د. منار الشوربجي
في ألاباما التاريخ حاضر والحاضر بات ملهماً
رغم أن الأضواء الإعلامية المكثفة أحاطت بانتخابات ولاية ألاباما وما تعنيه لصراع الحاضر بل ولمستقبل أميركا ككل، كانت المفارقة أن التاريخ حضر بقوة في تلك الانتخابات!
فمنذ أن شغر مقعد مجلس الشيوخ بالولاية العام الماضي حين اختار ترامب شاغله، جيف سيشنز، ليتولى منصب وزير العدل، والأضواء لم تبارح ولاية ألاباما. فقد أجريت فيها الانتخابات التمهيدية التي انهزم فيها المرشح الذي أيده ترامب، لتبدأ المعركة النهائية بين الجمهوري الفائز، روي مور، والمرشح الديمقراطي دوج جونز. لكن سرعان ما أحاطت الفضائح بالمرشح الجمهوري، حيث اتهم بالتحرش والاعتداء الجنسي على مراهقات.
وما هي إلا أسابيع حتى كان ترامب يؤيد مور ويدعو الناخبين للتصويت له لئلا يفوز الديمقراطيون بالمقعد. لكن نتيجة الاقتراع العام جاءت لصالح الديمقراطي دوج جونز، وانهزم للمرة الثانية المرشح الذي أيده ترامب. أما جونز فصحيح أنه فاز بهامش ضئيل للغاية، لكنه بفوزه خفض أغلبية الجمهوريين بمجلس الشيوخ إلى 51 فقط من أصل مائة، وكان أول ديمقراطي يفوز بمقعد لمجلس الشيوخ عن الولاية التي تقع في عمق الجنوب الأميركي المحافظ، منذ أكثر من عشرين عاما.
لكن لولاية ألاباما تاريخاً مركباً. صحيح أنها من ولايات الجنوب الذي شهد أحلك فصول العبودية والتمييز العنصري قبل أن تصبح اليوم معقلا لليمين بشتى أطيافه بما فيها الأكثر تطرفاً، إلا أن ألاباما هي التي شهدت أيضا فصولاً مضيئة من تاريخ حركة الحقوق المدنية والكفاح ضد الفصل والتمييز العنصريين. وكان هذا التاريخ بوجهيه حاضراً بقوة في انتخابات مجلس الشيوخ، وبصور متعددة.
أولى تلك الصور كانت القيم التي جسدها المرشحان، فكانا بمثابة مرآة لوجهي تاريخ ألاباما. فروي مور القاضي السابق كان معروفاً عنه تحديه الصارخ للقانون الفيدرالي بدلاً من تنفيذه. ورفض القوانين الفيدرالية يجسد أهم ملامح تاريخ العنصرية. فبعد إلغاء العبودية، تفننت ولايات الجنوب في اختراع قوانين تخص كل منها تم تصميمها بعناية لحرمان السود من حقوقهم.
وعندما ألغت القوانين الفيدرالية، التي صدرت عقب حركة الحقوق المدنية، قوانين الولايات صار تحدي القانون الفيدرالي هو العنوان الشفري الذي يستخدمه رافضو حقوق الأقليات. وفى مقابل مور، كان هناك دوج جونز المحامي العام السابق الذي كان مسئولاً عن إدانة أعضاء حركة كو كلاكس كلان العنصرية الذين ارتكبوا جريمة تفجير كنيسة للسود بالولاية عام 1963. وكانت مأساة تلك الكنيسة، بالمناسبة، إحدى العلامات المهمة التي فجرت حركة الحقوق المدنية.
والتاريخ كان حاضراً أيضاً في صورة الجوهر الذي عبرت عنه الحملتان. فروي مور جسد في مواقفه ملامح تاريخية بغيضة. فهو صاحب تاريخ طويل من التصريحات التي تنضح بالعنصرية، كان آخرها ما قاله حين سئل عما يعنيه ترامب بجعل «أميركا عظيمة من جديد». فهو قال إنها كانت «عظيمة حين كانت الأسرة متحدة رغم وجود العبودية» وأشار في الحوار نفسه إلى السكان الأصليين، بتعبير «الحمر» وللأميركيين من أصول آسيوية بتعبير «الصفر»، وهي ألفاظ تستخدم للحط من شأن الجماعتين.
والرجل معروف عنه دعوته لإلغاء التعديلات الدستورية التي ألغت العبودية ومنحت المرأة الحق في التصويت. وقد سعت حملته لكسب القطاعات التي ترفض الهجرة وتعادي السود، رغم أنهم، وحدهم، يشكلون أكثر من 27% من سكان الولاية. أما حملة المرشح الديمقراطي دوج جونز، فقد انبنت على مواقف تحتفى بالمهاجرين والأقليات.
فهو اتخذ موقفاً واضحاً داعماً للهجرة والمهاجرين، وقامت حملته منذ اليوم الأول بالسعي للحصول على أصوات السود تحديداً، وكان لافتاً أنها ذهبت للسود في مواقع تجمعاتهم وبالذات في الكنائس السوداء، بل وفي محلات الحلاقة المعروفة تاريخياً بأنها من أكثر الأماكن التي يعتبرونها، بعد الكنائس، ملاذاً آمناً يتجاذبون فيها أطراف الحديث على حريتهم من السياسة لأحوالهم المعيشية.
والعلاقة بين تاريخ ولاية الاباما والحق في التصويت علاقة وثيقة انعكست هي الأخرى في الانتخابات. ففي الولاية كان كفاح السود من أجل الحصول على الحق في التصويت، ومنها أيضا انطلقت القضية التي وصلت للمحكمة العليا وصدر فيها قرار عام 2013 الذي كان إيذاناً بالعودة لتفنن الولايات في إصدار قوانين تحرمهم من التصويت. وذلك التاريخ نفسه كان حاضراً في سعي الجمهوريين لإثناء السود عن التصويت، والحملة الضخمة التي تولتها جمعيات سوداء متعددة لتشجيعهم على التصويت بأعداد غفيرة.
حتى فضيحة الاعتداء الجنسي التي أحاطت بمور، كان لها مردودها المرتبط بالتاريخ. فالمرأة السوداء التي قيل إنها المسؤولة عن فوز دوج جونز وهزيمة مور هي أكثر من استفزته تلك الفضيحة. فهي عانت من القهر والاعتداءات الجنسية زمن العبودية والعنصرية، ولا تزال محاطة في الجنوب المحافظ بملامح شبيهة. فمنحت المرأة السوداء أصواتها بنسبة 98% لدوج جونز.
وفي كل تلك الصور التي حضر فيها التاريخ، ظل حاضر كفاح السود ملهماً تماماً مثل تاريخهم.
1130 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع