د. زكي الجابر
قالت الشاةُ لجزّارِها: ’’حَذارِ، يا سيّدي، أَنْ تَجرح أِصبَعَك‘‘!
إعداد د. حياة جاسم محمد
’’إيـﭭـيتا‘‘، ذلك هو عنوان المسرحية الشعرية الموسيقية التي كتبها ’’تِيم رايس‘‘ مُصَوِّراً فيها انتقالَ ’’إيـﭭـا‘‘ من مذيعة إلى حياةِ القصرِ زوجةً لديكتاتور الأرجنتين ’’ﭘيرون‘‘. في مشهدٍ من هذه المسرحية يَعرضُ ’’رايس‘‘ مجموعةَ المتآمرينِ الناقِمين الذين يُريدون الانقضاضَ على الحكمِ، وفي كلِّ اجتماعٍ لهذه المجموعةِ يَنقُصُ كرسيٌّ من الكراسي لِيَرَوا أن أحدَهم لا يجدُ ما يجلِسُ عليه. وتستمرُّ لعبةُ الكراسي كما هو معروف حتى يبقَى كرسيٌّ واحد فقط يتربَّعُ عليه الديكتاتور.
وقد لا يَعنيكَ كثيراً أن يكونَ هناك كرسيٌّ واحدٌ يجلس عليه شخص واحد بقدرِ ما يَعنيكَ ماذا يدور في ذِهنِ هذا المُتَربِّعِ، وماذا يقول وما يصنع وبعد ذلك كيف تطوَّرَ وصار إلى ما صار إليه؟!
في مَقُولة رائعة خَطَّها قلم الصحفي والكاتب المحلِّل ’’والتر لِـﭙمان‘‘ ما يعني أَنَّ في الصَميمِ من كل قانونٍ أخلاقيٍّ ثَمَّةَ تَصَوُّرٌ عن طبيعة الإنسان وخارطة للعالم ورواية عن التاريخ. تُطَبَّقُ أحكامُ هذا القانون على طبيعة الإنسان كما هي مُدرَكَةٌ، وفي عالَمٍ كما هو مُتَصَوَّرٌ، ووفقاً لتاريخٍ كما هو مفهوم! وللديكتاتورِ قانونُه ’’الأخلاقيُّ‘‘ الذي لا يرَى في الإنسان أكثرَ من حشرةٍ ضارّةٍ يُمكنُ أن تُسحَقَ بلا رحمة في عالَم يسودُه حُكمُ الغاب ولا مكان فيه إلا للقوّة والبطش كما تقول بذلك عِبَرُ التاريخ ودروسُه. ومن هذا المُنطَلَق يَصِحُّ الاستشهادُ ببيت الشريف الرضي الذي يقول:
’’لا يُصلِحُ الناسَ لِأَربابِهم
إلا بياضُ السيفِ والدِرهمُ‘‘
قد أكونُ على صواب حينما أقولُ إِن قواعدَ هذا القانون، الذي يَصِحُّ وصفُه أيضاً باللاأخلاقيّ، هو ما تبنّاه الحَجّاجُ فأصبح لا يَرَى إلا رؤوساً قد حان قِطافُها، ولا يتأمّل إلا ذلك السيلَ من الدماءِ يتدفَّقُ ما بين العَمائم واللِمَم!
وقد أكونُ على صواب أيضاً حين أقولُ إِنّ قواعدَ هذا القانون قد طبَّقَها سلطانٌ من السَلاطِنة المماليك، ذلِكُمْ هو محمد بن قايتَباي، استشهد بفِعالِه ذاتَ مرَّةٍ ’’العفيف الأخضر‘‘(1) وهو يتحدّثُ عن طريقة من الطُرُقِ التي أبدعتْ فيها عبقريةُ الاستبدادِ أَيَّما إبداع‘‘. في عام 1497 أَرغمَ ذلك السلطانُ مُتَّهَماً من المُتَّهَمين، وهم كُثْرٌ، على أن يَجلِدَ نفسَه بأن يقومَ بقَطعِ رِجلِه اليُمنى ويَدِهِ اليُسرَى بِيدِهِ اليُمنى!
وأمثلةُ هَذَينِ الديكتاتورَيْنِ متكرِّرَةٌ، فالديكتاتورُ يتناسَخُ، وكان آخِرَ المَنسوخين ’’ﭘول ﭘوت‘‘، قائد الخَمير الحُمرِ، السفّاكُ الذي أباد الآلافَ حتى طُوِيَتْ صفحتُه من سِجِلِّ الحياة ليظَلَّ خالداً في سِجِلِّ البطش والفتك والإرهاب.
وفي حياتنا، وقراءاتنا كذلك، نُواجَهُ بنظرتَيْن حول طبيعة الإنسان، أولاهما نظرة مقَيَّدَة ضربَ لها مثلاً أحدُ فلاسفةِ القرن الثامن عَشَرَ بأَنْ لو قِيلَ لِأَحدِ الأوروبيين المأسورين بهذه النظرة بأن الصينَ بملايينها من البشر وبحَيَوانِها وأشجارِها قد ابتلَعَها كُلِّيَّاً زلزال انشقَّت به الأرض شَقَّاً لَأكتفَى بالإعراب عن أسفه، وربما ذهب إلى أبعدَ من ذلك لِيُدلِيَ بتأمُّلاتٍ واهنةٍ عن مصير أولئك الأشقياءِ الذين صرَعَهمْ ذلك الزلزال. إِن الذي يكتفي بالإِعرابِ عن الأسف لِمَصرع ملايينٍ من الناس لم يُشاهِدهم سيقضي ليلتَه أرَقَاً وهَلَعاً لو علِمَ أن أِصبَعاً من أصابِعِه، ولِسببٍ ما، سَيُقطَع في اليوم التالي. أما النظرةُ الأخرى فهي تلك النظرة غيرُ المُقَيَّدة، النظرةُ التي تقفُ ضدَّ إِفسادِ طبيعةِ الإنسانِ وقُدراتِه بتأجيجِ الأحقادِ وتحريكِ العواطفِ المريضةِ والأفعالِ الإنسانيَّةِ، بل تذهبُ إلى أبعدَ من ذلك من خلالِ مُناهَضَةِ التَوَجُّه نحو استِمالَةِ الإنسانِ ليقومَ بأفعالٍ ’’جيدةٍ‘‘ من أجل خِدمةِ ’’مصالحه الخاصة‘‘. إِن الأمرَ الأسلمَ هو إِثارةُ العواطف النبيلة الهادئة والكامنة في الطَبْعِ الإنسانيّ من أجل مصلحةٍ أوسعَ وأشمل. إن صورة الإنسان لها أكثرُ من بُعْدٍ واحدٍ، ومن الأَجْدَى للإنسانيةِ ومستقبلِها التَوَجُّهُ للأبعادِ الخَيِّرَةِ والجميلةِ من أجل أن يصِلَ الفِعلُ الطيِّبُ إلى أكبرِ عدد مُمْكِن من الناس.
ومشكلةُ الإنسانيةِ في العصر الحاضر ليست في ديكتاتورٍ تستطيعُ أن تتلَمَّسَ فِعلَ يَدَيْه، وتَتَقَرَّى آثارَ سيئاتِه بل في تَلَبُّسِ الديكتاتورِ أثوابَ سُلْطة متشعِّبةٍ بامتداداتها. والسلطةُ هذه تَتَسرَّبُ من خلال علاقاتٍ تتولَّاها عِدَّةُ سُلَطٍ، فيَحارُ الإنسان أين يُحارب، وكيف يُحارب، ومَن يُحارب. رُبَّما تكون أَقوَى هذه السُلَطِ، إلى جانب قوة السلاح، قُوَّةُ الصورة، الصورةُ التي تصنعُها تِقنِيّاتٌ إعلاميّةٌ مُتطوِّرة، وتُعيدُ إِنتاجَها حتى يختفيَ الديكتاتورُ الحقيقيُّ وتَظلُّ صورتُه المُزيَّفةُ في كل مكان، في الشارع والمعمل والمدرسة والسوق والعقل وربّما في الحُلُم.
وهكذا ترَى نفسَكَ لا تتعاملُ مع إنسانٍ من لحمٍ ودمٍ يحتَلُّ عقلَه إدراكٌ مريضٌ عن طبيعةِ الإنسانِ وتَصَوُّرٌ لِعالَم لا يسودُه إلا حُكمُ الغاب، وإِنّ عِبَرَ التاريخِ تقول إِن السيادةَ لِحَدِّ السيف وجِدارِ السجن وحفرة القبر، وفي هذا العقل كلُّ ما يُبرِّرُ رفضَ الشعورِ بالذَنْب وتأنيبَ الضمير، وكيف يُمكنُ للضمير أن يكون له وجودٌ في سُلَطٍ متعدِّدة وفي صورة لا تنبِضُ إلا بالسيطرةِ والنفوذِ والامتدادِ في كل مكانٍ كما تمتد أيادي الأُخطُبوط حول الفريسة.
وبعد ذلك تسألُني، وكيف لي أن أُواجِهَ الديكتاتور وهو سُلَطٌ متعددةٌ وصورةٌ لا تُلْمَسُ فيها حقيقة؟ ومن حقكَ أن تطرحَ هذا التساؤُل، ولن أجد عندي من جواب سوى البحث عن الحريةِ وإثارةِ الشعور بها وبأهميَّتِها. إن سَطوة الديكتاتوريةِ لن تراها جَليَّة إلا عينُ إنسانٍ مسكونٍ بالحرية، وليس هناك من شيء ما يُرعِبُ الاستبدادَ مثلُ الخوفِ من الحرية. هذه الحريةُ لن تُولَدَ إلا من خلال الحِوارِ والمناقشات التي قد تبدأُ هادئةً خافتةً، ولكنها تتحوَلُ إلى صوت عالٍ يتجاوب مع رؤىً غيرِ مقيَّدَة، ويجد صداه في نفس الإنسان الحافلة بالخير والطِيبة والابتعاد عن الشُرور.
إن الإنسانَ يُولَدُ مع الحرية ولن يستطيعَ العيشَ في أَسارِ العُبودية إلا حين يختفي الحِوارُ مع نفسِه أولاً ومع الآخرين ثانياً. وسيظلّ أسوأَ ما تُعانيه الإنسانية هو أن تخضعَ لِسُلَطِ الاستبدادِ المتنوِّعة وارتباطاتِها المتشابكة كالحِبال والحَبائِلِ تسطعُ فوقها صورة المستبدِّ الضاحك على الأشلاء. ألم يكن ’’نيرون‘‘ يغنّي وروما تحترق؟!
إِن غيابَ الشعور بالحرية هو المُسوِّغُ لاستمرار لُعبةِ الكراسي ولبقاء ’’إيـﭭـا ﭘيرون‘‘ تغني لـ ’’ ﭘيرون‘‘، ولتظَلَّ الشاةُ تُسلِمُ رقَبتَها لِجزّارِها، وربما رددتْ له ما أورده على لسانها حكيمٌ بثّ في مسمع الكون هذه الحكمة:
’’قالت الشاة لجزّارها: حَذارِ يا سيدي أن تجرحَ أِصبَعَك‘‘! ولكنَّ الإنسان ليس تلك الشاةَ وإن كان أحياناً ذلك الديكتاتورَ الجزّار!
-----------------------
1. أَلعفيف الأخضر (1934-2013) مفكّر تونسي مثير للجدل، انقلب من أَقصَى اليسار إلى التأييد للغرب.
662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع