يعقوب أفرام منصور
ألعَولَمة وغزوها الفاتك المدمِّر
كما أن القمار يُعدّ خطيئة ورذيلة إجتماعية في غالبية الثقافات والمعتقدات، نلاحظ أيضًا أن النظام العالمي الجديد ( من خلال حركة العولمة النشطة منذ تسعينيات القرن الماضي) وهو يقامر بمصائر وأموال الدول ـ عن طريق قيامه بدور (ألراهن) في هذا المضمار ـ يقترف خطيئة مماثلة هي خطيئة المقامرة بمصائر الأمم، وثروات الشعوب، لكن خطيئته أجسم وأخطر وأعم بألوف المرات من خطيئة المقامرين العاديين في أندية القمار!
لفد انهتكت الحُجُب عن إفرازات ومرامي العَولمة، فبات من الواضح معرفة نتائجها على المديات الحاضرة والقريبة والبعيدة، ومعالم هذه النتائج بادية في انهيار العملات الوطنية، وتكديس الأموال في عدد من المصارف الضخمة لصالح قلة ضئيلة من أصحاب المليارات الحاصلة من تراكمات أموال الشركات الكبرى العاملة لامتصاص ثروات الشعوب، من خلال تهافتها الجنوني المتهالك على الإستهلاك السِلعي، كما هي بادية أيضًا من مناورات ومداورات ألبنك الدوَلي من خلال حقيبته " حقيبة الإنقاذ" ! ومن إفلاس كثير من الشركات الوطنية في العالم التي يسودها نظام السوق الحر. بل إن أساطين الإقتصاد الغربيين يعترفون بأن العولمة حيال تحديات عصيبة، بل مخاوف لا يمكن لأحد التنبؤ بها وبما ستؤول إليه، لأن حركة العولمة حركة مادية بحتة، مجرّدة من أي وازع أخلاقي، ومنظور ديني.وما رافق المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي عُقد في (سياتل) في غرب الولايات المتحدة في أواخر تشرين الثاني وأوائل كانون الأول عام 2000، وما تمخض عنه من أحداث صاخبة وغاضبة وردود أفعال شاجبة ومناهضة، كل ذلك يعطي خير مؤشّر بارز إلى هذه التحديات والمخاوف والسلبيات والكوارث الإقتصادية، وبالتالي جميع ذلك ينعكس بشكل مأساوي على الجوانب الأخلاقية والقيم الإجتماعية، وهي الجوانب التي تشكّل ركنَا أساسيًا من أركان الدين . وجدير في هذا المقام إلقاء بعض الضوء الكاشف على نظرة الدين إلى العولمة والإيديولوجيات المادية المرتبطة بها.
من ذلك ما أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني في سنة 1998 في أثناء زيارته إلى كوبا قائلاً : " إن انعدام المساواة في توزيع الثروات على نحوٍ مفرط بين الدول، وبين الأفراد ضمن الدولة الواحدة، يُعد مؤشّرًا غلى اختلال الإدارة وإلى الإفراط في الرأسمالية العالمية ". للمقارنة مع المقالة السالفة، نقرأ مقالة ( جون بوتنغ) ـ رئيس المدراء التنفيذيين السابق لمصرف (فيرست بنسلفانيا ـ فيلادلفيا ): " نحن نقرر من الذي سيعيش ومن سيموت"!
وفي مجلة ( ألفكر المسيحي) لشهرَي آذار ونيسان العام الحالي، شخّص رئيس تحريرها جذرين من جذور العولمة هما: ألعلمانية المؤدية إلى الإلحاد، والفردانية المؤدية إلى التفكك والعزل الإجتماعي.. وفي العدد المذكور من المجلة مقال مهم بقلم : الأستاذ فوزي نعيم جرجيس تحت عنوان (ألعولمة ومصير الأرض) ، فهو بمثابة نذير. أما مجلة (ألهلال) المصرية في عددها لأيلول 2004، فقد إحتوت 3 مقالات مسهبة بخصوص جذور العولمة ومراميها: اللعب بالعقول بعد عام 2001، وشمولية ديمقراطية، والفضائيات العربية من خلال خطابها الإعلامي المتآمر على ثقافتنا وهويتنا وتراثنا عبر طغيان المضمون التلفازي المسطّح بدلاً من عمق الإهتمام بعوامل البناء والنهضة.
وورد في القرآن الكريم كثير من النعي على الأغنياء والأقوياء والأباطرة لكثرة تفاخرهم، وتكاثرهم بالأموال والأنصار والأحساب، كما جاء كثير من الإنذارات بأن هذا لن يجديهم نفعًا، وأنهم محشورون إلى ربهم، مجرّدون من جميعه، وليسس معهم إلا عملهم كسائر الناس. مثال ذلك : " ليس البِر أن تولّوا وجوهًكم قِبل المشرق والمغرب، ولكن البِر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ..."( سورة البقرة الآية 177). أنظر كذلك ألآيتين 16 و 17 من سورة (الأعلى) وسُوَرًا أخرى.
إن العولمة غزو عام شامل، مباشر وشرس يستهدف مجتمعنا الشرق أوسطي خصوصًا، وجموع المؤمنين ومجتمعات العالم الثالث عمومًا، لتجريدهم جميعًا من ذاتيتهم في مجالات الثقافة الوطنية والتراث الحضاري والإبداع الفكري والفنّي والفولكلوري، وفي مجال الغنى الروحي عن طريق البثّ التلفازي المباشر عبر الأقمار الصناعية وشبكات الإنترنيت، لتحويل هذه المجتمعات إلى مستهلكين يستهلكون كل مواد الغرب الإستهلاكية، وإلى موالين ومقلّدين ومتبنّين ثقافاتهم وأفكارهم وإيديولوجياتهم المادية الصِرفة التي تغذّي الرغبات والنزوات البشرية والغريزية الواطئة فحسب، قصيًا عن كل ما هو إيماني وروحي ورفيع. فما أحوج هذه المجتمعات إلى أن تتعبّأ وتحتاط ثقافيًا ومعرفيًا، وأن تتحصّن نفسيًا ضد هذا الغزو الفاتك المدمِّر !
1016 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع