بقلم الدكتورة أسماء غريب
الشِّعْرُ، مشفى الحياة الأوّل والأخير: قراءة في ديوان (نوبات شعرية) للدكتور صالح الطائي
ثمّة كُتبٌ تفرضُ عليك نفسها منذ الغلاف، أو لنقل بعبارة أدقّ؛ منذ العنوان: تُشَوّشُكَ، تُرْبِكُكَ وَتُقْلِقُكَ، ثُمَّ تُفَجِّرُ بِدَاخِلِكَ سيْلاً عارماً مِنَ الأسئلة التي لا تُفَارِقُكَ إلى أنْ تجدَ أجوبةً تكون مُقْنِعَةً عنها أو شافيةً إلى حدّ ما، وجديدُ إصدارات الباحثِ والأديب صالح الطّائي هو منْ هذا النوع منَ الكُتُبِ، لأنّهُ لمْ يُمْهِلْنِي حتّى ألتقطَ أنفاسي مِنَ العمَل والجُهد المضنيّ الذي بذلتُه طيلة الفترة الماضية منْ أجل أن يرى النّورَ في مطلع هذه السنة الميلادية الجديدة (2018) الجزءُ الأوّلُ من كتابي النّقديّ (كواكب على درب التبانة) (1)، بلْ وجدتُ نفسي أبدأُ مرّةً أخرى رحلةَ الرّكضِ وراء حرفٍ ومعنًى جديديْنِ ولسانُ حالي يقول: يا إلهي، ماهذا العنوانُ العجيبُ: نوبات شِعريّة؟! نوباتٌ وليست نوبة واحدة، ثمّ أنّها شعرية! أنا أعرفُ الطّائيَ باحثاً في مجال الدّراسات الدّينيّة والفلسفيّة، فما لهُ والشّعر اليوم؟ جديدٌ عليّ لباسُه هذا! فهل عليّ أن أنسى ما قرأتُ لهُ سابقاً من بحوث وكتب فكريّة كمثلاً (عوالم الحكومة المهدوية / غزو الفضاء وفتح المجرّات في عصر الظهور) (2) و(خرافة كثرة زوجات الإمام الكاظم عليه السلام) (3) و(الحسن بن علي عليه السلام والإمامة المنسية) (4) وغيرها كثير؟ وهل عليّ أنْ أرتديَ الآن بدلةَ الطّبيبة قبل النّاقدة لأقرأَ حرفَهُ، أَوَلَيْسَ الكاتبُ نفسُه من يقولُ "نوبات"؟ ثمّ ألا تُعرِّفُ القواميسُ العربيّةُ النّوبةَ بالنّازلة والمصيبة، وفي حالات أخرى تقولُ إنّ الأمرَ قد يتعلّق بنوبة قلبية، وأخرى عصابية، وثالثة غضبيّة أو جنونيّة أو بكائيّة؟! يا لطيف الطف بنا جميعاً، ولنفتحِ الكتابَ على وجه السّرعة لنعرفَ حقيقةً هل صاحبُ النّوبات هو نفسُه الذي قرأتُ لهُ فيما مضى كُتباً في البحث الديني والفلسفيّ، أم أنه شخص آخر غيره، ومن يدري فقد نتوصّلُ أيضاً إلى دواء يشفيهِ من كلّ ما قد يكون بهِ من علّةٍ أو داء!
فوقَ سرير الكشف ومنذ أولى الصّفحاتِ ينطقُ الدّيوانُ بين يديّ ويقولُ على لسان صاحبهِ:
((كنت في بداية شبابي قد كتبتُ شعراً، وألقيتُ بعضه في مناسبات خاصّة، حيث كنتُ قد تأثرتُ بالشعراء الكبار، فحاولتُ تقليدهم، ثم حاولتُ الانفراد لأعلن عن شخصيتي، فوجدتُ من يستحسن أشعاري. بعد حين أخذتني شواغل الدّنيا وهمومها، ففارقتُ الشِّعْرَ، إلى البحث في الفكر الدّيني؛ الذي شغل وقتي كلّه لدرجة أنه شغلني حتى عن قراءة الشعر إلا ما ندر.
وبعد التغيير في عام 2003، والأحداث الدموية المؤسفة التي رافقته، يوم بدأت الأحداث تعصف بوطننا العراق وعالمنا العربي والعالم كله، فأخذت تعتصرني، فتحيلني لهبا يتشظّى قهرا، وبدل أن أسكب الماء لأطفئ ناري، تحشدت رؤاي مزمجرة، لتتحول إلى شعر أو مايشبه الشعر، يزاحمني ليرى النور، واكبته وكتمته لكي لا يشغلني عن أهدافي المرسومة، لكنه مع هذا وذاك كان يتشيطن بل يتعفرت وينط خارجا بين حين وآخر.
أغلب تلك القصائد جاءت كردّ فعل مفاجئ، فكانت مفاجئة، ومن هنا ستجدونها وكأنها مجرد محطات وجع سرمديّ، بعثتها في خاطري نوبات من الغضب القهريّ، فكانت وليدة الارتجال وبنت لحظتها، فأخفيتها حينا، وأعلنتها حينا آخر بتشجيع وحث من شعراء ونقاد استهوتهم، فشجعوني على طباعتها)) (5).
في هذه الكلمات يكمنُ سرّ الديوان؛ إنها تصفُ بشكْلٍ دقيق حالةَ الكاتب عبر مراحل ثلاث هي مرحلة الشّباب، ومرحلة البحث الدينيّ، ثم مرحلة الحرب أو غزو العراق سنة 2003. ففي المرحلة الأولى اكتشفَ الكاتبُ الشِّعْرَ ونظمه وألقاه في مناسبات عدّة، دون أن تكون لديه القناعة الكاملة بأن الذي كان يكتبُه أو يقرأه هو شِعر حقيقة، وهذه ملاحظة تؤكّدها عبارات ((حاولت / فوجدتُ من يستحسن أشعاري)) وهي العبارات التي يجبُ التوقف عندها مليّاً، لأنّ ما تختزنُه من حقائق ربّما يفوقُ ما تظهره من قناعات خاصّة أو وجهات نظر لدى الكاتب نفسه: فهل ياترى تركَ الكاتبُ الشّعْرَ منذ يفاعة الشباب لأنه وجد فقط من يستحسنُه بدون دعم ولا اعترافٍ حقيقيّ وصريح بقوّته ومتانته ورصانته، أم أن مرحلة البحثِ الدّيني الثانية في حياته هي التي أخذتْهُ من بين أحضان الشّعر فحرمتهُ منه حرماناً كاملاً، أمْ ثمّة أسباب أخرى ما زلنا لم نقف عليها بعد، ذلك أنني أشمُّ من كلماته هذه وكأنّهُ هو نفسُهُ غير مقتنع بالكتابة الشّعريّة وجدواها في الحياة، فهو يعتبرُها مجرّدَ كائنٍ يتشيطَنُ ويتعفرتُ وينطّ خارجا بين حين وآخر، وهو بقوله هذا يزجُّ بي في لجّة بدون قرار، بل لجّة من الكلام عن الشِّعر لَمْ يفصلْ فيها لليوم أحد من كبار المفكّرين والفلاسفة، وأعني بهذا أنه قذفَ فوق مائدتي بِكُرةٍ من لهب سأسمّيها: إشكالية الطبيعة الإبداعية الشّعريّة، وعلاقتها بإبليس والجنّ، وهي كما يعلمُ الجميع إشكالية قديمة قدم الإبداع الإنسانيّ في العالم كافّة، إذ ثمّة من يعتبرُ الشّعرَ كما الموسيقى هديةَ إبليس للبشريّة، وفيه من الترف ما قد يشغل عن أمور الحياة الجدّية والإبداع الهادف الملتزم، وإني لأضعُ خطّاً عريضاً تحت مصطلح (الترف)، لأنّ صالحاً الطّائيّ سيستخدمُهُ فيما بعد وهو بصدد شرح ظروفِ وملابسات إصدار هذا الديوان ولكن هذه المرّة في مقالة نشرَها على موقعه الشخصيّ قائلاً: ((ثم بعد أن بدأتُ بالكتابة فعلا في الفكر الدّيني، وبعد أن أصدرتُ مجموعة من مؤلفاتي، تعقّدتْ أموري أكثر، فتخلّيتُ كلّياً عن جميع أنواع الترف الأدبي، لأتفرّغَ كليا لمجال تخصصي، مع أني كنت أشعرُ بجذوة أدبية تتأجّج في داخلي، تستعر أحيانا، فتدفعني مرّة لأصوغ كتاباتي بأسلوب أدبيّ مستخدما الطباق والجناس والبلاغة، ومرة لأكتب مقطوعات شعرية سرعان ما أمزّقها، ربما لأني أشعر بأنها دون المستوى المطلوب، ولا تملك قدرة مجاراة ما ينتجه الشعراء)).
إنّ الكاتبَ يعيش حالةَ صراع بين ما يجبُ أن تكون عليه صورتُه، وبين ما يريد أن يكونَ هو حقيقة بعيداً عن الصورة الأولى، أيْ بين الباحث الدّينيّ، وبين رجل الشّعر والمشاعر الدافئة الجيّاشة، ومن هذا الصّراع ظهر مصطلح النّوبات التي هي على أنواع ودرجاتٍ عنده بين نوبة كينونيّة قهريّة، وأخرى غضبيّة، وثالثة شعريّة ورابعة تدرُّجِيّة معراجيّة، والتي من خلالها يسعى إلى الإجابة عن السّؤال الوجوديّ الكبير: لماذا أكتبُ؟ وماذا وكيفَ أكتبُ؟ وهو السّؤال الذي يصبح الطّائي به ومعهُ تلميذَ عقله (6) ليتخلّصَ من إرث الماضي السّحيق الذي كانَ يربطُ الشِّعر بإبليس وما إليه من عوالم الجانّ والعفاريت، وليلقيَ بفكرهِ بدون خوف ولا تردّد في بحار القصيدة مستجيباً بعقل الفيلسوف لنداءات ربّاتِ الشّعر لا شياطينها، وآلهاتِ الكلمة والحكمة الطّيّبة النيّرة لا عفاريتِها عبر رحلةٍ عميقة من التأمُّلِ الباطنيّ ليسمعَهَا وهي تقول له بصوت حنون ودود: إنّك أيّها الباحثُ صديقُ نفسكَ فلا تعاديها، ولا تبحث عن صديق آخرَ يُبْعِدُكَ عنها، ولتحمِلْ بها ومعَها نبراسَ الحرف، لتُظْهِرَ لكَ أنّ الجهل هو عدوّ الإنسان لا خطيئتُه الأولى، ولا تكُنْ كمعظم النّاس في حالة من الغفلة والنوم العميق، دعِ الشِّعْرَ يأخذْ بيدك، دعْ جذوته المشتعلة في أعماقك تُطهّركَ من آلامك وتمسح عن قلبكَ صدأ الهموم وشواغل الدّنيا، فما الوجود سوى كابوسٍ يرى النائمُ فيه أحياناً أنّ الوحوش تطاردُه، أو أن أحداً يريد قتله، أو أنه يطيرُ في الهواء بغير أجنحة، أو أنه يسقط من جبل شاهقٍ، ولكنّه حينما يستيقظُ يتلاشى كلّ شيء!
القصيدةُ أيها الباحثُ المثابرُ الصّبور استيقاظ وحريّة وإقبال على عالم جديدٍ، وغد أفضل وصباح أكثرَ نورا وإشراقا، فاكتبْ ما استطعت أشعاركَ، ولا تخبّأها في الأدراج، ولا تمزّقها أو تحرقها ظنّا منكَ أنها ليست بالمستوى المطلوب، فلستَ أنت من يحكمُ على نفسك، ولكن دعْ أهل المحبّة يقرأونها ليكتبوا عنها بماء الحكمة والوعي بمدى قدسيّة القصيدة، فالشّعْرُ ليسَ ترفاً وإنما هو أيضاً وجهُ تلك الشمس التي أهديتَ لها ديوانكَ هذا، حبيبَتَكَ وزوجتَكَ التي هذّبَتْ هذيانكَ وجعلتْكَ شاعراً، ووجهُ ذاك الوطن الذي شذّبَ جنُونَكَ وجعلك ثائراً (7).
القصيدةُ سفرٌ في العتمات، وسعيٌ نحو الضّوء والحكمة، وهي أيضا لجام عليكَ أنْ تُمسكَه بيديك ليدلّكَ على مُرشدك ومُعلمّك الحقّ، فنفسُكَ قويّة وعقلُك أقوى، أنِرْهُ بالشِّعْرِ واقرع بابَ ذاتكَ وامشِ فوق دروبها، وثِقْ بأنّكَ إذا فعلتَ هذا فإنّك لن تضلّ أبدا، فنفسُك إلاهيّة بيضاء لا شيّة فيها، وما دامَ الخالق هو منْ غرسها فيكَ، فأنتَ مثله؛ نورُ الحياة، لأنك صدرتَ عنْهُ، فلا تجعل وجودَكَ الإنسانيّ موتاً روحيّاً، واعتنق القصيدةَ الحقّة تنقلك إلى مدارج القيامة والكشف والاستنارة وتبعثْكَ وأنت حيّ تُرْزق، ولن تكون في حاجة إلى أن يموتَ جسدُك لتتحقَّقَ لك الرؤيا، فقُمِ الآن وانزل عن سرير الكشفِ مشافًى معافًى من كلّ غضبٍ أو قهر أو تشظٍّ، وافتح ديوانكَ واقرأ عليّ منهُ ما كتبتَه في قارورة عمركَ وشمسِ حياتك ونورها التي بها اهتديتَ إلى الشّعْرِ ونفضتَ غبار الأيّام والمحن والحروب، فالمرأة أيّها الطّائيُّ هي قصيدةُ القصائد الكبرى، لأنّها قدّيسة القدّيسات التي بها تُسحقُ رأس التنّين، ويُنْسَفُ إبليس من الأعماق، ولأنّها مشفى الحياة الأوّل والأخير، وشعلةُ العشق التي تقهرُ الجهلَ كما الحرف الذي بهِ أخرج الخالقُ الإنسانَ من دياجير الظلم والظّلمات:
قليلاً من الحبِّ أهدي إلى توأم روحي:
منذ نيف وأربعين عاماً
إلى التي يزداد حبّها في قلبي شموخاً
مع كلّ لحظة تمرُّ من عمرنا
إلى التي صرتُ أنا هي، وهي أنا!
قليل من الحبّ، هو كلّ الحبّ.
إليك وحدكِ، أقول:
إن الإبحار في عينيك الزرقاوين الصافيتين النقيتين
كمثل إبحار بزورق صغير وسط عاصفة هوجاء
مصحوبة بمطر،
لكنه لا يتهدّدني
إنّما يمدّني بالحياة!
تقبّلي قليل حبّي
فهو كلّ ما أقدرُ عليه
بعد أن أنهكتني السنين العجاف (8).
الهوامش:
(1) د. أسماء غريب، كواكب على درب التبانة، ج1، ط1، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2018.
(2) د. صالح الطّائي، دار العارف للأعمال، بيروت – النجف الأشرف، ط1، 2012.
(3) د. صالح الطّائي، خرافة كثرة زوجات الإمام الكاظم عليه السلام، دار المرتضى، بيروت، 2013.
(4) د. صالح الطّائي، الحسن بن علي عليه السلام والإمامة المنسية، العتبة العباسية المقدسة، كربلاء، 2015.
(5) د. صالح الطّائي، نوبات شعرية، ط 1، دار ليندا، سوريا، 2017، ص 5 / 6.
(6) المصدر نفسه، ص 108 / 111.
(7) المصدر نفسه، ص 3.
(8) المصدر نفسه، (قارورة عمري)، ص 139
1139 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع