القس لوسيان جميل
حقيقة العالم المادي
عندما نتكلم عن العالم المادي، لا يسعنا سوى ان نقول: انه شيء آخر تماما، لا يشبه العالم المادي الذي نعرفه، وان كان يماثله، اي يشبهه في بعض الأمور ويختلف عنه كثيرا في امور اخرى. فما يحصل للإنسان، هو ان المعرفة عنده تبدأ بمعرفة صورة حسية للأشياء، سواء كانت الصورة صورة ضوئية بصرية، او كانت صورة سمعية، على شكل ذبذبات صوتيه، او كانت عبارة عن جزيئات من مادة الرائحة التي تؤثر على جهاز الشم، فيميز الانسان الرائحة الزكية من الرائحة الكريهة. اما في حاسة اللمس، فتكون عبارة عن شعور اللامس بالملموس، نتيجة وجود قوى استشعار عند كل انسان، حيث يشعر اللامس بنعومة الملموس او بخشونته، كما يشعر بحرارة استقبال الملموس للامس، او برفض اللامس، وغير ذلك. غير ان العلماء يكون باستطاعتهم دراسة الحواس بشكل افضل، لمعرفة ما يجري للحواس عند دخول صورة معينة الى شعورهم. وهذه كانت المرحلة الأولى من المعرفة، والتي قد يشترك فيها الحيوان مع الانسان، بحسب ضننا.
في المرحلة الثانية: في المرحلة الثانية نعرف بوجود علوم وفلسفات خاصة، تقول لنا ماذا يحصل للصورة الحسية بعد ان تدخل الشعور. احدى الطرق التي تقول لنا بشكل واضح ومفهوم ماذا يحدث للصورة الحسية، بعد إن تدخل الشعور، هي الطريقة التي تقول ان عملية المعرفة تتم عندما يعمل العقل، الذي يسمى العقل الفعال Intellect agent، على تجريد الفكرة عن حاملها المادي، كما يجرد اللحم عن العظم، حيث تنتج لنا ماهية الشيء L'essence. اما هذه الطريقة فهي طريقة ارسطو التي تبناها توما الاكويني، وهي عملية تنتج عنها ما تسمى الميتافيزيقا Métaphysique. هذا وأود من الآن ان اخبر القارئ الكريم بأن الفلسفات المحدثة لا توافق على كامل الفلسفة الأرسطية التوماوية في مجال المعرفة، فوجدت طرقا اخرى كثيرة نجد بعضها في فلسفة الفيلسوف ديكارت وفي فلسفة عمانوئيل كانط، وفي فلسفات الماديين، وغيرها من الفلسفات، من التي جاءت مباشرة بعد فلسفة ارسطو، مثل الفلسفة الأفلاطونية الجديدة وما يسمى" فلسفة الطبيعة" الثانية، حيث كانت الأولى في بداية الفلسفة اليونانية القديمة مع طاليس.
العالم وأشياؤه في حياة الانسان: فإذن، ونظرا الى ما تقدم نعرف اليوم ان العالم وأشياؤه تدخل الى الشعور عند الانسان، على شكل صور حسية ( صوت او صورة او غير ذلك )، ولكن هناك في الشعور تتحول الصورة الحسية الى فكرة، او الى صورة او ماهية معقولة Intelligible تسمى في بعض الفلسفات الماهية Essence، حيث ان الماهية ليست صورة الشيء لكنها فكرة ماهوية وجوهرية عن الشيء المحسوس، حيث يتم عمل هذه الفكرة من خلال ابقاء ما هو اساسي في هذه الصورة ( هويتها )، مع التخلي عما هو محسوس وثانوي في الصورة. وهكذا تدخل الأشياء الحسية الى شعور الانسان، لتخرج بعد ذلك وقد تكونت لها ماهية " معقولة " يمكن تحويلها الى كلمات تشير الى ماهية الأشياء، فيقولون مثلا هذه شجرة ويقولون هذا رجل وهذه امرأة وهكذا.
فالعالم اذن يدخل الـى الشعور وهو عالم يمكن إن يسنى " توه بوه " بحسب تعبير العهد القديم، اي يكون عالما يدخل الى قوى معرفة الانسان، عالما ماديا صرفا، ليس له اسم او معنى، لكنه يخرج عالما ميتافيزيقيا معقولا وروحيا غير محسوس، هو عالم ما وراء المحسوس، وما وراء عالمنا بأكمله. كما ان هذا العالم يدخل الى الشعور، وهو في حالة يمكن ان يطلق عليها كلمة توه بوه Chaotique، لأن هذا العالم لا يكون له شكل ولا اسم يعرفه، ليخرج عالما منظما ومعقولا Intelligible، اي عالما ميتافيزيقيا بحسب المصطلح الفلسفي الأرسطي، والذي تبناه الفيلسوف كانط، باستثناء رفضه فكرة الماهية الميتافيزيقية الارسطية _ التوماوية.
فيما يخصنا نحن البشر: اما بالنسبة لنا، فان العالم بصيغته المتحولة يصبح طبيعيا وبديهيا عالمنا، او "العالم لنا" بخلاف العالم بذاته ( انطولوجي ) الى الدرجة التي فيها لا يعود الانسان العادي يفكر بأن هذا العالم، كان يحمل معنى آخر قبل ان يحوله البشر الى ما هو عليه الآن. وعليه يمكننا ان نقول ان هذا العالم المعقول يصير لنا شبه الماء للسمكة التي لا تعرف سوى عالم الماء. وهو مثل عالَم رجل الكهف الذي ساقه افلاطون في مَثله لتبيان ان الجالس في الكهف وظهره الى الباب لا يعرف غير خيال الناس دون ان يعرف حقيقتهم، ويحسب ذلك نعد عالمنا وكأنه الحقيقة الكاملة. ومع ذلك، نحن متأكدون ان تعاملنا مع المادة يبقى تعاملا واقعيا ونعد هذه المادة نواة الحقيقة التي عليها نبني كل فلسفاتنا ومعرفتنا تجاه الانسان. لأننا بهذه الطريقة اكتشفنا ايضا ان المادة حقيقة بنيوية متعددة الأبعاد، وان ما نجده كواقع بديهي ليس كذلك الا لأننا تعودنا ان نتعامل مع احد ابعاد هذا الواقع وهو البعد المادي تعاملا انثروبوولوجيا.
نستفيد من فكرة البنيوية: وبما اننا عرفنا شيئا لا باس به من عالـم الانسان، نستطيع الآن ان نقول بأن منهجيتنا لا تسمح لنا بأن ننبذ من فكرنا الأنثروبولوجي هذا البعد الأخر الذي يسمى بعد المادة كما هي بذاتها In se، وإنها لا تستحق ان نولي لها اي اهتمام. ففي الحقيقة، اذا نبذنا بعد المادة من حساباتنا نكون قد جنينا على انفسنا، واستحققنا ان نوصم بالجهل. ففي الحقيقة اذا اعطينا كل اهتمامنا للمادة المتحولة الى مادة روحية غير محسوسة، نكون قد نسينا بأن بعد المادة الأنثروبولوجي، ليس هو البعد الوحيد الذي يمكن ان نجده في منظومة المادة الكونية والعالمية. وعليه، اصبح من واجبنا ان نهتم بكل ابعاد منظومة المادة، لكي نستطيع ان نفهم المادة بشموليتها.
نحن امام حقيقة بنيوية: ففي حقيقة الأمر، نحن نجد انفسنا امام" واقع بنيوي " تكون المادة الأنثروبولوجية التي يعرفها الانسان، دالة على المادة بحد ذاتها، الأمر الذي نقول عنه انه سر المادة، اي العلامة الخارجية التي تدل على المادة " بحد ذاتها"، الأمر الذي يتماثل مع الأسرار السبعة، ومنها سر القربان، حيث يدل الخبز المنظور والمكسور في القداس، على حقيقة يسوع الداخلية، وعلى حقيقة شهادته من اجل الحقيقة التي كان يؤمن بها، وحيث انه دشن عهدا انسانيا جديدا على ارض البشر، وتحديدا على ارض فلسطين، والتي يمكن ان نسميها ايضا ارض الميعاد المسيحي، هذه الأرض التي لم تصبـح ارض الميعـاد بماديتهـا، لأن ارض الميعاد او ملكوت الله اصبحت في كل مكان: صدقيني يا امرأة سوف تأتي ايام لا يسجد الساجدون لا في هذا الجبل ولا في اورشليم، لأن الساجدين سوف يسجدون لله بالروح والحق. وهكذا تجاوزت المسيحية الجغرافية وتجاوزت الأرض المادية، لكي تكون علاقة المؤمن المسيحي، علاقة بالروح والحق، وان شاء الله يكون الشيء عينه ( اولوية الروح ) للمسلمين الحقيقيين ولغيرهم من المؤمنين الصالحين.
هذا هو عالمنا الحقيقي: هنا نريد ان نستدرك ما قلناه في الفقرة اعلاه، من ان البعد المادي: الفيزيائي والجغرافي وحتى التاريخي، له اهميته الكبيرة، فضلا عن اهمية ما يشير اليه هذا البعد المادي من الخفايا الروحية، وحتى القدسية ايضا. فهذا هو الانسان اذن وهذا هو عالمه الذي يتعامل معه، والذي يبنيه خطوة بعد خطوة من الفه الى يائه، De A à Z مستندا الى القوانين الكثيرة التي تسيره، ومستعينا بما وهب له، كعنصر متقدم ومتميز، هذا اذا لم نقل كماهية متميزة، بشكل جوهري، بالمعنى الأرسطي، في كوننا وفي عالمنا الأرضي. وبما ان الانسان يملك كل ميزات العلة الثانية التي تكلمنا عنها، لا بل يملك اعلى الميزات التي كانت كامنة في العلة الثانية، فإننا نستطيع ان نجعل من هذا الكائن المتفوق العامل الأهم في البناء والتطور، هذا البناء الذي نرى بأم اعيننا سماته الأساسية والسمات التي سيكون عليها في المستقبل القريب، وحتى في المستقبل البعيد، وفي كل الأحوال سيكون بناء ماديا وإنسانيا وروحيا في الوقت عينه.
البناء المادي والروحي معا: فالبناء الأنثروبولوجي اذن، يشمل الناحية المادية والناحية الروحية وحتى الأخلاقية،على حد سواء، ولاسيما ونحن نعرف ايضا بأن هناك علاقة طردية بين التقدم الذي يحدث على مستوى البنى التحتية، ونظيره الذي يحدث بالتناظر ويؤثر على البنى الفوقية، او البنى العليا للإنسان. اما من جهة ثانية فإننا نعلم بالصعوبات التي تواجه البنى الفوقية عندما تسعى الى اللحاق بالبنى التحتية، بحسب الرؤية الجدلية المعروفة. ومن هنا يحق لنا ان نوجه دعوة مخلصة وملحة الى اقطاب هذا العالم السياسيين والاقتصاديين والروحيين، ليعملوا بجدية في سبيل ان تلحق البنى العليا للإنسان ببناه التحتية بسلاسة ومرونة اكبر، الأمر الذي نجد عكسه في ايامنا هذه، حيث يقتل القوي الضعيف ويفترسه، وحيث يظلم القوي الضعيف وينهب امواله ويستبيح كل حقوقه، بحجج واهية وكاذبة احيانا كثيرة، هي اوهى من حجة الذئب على الحمل: حيث قال الذئب للحمل: اذا لم تكن انت الذي عكرت علي الماء فقد كان ابوك.
ما يحصل في العالم: فما يحصل اليوم في العالم هو تجمع الأقوياء على الضعفاء لقهرهم، ومنع الجدل إن يأخذ حقه.فما يحصل اليوم بالحقيقة انما هو تجمع الأقوياء لكبح جماح الضعفاء الذين يطالبون بالعدل والكرامة والإنصاف لجميع البشر، من اجل الوصول الى عالم افضل، مما يعني إن عالمنا ليس فيه الخير فقط ولكن فيه الشر ايضا. وبما ان الماركسية لم تكن قادرة على تحقيق الخلاص، يكون على البشرية ان تجد صيغة او صيغا اخرى، من اجل الدعوة الى التغيير والوصول الى عالم انساني افضل، لا يغلب فيه البعد المادي على بعد الروحي الانساني، مما يعني عمليا بأن على العالم إن يجد تنظيما دوليا جديدا قادرا على تحقيق البناء السلمي لعالمنا الجميل. اما نحن فإذا تصفحنا كتاب سفر التكوين نرى الله كلما كان ينهي مرحلة من الخلق يضع سفر التكوين عبارة كانت تقول: ورأى الله إن ذلك حسن. ( طبعا نحن نؤمن بالمعاني فقط وليس بحرفية النص الكتابي ). فهل يا ترى يستطيع احد ان يقول، بعد ما جرى للعالم الذي نعيش فيه ان ما حدث فيه امر حسن؟
القس لوسيان جميل
1363 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع