظات) كي لا نوسخ أنفسنا بل كانت أمهاتنا تستعيظ عن ذلك بما يتوفر لديهن من قطع قماش ليست لها حاجة! ثم سألتني ، وماذ بعد يا أبي (البنت ذكية فورا أبدلت كلمة بابا بأبي )؟!! قلت: وعندما كان يمرض أحدنا ، لم يذهبوا به إلى المستشفى إلا في الحالات الصعبة جداً، بل كان معتاداً أن يسرع الوالد بالذهاب إلى الجدة سليمة لكي تعطي نصيحتها بالعلاج وبعدها يذهب إلى أقرب دكان يبيع أنواع الأعشاب لكي يجد ويشتري المطلوب لعلاج الطفل. وعندما كبرنا قليلاً وبدأنا نعلب في بيوتنا وبالقريب منها منذ الصباح حتى المغرب ، لم نفكر أن نذهب إلى محل أو دكان لشراء قنينة مياه (معدنية ) عندما نعطش ، بل إكتفينا بشرب الماء من الحنفية مباشرة، وعندما كبرنا أكثر واصبحنا في سن الإبتدائية أو بداية المتوسطة ، كنا نذهب إلى الكورنيش ونشتري سندويشات (لمفات عمبة وصمون ) كان صاحب المحل يضع فيها السلاطة بإستخدام يديه دون كفوف، ولا أتذكر أن أحدنا قد مرض لهذا السبب!. بعد ذلك، وعندما أصبحنا في سن الشباب ، كانت أجسامنا ورشيقة رغم كل الأكلات الشهية الدسمة والكبيرة التي كانت تعدها لنا الوالدة وكنا نأكلها بشراهة إلى حد النهاية. لم تكن لدينا وسائل لهو كما موجود هو الآن ، فقد كنا نقضي أوقاتنا باللعب في المحلة سواء بكرة القدم أو الركض حول الشوارع المحيطة بمحلتنا (الدرابين )، وعندما نتعب نلجأ إلى لعبة (الحوح = وهي القيام برسم خط يبعد خمسة أمتار عن واحد منا يحمل عصا بيده ، ويقوم شخص آخر برمي قطعة خشبية بإتجاه الأول الذي عليه أن يصدها بقوة ويخرجها أبعد من الخط المرسوم ) أو أن نلعب الدعبل واللكو والچعاب إلى حد المساء . لآ أتذكر أن أحداً منا إعتدى على الآخرين أو تم الإعتداء عليه ، بل كنا نلعب ونمرح بروح الطفولة والشبابية الطموحة ونحب بعضنا بكل براءة، ولا أتذكر أن أحداً منا تم إختطافه ومساومة ذويه بدفع فدية لإطلاق سراحه لأن الأمان كان يسود في كل البلد وكان الناس يحبون بعضهم من غير مصلحة. عند هذه النقطة ، لاحظت أن البنت لديها سؤال في عينيها ، فقالت وهل صحيح أنكم كنتم تمرحون وتسرحون دون أن يعترضكم أحد أو أن يطلب منكم الهوية أو لا سمح الله أن تواجهكم عصابة مجرمة فتقتل بعضكم لأسباب (سمعت أنهم يسمونها) طائفية ، فقد لها ، يا إبتني لم يكن هذا الأمر موجوداً على الإطلاق ، والدليل على ذلك أني أبوك سني وامك شيعية. فقالت هل أكملت حديثك يا أبي ، فقلت ليس بعد ، لأني أريد أن أعلق على طلبك المكلف لشراء جهاز الهاتف الآيفون الذي يعادل سعره مرتبي لشهر كامل . نحن في أيامنا لم نمتلك لا جهاز كمبيوتر ولا إنترنت ولا حتى تلفزيزن ملون ، وكنا رغم ذلك نتواصل مع بعضنا بأبسط الوسائط واسهلها من دون "فايبر " أو "واتتساب" ، ولم يكن أحدنا يثقل كاهل والديه بطلب شراء أجهزة وألعاب ألكترونية مكلفة لا ضرورة نتيجتها تدمير الفكر وإبعاده عن العلم والمعرفة. إن أحدث ما كا ن لدينا، يا إبنتي، هو جهاز تلفزيون اسود وأبيض وكانت جدتي تعيش معنا، وعندما جربناه أول يوم ، أتذكر جيداً أن جدتي كانت جالسة على الآرض ومندهشة لهذا الحدث العظيم المفاجيء بالنسبة لها، وكان المذيع يقرأ نشرة الأخبار ، وإذا بجدتي فجأة تضع عبائتها على رأسها وتقول " يبو عزة العزاك ، ما تستحي بس تدحك عليه ". لم يكن لدينا يا إبنتي "دش" ستالايت ، فمن كانت عائلته تملك تلفزيون لم يكن يشاهد مئات القنوات التلفزيونية و5 إصطناعية مثل الآن ، وإنما كانت هناك قناتين فقط هما السابعة والتاسعة فقط يبدأ البث بهما في الساعة السادسة مساءاً حتى منتصف الليل وبس، وإذا ما يعجبك (طخ راسك بالسرير وروح نام جفي أحسلك)!
ليس هذا فحسب بل اننا لم نكن نمتلك أنترنت ولا "پلي ستيشن" ولا "فيديو" ولا "سيكا" ولا "لابتوب" ولا حاسبة ولا "أم بي ثري" ولا "سي دي" ولا "دي في دي" ولا "ماسنجر ولا غرف دردشة نتحدث من خلالها مع أصدقاء وهميين.
كنا أصدقاء في المحلة وأصدقاء في نفس المدرسة التي كنا نذهب اليها مشيا على الاقدام ولم نركب يوما باص أو هناك خط ينتظرنا في باب بيتنا ومع ذلك كنا مثابرين وحريصين على دراستنا ونبكي أذا فاتتنا أحدى الحصص الدراسية لأي سبب كان. لا أذكر أنني أشتريت ملزمة خاصة لأي مادة ولم يخصص أهلي أي مبلغ للمدرسين الخصوصيين لان أساتذتنا كانوا أكفاء في اختصاصاتهم ولم نكن نواجه أي مشاكل أو ضغوط نفسية تستلزم مراجعتنا للمرشد التربوي بل لم يكن لدينا في المدرسة مرشد تربوي أصلا. وعندما كنا نخرج في نهاية الدوام لم يكن بائع الجكاير أو غيرها يفترش بوابة المدرسة بل كنا نجد بائع العمبة أوالبادم والسميط والمكاوية والسمسمية حيث لم يكن جبس البتيتة قد أكتشف بعد. كنا نأكل أي شيء يقدم لنا حتى لو كان مرق اللهانة والقرنابيط (أعوذ بالله) أوالسبانغ وحامض شلغم ما ضوقه لو تضربني بطابوقه) ولا يوجد بديل يقدم لك من الثلاجة أو المجمدة لانها لم تكن موجودة أصلا آنذاك....لم نعرف البيتزا ولا الهامبورغر ولا الهوت دوغ ولا الشاورما ولا كنتاكي ولا سكالوب ولا حتى لحم بعجين ... فقالت البت ، لقد تعبت من هذا يا ابي ، ومن ثم ماذا؟!! فقلت لها: لم يكن أحد منا يجادل أباه أو يعصي له أمرا بحجة الديمقراطية وحرية التعبير لأننا كنا نحترم آبائنا ونقدسهم ولما مات والدي كنت في الاربعين من عمري وفي بيتي ثلاثة أولاد ولم أذكر يوما أنني دخنت أمامه لا خوفا منه بل تقديسا لمكانته في العائلة. لقد كنا أصدقاء في المحلة الواحدة نلعب سوية بنين وبنات ولم نفكر يوما بأختلاف الجننس بيننا بل كنا نحافظ على بنات محلتنا كأنهن أخواتنا وأذا تحرش أحد الغرباء بأي فتاة من محلتنا أجتمع كل أولاد المحلة وطردنا الغريب بالحجارة وعدنا نهوس ( هي هي مخبل لابس عباة أمه وسليمة لتطمه) أما الغريب فلم يتجرا دخول محلتنا مرة أخرى. لم نسأل أي من أصحابنا عن دينه ولا عن مذهبه ولا عن قوميته ، فكلنا كنا نحزن في أيام محرم ونزور مراقد آل البيت، وكلنا كنا نوقد الشموع على جدار مرقد أبي حنيفة النعمان في المولد النبوي الشريف و نلون البيض في عيد الفصح. وكلنا كنا نحتفل في أعياد رأس السنة الميلادية .
هكذا يا إبنتي كنا نقضي كل وقتنا في الشارع ولكن لم ينادينا أحدأ يوما "يا أولاد الشوارع" لان الشارع كان يعلمنا الكثير من القيم والاداب والاخلاق والعادات الصحيحة وبالرغم من أننا كنا نتشاجر طوال الوقت لم يذهب أحد منا الى مركز الشرطة ولم يقع واحداً يوما تحت طائلة القانون لان أهلنا كانوا أكثر شدة وصرامة من القانون نفسه.
ومع كل ما تقدم فأن جيلنا كان أكثر أنتاجا من جيلكم ، لسبب بسيط هو أن خيرة المثقفين والادباء والكتاب والعلماء ينتمون الى جيلنا نحن القدماء...جيل الزمن الجميل .
أما جيلكم أنتم يا إبنتي العزيزة فحدث ولا حرج ، تطربه أغنية مكونة من كلمة واحدة ليس لها معنى بقدر ما هو غسيل الدماغ وتخدير العقول!! أقتنعنت البت بجوابي ، وقالت يا ابي أنا اقبل بأي هدية منك مهما كانت بسيطة !!
أخيراً أود أن اقول:
رحم الله ذلك الزمن النظيف وناسه الطيبين الاصلاء.
رحم الله فخري (ابو العمبة) على كورنيش الأعظمية الذي كان يطعمنا ما ألذ وطاب بترحيب واسلوب دبلوماسي لم ألمسه عند موظف الخارجية اليوم..
رحم الله استاذ علي الهيتي الذي كان يدخل للصف وجيبه مليئ (حامض حلو) ليكرم به الأذكياء والشطار من التلاميذ ولا يبخل على غير الشطار ليشجعهم على ان يكونو شطار !
رحم الله ذلك التكافل الاجتماعي المتمثل بـ(معونة الشتاء) حيث يتبرع أولياء أمور الطلبه بكل مالديهم من ملابس فائضه عن الحاجة لتوزع على الطلبة الفقراء المحتاجين..
رحم الله الزمن الذي كنا نسمع فيه غنوة (الدللول) المملوءة بالعاطفة والشجن العذب حين تنساب من شفاه امهاتنا وجداتنا والتي ما زالت تبكينا الى يومنا هذا رغم كبر سننا فقد اصبحنا اجداداً ولكن نستمتع بسماعها، ولكن مع الأسف استبدلناها اليوم بأغنية (ماما جابت بيبي) بايقاعها السريع الخالي من العذوبه والمعنى
رحم الله ذلك الزمن الذي انجب من حكم العراق ومات ولم ينهب أموال العراق،،.. رحم الله تلك الأيام وأهلها ورحم الله من تبقى شريفاً منهم وعسى الله ان يرحمنا أجمعين.. أرجوكم ، قولوا معي آمين...
1410 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع