بقلم د. رحيم الغرباوي
قراءة في قصيدة ( شــبيه الماء ) للشاعرة السـورية ميسـاء زيدان .
إنَّ نظرية الأدب بوصفها مستنبطة من أحضان الفلسفة الإغريقية , وعلم الجمال الكلاسيكي ( كانت – كروتشه ) , إذ نراها لم تتخلص من النظرة المثالية والنزعة الفلسفية ؛ لذا فاهتمامها بالنزعة الأنطولوجية لم يمنحها السعة في قراءة النصوص الأدبية التي هي محض حقائق ماكثة خلف كيان النص من خلال النص ذاته , والذي جاء في طروحات رولان بارت , وقبله دوسوسير مؤكدين على نظام العلامات ، فالنصوص الأدبية لديهما تُدرَس على أنَّها عمل يجمع بين نظامين هما : النظام اللغوي والنظام الأدبي , بوصف النص بنية دالَّة , أوهو عبارة عن نظام سيميائي , أو منظومة رمزية بالدرجة الأولى قبل كلِّ شيء (1) , ولما كان النص الشعري هو ترتيلة روح تخفق لواقع , لكنها تصدر من عالمٍ جواني معتَّق بغضارة الأحاسيس التي تضم في ثناياها حقائق كونية غاية في الانتظام , لايستوعب مداركها خيال , كونها تفيض وتمنح ما يختلج به القلب وما تشتعل به المخيلة ؛ لترسم صورة الحقيقة الكامنة في نشيد من الكلمات ؛ لتؤطر رسالة مرسلها كدهشة أو طرافة يفتتن بها سامعها أو متلقيها , هكذا هو جوهر الشعر وحقيقته الفارقة .
ويبدو أنَّ الشاعرة ميساء زيدان , وهي تترنم بأشعارها التي تمثل قدرتها للإتيان بفرائد جودها مطرزة بذلك ما يملي عليها لا وعيها عن حقيقة الوجود في فضائيه الداخلي والكوني عن طريق لا وعي كلٍّ مِنَّا , وهو يسوح في عوالمه التي ضمَّت الوجود خارج نطاق الزمن , لذا قيل أنَّ زمن القصيدة هو ليس زمناً ميقاتياً , إنما هو زمن وجودي يعتاش على توحد ثلاث لحظات , هي : اللحظة الماضية والآنية والمستقبلية , وقد أطلق عليها سانتيانا بــــ ( اللحظة الكلية ).
والشاعرة تؤطر لنا بقصيدتها ( شبيه الماء ) التي أهدتها لأمها تنويعات من التعابير التي مثَّلت شعورها الدافق تجاه الأمومة , إذ شبَّهتْ أمها بالماء , والماء هو أصل الأشياء , وإنه أصل الحياة كما جاء بالكتب السماوية , إذ قال سبحانه وتعالى : ( وجَعلْنا مِنَ الماءِ كلَّ شيءٍ حي ) (2) , وقوله تعالى ( وكان عرشُهُ على الماء ليبلوكُم أيّكم أحسن عملاً ) (3) , وذكرت كتب التراث : إنَّ الله خلق الشيء الذي جميع الأشياء منه , وهو الماء (4) .
إذ نجد شاعرتنا تقول :
بقلبٍ شَبيهِ الماءِ
أنقى منَ النَّقا ,
و كَفّينِ ، عُصْفورَينِ
للهِ حَلَّقا .
فالماء يتسم بأنه أصل الأشياء , وهو أنقى ما في الكون بدلالة أنه يطهر الأنجاس والأدران . بينما العصفور يمثل البراءة , فشبهت الشاعرة كفي أمها من حيث تلك البراءة بعصفورين , و لابد لهما من تحقيق الأمنية ؛ كونهما تصلان بأجنحة الشفاعة , ففي الحديث الشريف : ( مَنْ قبَّلَ ولدهُ كتب الله له حسنة ، ومن فرَّحه فرَّحهُ الله يوم القيامة ) وورد أيضاً : ( إنَّ الله ليرحم العبد لشدَّة حبِّه لولده ) (5) , وهذا ما أباحت به شاعرتنا في قبول الدعاء من أمها , وهي ترفع كفَّيها إلى السماء .
ويبدو أن الشاعرة تعيش الاغتراب النفسي وربما المكاني الذي يسبب للنفس انكسارها , ولعله محنة الوطن الجريح الذي مابرح تهتك به شتى ضروب المحن , فهي تقول :
دُعاؤكِ أمّي
كلَّما قلتِ : يا ميسا ,
أرى
به غربتي أودى
و ليْلِيَ مُشْرِقا ..
بَعُدتُ
و بَعْضُ البُعْدِ لا شَكَّ مُعدِمٌ
فيا ليتَ عَوْدٌ
كيْ أعُودَ فأُخْلَقا .
. ..
هُنَيْهَةَ
كُلّ الكونِ , أمّاهُ يَشْتَكي
لِمَا في دمي
من أزْرَقٍ ليسَ أزرقا ..
فهي ترى ليس من شفيع لها سوى بارئها من خلال دعوات أمها الصالحة , فغربتها تصبح أنساً , وليلها يعشي مشرقاً بفضل هذا الدعاء ، كما أنها ترى في البعد ولعله بعد المكان يكون مُعدِما ؛ كونها لم تنل ماترجوه من حلمها المضاع متمنيةً العود الذي يحقق لها العودة إلى أيامها السعيدة بقرب من تتوق لقربه , ويمكن أن نقرأ ذلك على اجترار نقاء الدعاء في الأسطر الأولى أنَّ شاعرتنا تنافح ؛ من أجل عودتها إلى عالم الفطرة , ذلك العالم الذي لم تلوثه أصابع الإثم الذي طال أراضينا المليئة بالمقدسات .
أما زرقة الدم ، لعله ما ينتابها من رهانات فهو كلدغات الأفاعي , إشارة إلى لون جسدها الذي أثخنته جراح الحروب مومئة إلى بلدها سوريا تلك البقعة التي عمَّدها الله بكنائسه ومساجده وأضرحة أوليائه الصالحين , و لابد يوما أن تتعافى ودمها يعود نقياً طاهراً بطهارة مقدساتها . ثم تميل إلينا بالتفاتة نعتقدها تورق بالبشارة حينما تذكر الحب ذلك الأمل المتجلي في حنايا الصدور , فهي تقول :
هو الحبّ
أن نحْيا بغير أصابع
و أن تنبتِ الكفّانِ فُلًّاً و زَنْبَقا ..
هو الحبّ ،
أنْ نفنى على الأرض سُجّدا ً
لمن في الدُّنا ما غَيرُه يُدرِك البقا ..
وليتَ شفاهي
منكِ تَكْفيهِا قُبلةٌ
ليَعشَوْشَب الخدّان
مِن دونِما سِقا
إذا نرى ما يسلي الشاعره , وهو الحب الذي يجعلها تحيا من دون عمل بوصف الأصبع هو الفعال وهو المُنجز والمريد , تذكرِّنا بقول الشاعر :
ضعيف العصا بادي العروق ترى له عليها إذا ما أجدبَ الناس اصبعا
فالأصبع مجاز مرسل علاقته السببية , فهو سبب للوفرة و العطاء . فالحب لدى الشاعرة هو من يمنح الوفرة والعطاء , لكن إذا ما نمت في الكف أصابع تحول الخير أضعافاً , فينبت الفل والزنبق ؛ إشارة إلى الغنى . ثم الحب لدى الشاعرة هو من يجعل الإنسان خالداً حين يموت وهو ساجد , والسجود يمثل إنسانية الإنسان وهو يعبد خالقه , أما تضحيته وهو ساجد فيمثل ذلك الشهادة في سبيل المبادئ السامية ؛ لذلك لابدَّ أن يخلد بفعله الرشيد . ونراها لاتنفك من الإشارة إلى أمها التي ترى في تقبيلها برِّها ؛ بوصف الأم هي أصل المنبت والوجود التي لولاها ما دامت الحياة ؛ لأنها تمثل نبع الحب وملاذه الأول , ثم تشير الشاعرة إلى حب آخر هو الرجل الذي يكسو الحياة بهاءها , وقد شخصت وجهة بلده , فهو من أرضٍ قامت بها أول حضارة على وجه البسيطة , وانبثقت أول ملحمة إنسانية منه , هي ملحمة كلكامش ؛ لتومئ إلى ما تضمنته تلك الملحمة من معاني الوفاء والبطولة والإقدام والخلود الذي صنعته الأعمال الصالحة كما أشرنا آنفاً . فهي تقول :
أقولُ: أيا أمّي ,
أحبّ وأشتكي
حبيباً بعيدَ الأهلِ ، والصحبِ، واللقا
عراقيّ يشفي القلبَ
يكفيني إن أتى، أعيشُ بسعدٍ
منه شوق تموسقا
أقولُها: أمّي، وليتكِ في دمي
وليت الذي في القلبِ
يحكي لِمَ انتقى..؟
حبيبي ... بأوصالي يبيتُ
مُصالحاً ،
وشعري , وأحلامي ,
وصبري , وما آرتقى
بقلبٍ شبيهِ الماءِ كنتَ ولم تزلْ
حبيبي ونبراسي
وأنقى من النقا
لذا فالشاعرة ربطت الحبيب أيضاً بالماء , فهو مازال حبيباً ونبراساً ! ولما كانت الشاعرة من بلاد الشام , وإنَّ الشام و العراق اليوم هما الهدف الذي ما زالت الأطماع الإمبريالية والاستعمارية توجه لهما أعتى المؤامرات لكنهما يظلان في تحدٍّ دائب لتلك المؤامرات الرخيصة ؛ لما لهما من عمق تأريخي ووحدة جسدية يضمهما الفرات بين جنحيه , لذلك آثرت الشاعرة إلا أن تنتقي الحبيب من بلدٍ يعاني المعاناة نفسها ويتحدى التحديات الكبرى للعدو ذاته , فالمصير والجسد والقضية واحدة , فأتت القصيدة تعالج موضوعاً ارتبط بقيم السماء , كون أرضنا المقدسة اليوم بحاجة إلى دعاء نقي طاهر وصلوات مكللة بروح الجهاد , لتبقى بلداننا العربية حرَّة موحدة.
تحياتي للشاعرة ميساء زيدان وإلى مزيد من الإبداع والتألق .
(1) ينظر : نظرية النص ، د. حسين الخمري : 22- 23.
(2) سورة الأنبياء : 30
(3) سورة هود : 7
(4) ينظر : عجائب الملكوت , عبد الله الزاهد : 8
(5) الكافي , الكليني : ج6 ص 50
764 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع