د.أسماء غريب*
القصيدةُ – الأنثى عند الشّاعرة ساناز داود زاده فر: قراءة في ديوانها (أمشي على حروف ميتة)
المرأةُ هي القصيدة مهمَا حاولَ العديدُ مِنَ الشّعراءِ إنكارَ هذه الحقيقة، أوْ إعلانَ العصيان والتمرّد على الأنثى المُلْهِمَة الوفيّة المُخْلِصَة التي لا تفارقُهُمْ أبداً منذُ طفولةِ الحرفِ الأولى إلى أنْ يُهَالَ عليهُم التُّرابُ في رمس الأبجدية الكبيرِ. والمرأةُ هي شجرةُ الإبداعِ البِكْرِ، وهيَ المُعَلِّمَةُ الأولى التي بها يدخُلُ كلُّ الشُّعراء إلى مدرسة الحياةِ، ومهما كَتَبُوا أوْ قالوا في شَتّى مجالاتِ الفِكْرِ شعراً سياسياً كانَ أو وطنياً أو ملحمِياً أو غنائيّاً، فإنَّ المرأةَ أو بالأحرى الأنثَى تبقى وستظلُّ هي الرّوحُ الكاتبةُ في كلّ شيء، والشّعراءُ المُتَوَّجُون بِإكْليلِ الصِّدْقِ يَعْرِفُونَ هذا جيّداً، ويَعْلَمُونَ كيْفَ أنّ القصيدةَ تلبسُ رداءَ الأنثى وتأتيهِم في سريرِ البوْح حبلى بكلِّ فواكه وثمار الغوايةِ والأنسِ، ولا تتركُ أحداً منهُم إلّا بعْدَ أن يُلقيَها حِبْراً في رحِمِ الوَرَقِ، لِتَتَخَصَّبَ وَتُصْبِحَ فكراً يَحْفُرُ في أركيولوجيا المعرفةِ ليُؤَسِّسَ حضارةً تتقدَّمُ وتتطوّرُ وتصبحُ مُمَثِّلَةً للإنسانِ في أبهى صورهِ وتجلّياتهِ.
أرسطو حينما كتبَ عنِ الشِّعْرِ كانَ يعلمُ جيّداً أنّهُ بصددِ الحديثِ عن المرأة، أو الأنثى الكونيّة، أيْ تلكَ التي تُسَيِّرُ وتُلَقِّحُ كلَّ شيْءٍ في الوجودِ، وتُبَرْعِمُ منهُ ثَمَرَاتٍ بهيّةٍ بهيجةٍ تُحيي بها السّهولَ والمروجَ، وَتَسْقِي بماءِ الحرفِ فيهَا جبالَ الكَلِمَةِ والعبارةِ مُحَوِّلَةً إيّاهَا إلى جُدَدٍ بيضٍ وحُمْرٍ مُخْتَلِفٍ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبَ سُودٍ خِصْبٍ تُرابُهَا ومُفْعَمٍ بالعطاءِ والهباتِ والخيراتِ. نعم، أرسطُو كان يَرىَ الشِّعْرَ أنثى تُنْتِجُ وتُغَيِّرُ وتَقُودُ نحو المعرفةِ، لأنّها ربيبةُ النَّفْسِ الّتي أخذتْ بِيَدِ القلْبِ ونزلَتْ بهِ إلى أرضِ البدَنِ ليَبْدَأَ بها معَ العقْلِ رحلةَ الاكتشافِ والتطوُّرِ والحضارَةِ، مُتَسَلِّحَةً بعصَا المُحاكاةِ التي طالما تحدّثَ عنهَا أرسطو ومعلّمُهُ أفلاطون، والّتي ما كانت تعنِي للرّجُلْينِ سوى مفهومَ الخلق من جديد، إسوةً بالبارئ الذي خَلَقَ المثالَ الأوَّلَ لكلِّ شيْءٍ في الحياة.
وحدثَ أن صدّقَ الجميعُ لليوم كلَام الفيلَسوفيْنِ عنِ المحاكاة؛ كلامَ أفلاطون حينما طردَ الشّعراءَ مِن مدينته الفاضلة ولم يتركْ منهم سوى مَن كان يُمجّدُ الآلهة، بدعوى ألّا قدرة لهُم على الخلقِ إلّا من خلال التقليد والمحاكاة لما يرونَهُ مِن حولهم دون محاولةِ البحثِ عن حقيقة الأشياء، كالنجّار الذي يصنعُ السَّريرَ مُقَلّداً سرير الإله وعرشه، والرّسامِ الذي يرسُمُ ما صنعه النّجارُ دون أن يفهم مِمّ أوْ كيْفَ تكَوَّنَ، فيكونُ بهذا التّقليدِ بعيداً تماماً عن الحقيقةِ. وكلامَ أرسطو الّذي وإنْ أثرى مفهومَ المحاكاة الأفلاطونيّة وجدّدَ فيها بملاحظاتِه الدّقيقة ودراساتِهِ للعديد من الأعمال الفنّية والأدبيّة نافياً عن الشّاعر صفةَ الحِرفيّة ونسخِ العالَم الواقعيّ، فإنّهُ لمْ يستطعْ بفكره أنْ يُغَيِّرَ شيْئاً في نظرة النّقادِ والشّعراءِ للشِّعْرِ نَفْسِهِ، فلا أحدَ بيْنَهُمْ يرى فيهِ المرأةَ أو الأنثى الخلّاقةَ صورةً حقيقيّةً لا مجازيّةً، ولا تَخَيُّليّة، إذْ منذُ دَانْتِي أليغييري إلى اليوم مازالَ الشُّعراءُ يعتبرونَ المرأةَ مجرّدَ جسرٍ يعبرونَ بهِ نحْوَ الكلمة، ويَرَوْنَهَا مُلْهِمَةً لا قصيدةً، وثمة فرق كبير بين المفهوميْن، فشيءٌ أن تكونَ المرأةُ بياتريشَ دانتي أو ليلى أو بُثيْنة أو سيلفيا أو عبلة أو جولييت، وشيءٌ آخر تماماً أن تكونَ هي القصيدة والشّاعِرُ هو العصا التي بها تَخْلُقُ الأنثى الكوْنَ وتُغَيِّرُ فيه وبهِ مسارات الحضارة.
والشاعرةُ ساناز داود زاده فر، انتبهتْ إلى هذه القضيّة المهولة على الرغم من حداثةِ سنّها، فأصْدَرَتْ بموجِبِها ديوانَها (أمشي على حروف ميتة) (1) باللّغتيْن الفارسيّة والعربيّة وأصرّتْ على أنْ تُتَرْجِمَ العديدَ من قصائده إلى لغاتٍ أخرى بما فيها الإنجليّزية والفرنسية والإيطالية (2)، ليس بغرضِ أنْ تُضْفِيَ صفة العالمية على شِعرها باعتباره شعراً إيرانيّاً، لأن الشعر الإيرانيّ عالميٌّ بطبيعتِه وبشعرائه وليسَ بحاجة إلى هذا النوع من الانتشار، وإنّما بهدفِ أن تطرُقَ في كلّ العالم ناقوسَ الخطر الذي يُهَدّدُ مُنْذُ زمنٍ القصيدةَ والشِّعْرَ، وبالتّالي الأنْثى والفكرَ، في حين أنَ الشّعراء مُغَيَّبُونَ تماماً عنْ هذه الكارثة، فهُم غارقون في غزليّاتِهم السطحيّة، وأشعارهم ورثائياتهم السياسيّة وما إليها. لأجل هذا تجدُ ساناز في ديوانِها تطرحُ سؤالَ الشّعر من جديدٍ وتضعُ إصبعها على دمّل ذكوريّة الشّاعرِ وخشُونَتِه ولا مبالاتهِ تجاهَ القصيدةِ الحقّة التي تتقمّصُها الشّاعرةُ قلباً وقالباً، وتلْبَسُ كلَّ تفاصيلهَا لتَتَحَدَّثَ بلسانِها إلى الشّاعرِ وتنْحَتَ في الجانب الذّكوريّ منهُ وتُعرّيهِ قشرةً قشرةً، لتضعَ أمام عينيْه عيوبَهُ كاملةً تواجِهُهُ بها كما لمْ يفعلْ أحدٌ من قبْلُ، وقد بدَا هذا جيّداً مُنذُ قصيدتِها التي حدّدت فيها اليونانَ مَهْداً بِكْراً لكلّ ماهو شِعر وقصيدة في الأدب العالميّ، مُعْتَرِفَةً بفضل أرسطو الكبير على المعرفة والأدباء، مُوَظِّفَةً في إيصالِ رسالتها هذه اسمَ الشّاعر الإيرانيّ (رسول يونان) (3)، ولعبتْ على تركيبته الإشارية واللفظية لتقولَ من خلاله لكلّ شاعر أينمَا كانَ أنَّهُ غيرَ مُطَالَبٍ سوى بإِكْمَالِ مسارِ الإغريق في محبّة المرأة– القصيدة، والسّيرِ على نهجهم.
وخطابُها هذا قد ظهرَ عياناً منذ غلاف الدّيوان وعنوانِه، ذلكَ أنّ الّذي يمشى على حروف ميتة ما هي سوى القصيدة نفسُها، وموت الحروف هو رمز إلى سُباتِ الشّعْرِ المعاصر والشّعراء العميقِ، ويدُ الشّاعرة على غلاف الدّيوان وهي تمشي بأصبعيْها؛ الوسطى والسبابة فوق بياض الورق ما هو إلّا إشارة منها إلى بدء الطّريق نحْوَ خلْقٍ جديدٍ لعهدٍ أَجَدَّ في الشّعر، عهدٍ لا يتحقّقُ إلّا عبر معول الهدم والنّقد الذي تبنّتْهُ ساناز على طول ديوانِها، فهي تنعتُ الشّاعرَ بالغموض والهذيانِ وتقولُ لهُ بلسان القصيدة:
((بخارُ حديثكَ،
أحاط كلّ مخيّلتي بالضباب،
فلا ترى اقتراب أحلامنا المشتركة بيننا
في الحدّ الأدنى للمسافة.
يداك
منذ سنواتٍ
بعيدتان عنّي)) (4).
ما من شكّ في أننا مع ساناز نجدُ أنفسَنا أمام أزمةِ الشّعْر الحقيقيّة: بُعْدُ الشّاعر عن المعنى وتوهان القصيدة-الأنثى منهُ، وتشويشهُ لمخيّلتِهَا الخصبة بكلام كلّهُ بخار وزيف وخواء، وهي الفكرة التي تجدُ ما يؤكّدها أيضا في هذه الأبيات:
((حِينَ نلتقي
تكونُ بينَنا مسافةُ دخانِ عدَّةِ سجائر،
وحِينَ لا نلتقي
كوبٌ منَ الشَّايِ السَّاخنِ إِلى جانبهِ سكَّرٌ
هذهِ التَّجربة دائمًا
*
أَدورُ
داخلَ دُخانِ سيجارتِكَ الَّتي أَشعلتَها،
ومعَ آخرِ رشفةٍ مِنها
يَبقَى عَقبُها،
ولَا شيءَ يَبقَى منِّي)) (5)
هو نقدٌ لاذع، هذا الذي توجّههُ القصيدةُ إلى الشّاعر اليومَ أكثرَ من أيّ زمن مضى، ولا أحدَ يُمكنه أن يُنكرَ هذه الحقيقة، فكَمْ هُمُ الشّعراء الّذين ما إنْ يستشعروا قُدُومَ القصيدة، سيّدةَ الأرض والسّماء حتّى يبادرونَ إلى إشعال السّيجارة، والجلوس إلى الطاولة من أجل تحريرها فوق الورق. لكنْ مَن مِنكُم تساءلَ حقّاً وهو في موقفِ الحريق الذي يشبُّ في غُرف الشّعراء، عمّا الذي يتبقَّى حقّاً من القصيدة؟! لا شيءَ كما تقول ساناز: (ولَا شيءَ يَبقَى منِّي)، والمسافةُ بين الشاعر وقصيدته هي كلّ ذلك الدّخان الذي لا شيء فيه سوى انفعالات يتخلّصُ منها ثمّ يخرجُ من غرفته كأنّ شيئاً لمْ يَكُنْ. فهل بهذا نريدُ أنْ نبنيَ حضارةَ وفكر اليوم، أبِدُخَانِ السّيجارة الذي يحجُبُ القصيدةَ ويخنُقُها ولا يدَعُ لهَا فرصةً كيْ تظْهَرَ بكامِلِ بهائِهَا، أنثى ساحرةً ليْسَ لجمالها مثيل، قادرة على إحداثِ الثّورة والتغيير؟!
ليكُنْ لكُم هذا إذن أيّها الشّعراء، ولتَنْشَغِلُوا عن القصيدة بقضايا اليورانيوم المُخصّبِ والسّياساتِ الدّوليةِ(6)، لكن عليكم أن لا تنسَوا أنَّ القصيدةَ لا تخونُ أبداً لأنّها عشتاريّة العطاء والإلهام، تمّوزيّة المعنى شيرازيّة العشْق، وأرسطية الهوى، لا تتركُ الشّاعِرَ أبداً، وتظلُّ تمشي بجانبهِ وتسعى إليه في كلّ مكان وزمان لتُطَهِّرَهُ ممّا هُو فيهِ:
((للوصُولِ إِليكَ
أَمشي عَلى حُروفِ مَيتةِ؛
ربَّما كلمةٌ تقولُ: آهٍ
معَ الكلمةِ المُصابةِ أَيضًا.
سأَمشي بجانبِ مسافاتِكَ)) (7).
هي هكذا ساناز، تعي جيّداً أنّهَا تحْفِرُ في الأماكن الوعرة والمُظلمة، وتبحثُ عن المعنى الذي يهزُّ الشّاعرَ اليوم ويفيقهُ من غرقِهِ في يمِّ الأبجدية المريضة، وإن استدعى منها الأمرُ تَبَنِّيَ لغةِ الإشارة كما تقول في هذه الأبيات:
((كلّ ما أكتبه؛
يصيرُ سجناً أو موتاً
بالأبجديّة المريضة
لا بدّ أن نعيش الحرّية بلغة الإشارة)) (8).
لكن هل هذا يكفي، أو بصيغة أخرى، هلِ الكتابةُ بلغة الإشارة هي التي ستحمِلُ على عاتقها مِشْعَلَ التّجديد؟ لا أعتقدُ ذلكَ، فهَدْمُ القوافي لنْ يجدي في شيء، ولا تقليلُ الأبيات أو تشطيرُها أو ترميزُها، ربّما يجبُ تغيير نمط العمل، وتنقيةُ قَلْبِ الشّاعر من آلامه، وفتح نوافذ الرّوح وتهويَتها من بقايا السّجائر، ودخان الأورانيوم، وإحداث ثورةٍ في ماهيةِ الأدب حتّى تعودَ للشّعراء قصيدتَهم الأنثى بكرا معطاءة كمَا لمْ تكُنْ من ذي قبل:
((شفتاك غائبتان
ولا أحد يدركُ آلامي
الكلّ منشغل بداعش
وحدود أوروبا
ولم يدركوا أن السّلام
هو قبلة
وحضن بقي وحيداً)) (9).
الهوامش:
(1) ساناز داودزاده فر، أمشي على حروف ميتة، دار تمّوز للنشر والتوزيع، دمشق، 2017.
(2) انظر بعضاً من قصائدها وقد قامت بترجمتها الدكتورة أسماء غريب إلى اللّغة الإيطالية على هذا الرّابط:
https://ishtartammuz.wordpress.com/2014/05/26/poesie-inedite-di-sanaz-davoodzadehfar/
(3) الديوان: صص 17 / 18.
(4) المصدر نفسه ص 11.
(5) المصدر نفسه صص 7 / 25.
(6) المصدر نفسه ص 16.
(7) الديوان، ص 21.
(8) الديوان، ص 64.
(9) الديوان ص 78.
*أديبة وناقدة ومترجمة مغربيّة، مقيمة في إيطاليا
- تخرّجت سنة 2006 في جامعة باليرمو (قسم الدراسات الشرقية الإسلامية) بإيطاليا، وقد كانت أطروحة إجازتها باللّغة الإيطالية حول "أسرار الحروف النورانية بالقرآن الكريم"؛
- حصلت سنة 2008 ومن الجامعة ذاتها، على شهادة الماجستير الدولية للدراسات العليا بمرتبة الشرف الأولى، تخصّص: دراسات حول البلدان العربية والإفريقية. وكانت أطروحة الماجستير حول "إسراء ومعراج الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام"؛
- في بدايات سنة 2012 حصلت بروما على دبلوم في التحرير الأدبي والصحفي من "ستيلوس" مؤسسة علوم التحرير الأدبي والصحفي باللغة الإيطالية؛
- نالت في يومه الخميس 8 شعبان 1433 الموافق لـ 28 حزيران 2012، بروما بجامعة [La Sapienza] قسم الدراسات الشرقية: تخصّص (حضارات وثقافات دول إفريقيا وآسيا) شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز وبمرتبة الشرف الأولى عن أطروحتها الموسومة بـــــ (الحداثة في المغرب، من التاريخ إلى الأدب: محمد بنيس أنموذجا للدراسة والتحليل)؛
- شاركت في العديد من الأنشطة الثقافية الخاصّة بحوار الأديان بأهمّ المؤسسات التعليمية بمدينة إقامتها..
825 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع