بقلم : معتصم الصالح
الخلاص ...في ادب وولي سونيكا .
قارة افريقيا، مسرح كبير بمدى واسع عميق، تستوعب ثقافة السكان الأصليين المليئة بالأساطير والطقوس والفولكلور، فالغرض الأساسي من الطقوس الأفريقية تنقية النفس والأماكن من الشرور الحقيقية أو الرمزية، كما أنها جزء من العبادة.
يعتقد الأفريقيون أنهم قد لا يتطهرون من الأفعال الخاطئة التي فعلوها في حياتهم المعتادة حتى من خلال التفاني في العبادة Dedication وما يعبرون عنه في حبهم وتقربهم الى الآلهة، إذ إنهم يمارسون مجموعة متنوعة من الطقوس في المهرجانات مثل الاحتفال براس السنة الجديدة والاحتفال الطائفي وحفلات الزفاف ومواسم الحصاد. وتعدُّ احتفالات الطقوس الطقسية (الدينية) الأكثر لفتا وحماسا واهمية موازنة ببقية طقوسهم.
أحد اهم هذه الطقوس الدينية هي الفداء او الاضحية (Redemption)، الفداء هو أحد عناصر الأساسية والمحورية للتعبير عن الخلاص Salvation الذي هو بمعناها اللاهوتي انقاذ الانسان من الخطيئة واثارها.
ولي سونيكا1 في مسرحية" السلالة القوية" The Strong Breed “والتي تلقي الضوء على المناسك التي يصبح فيها شخص ما “حاملاً " شرور وخطايا المجتمع، فالشر يجب ان ينقح في القرية بشكل رمزي في طقوس سنوية.!
تركز هذه المسرحية على التضحية والفداء كسبيل إلى تطهير المجتمع من خلال طقوس القربان؛ الاعتقاد أن العبادة والتفان والإخلاص وحدها غير كافية لتنقية النفس والمجتمع من شروه وهكذا تصبح التضحية نقطة محورية في المسرحية.
توظف المسرحية موضوع التضحية التي يقوم بها الراغب او المتطوع المعروف بـ(بالحامل لشر المجتمع)، فهو يعلم معنى الطقوس، والخروج بإرادته لكي يقدم نفسه فداءً من اجل الأخرين.
مسرحية The Strong Breed تهتم صراحة بفكرة التطهير من وجهة التقاليد الأفريقية، فقد ساد اعتقاد مهم في أفريقيا التقليدية ان المجتمعات بالحاجة إلى التطهير الدوري من خلال طقوس التطهير العديدة، ومنها المهرجانات والاحتفالات التي تخلص المجتمع من الشوائب المتراكمة والخطايا والذنوب، فبطل الرواية اوجبه حمل كل ذنوب القرية، وحملها نيابة عنهم.
كان الأفريقيون أكثر اهتماما بمفهوم the collective good "الخير الجماعي", ويعتقدون أن التضحية الفردية ينبغي لها ان تؤدي إلى تحسين أداء وإخلاص المجتمع وتنقيته من الشرور والآثام.
لم يقتصر سونيكا على طرح مفهوم التضحية في مسرحية السلالة القوية بل وظفه أيضا في مسرحية الموت وفارس الملك، والتي تمثل الصراع الثقافي بين الجنس الأبيض والتقاليد العتيدة للأفريقيين السود.
أحد الضباط البيض في المنطقة المستعمرة يحاول منع أحد اهم هذه الطقوس، وهي انتحار فارس الملك ، إذ على فارس الملك أن يموت فارساً نبيلا مستلا سيفه (منتحرا) في غضون ثلاثين يوما بعد وفاة الملك. هذا الانتحار هو من الطقوس التي سنها قانون قوي من قوة إرادة الفرد دون حافز او تدخل خارجي.
في هذه المسرحية يؤدي ( Elesin ) اليسين دور فارس الملك. اما في مسرحية السلالة القوية فيقوم ايمان EMAN مقام المٌخلص للجتمع.
اذن يمكن ان نفهم ان ايمان واليسين كما في الطقوس الافريقية التي جاء بها ادب سونيكا هما حاملا شر المجتمع.
يشرح وولي سونيكا في مقابلة مع لويس جيتس2 ما يعينه مصطلح" الخير الجماعي" فيقول:
((انا مع الإصرار على الصالح الجماعي او الكل او المجمل برمته، فهو يشير الى الجماهير في المجتمع على النحو المعبر عنه، وليس كما يعرف على انه دعاية او آلية ما تعود للنخب او الأقلية..
ويضيف سونيكا، ان مبدا مسرحية السلالة القوية هي ان القرية في كل عام يجب عليها إزالة الخطايا والآثام المتراكمة للوصول الى الخلاص salvation.
فالوصول الى السلام التام والخلاص النهائي مستبعد، ويحل محله التجديد الدوري للخلاص من خلال نبذ الشهوات والاطماع والاكتئاب والكراهية كمن يسلخ عنه هذه الثياب البالية ليرتدي غيرها كل عام.
هذه الجلود او الثياب المدنسة بالخطيئة يقوم بحملها بعيدا الاضحية او الحامل لشر المجمع كما يطلق في ادب سونيكا .
ايمان EMAN ، بطل الرواية، جاء الى القرية كمعلم ، وفي ليلة الاحتفال بتنقية الشرور والمعصية من القرية ، ايمان يعلم ان " ايفادا " الفتى الذي تمت المصادقة على اختياره حاملاً شرور والمضحي بنفسه من اجل تنقية القرية، هو فتى احمق عاجز ! ، ايمان البطل الذي قدم نفسه ضحية لإنقاذ حياة "ايفادا " ليس الا ، وهو في الحقيقة حاول الخروج بدور الضحية الذي اصبح وراثيا ،
ايمان يتقبل ماضيه وخبراته فيه، وجل ما اكتشفه من هذه التجربة هو قوله (انا ابن والدي وبكل جدارة) لأنه أصبح من السلالات القوية التي تأخذ على عاتقها تحمل مسؤولية انقاذ المجتمع من الذنوب، من خلال تصور ايمان بطل الرواية حاملاً شرور على وفق الطقوس هذه، يستعمل سونيكا الطقوس المشتركة بين (شعب النهر) و(وشعب الساحل الغربي) في نيجيريا من خلال شخص واحد يأخذ على نفسه عبئ تخليص المجتمع، يرمز إليه من خلال كائن على شكل زورق يتم تعويمه في النهر او دفنه على شاطئ البحر. هؤلاء الأشخاص (الحاملون) للشر يصابون غالباً بأمراض غامضة ويموتون لاحقا!!
هذا التصور والموت الذي قد يلحق بالحامل للشر والخطيئة او القربان، وَلد لدى ايمان اعتباراً مهما، آمن به وبقوة هو ان المضحي يجب ان يكون كامل الاستعداد للتضحية ومؤمناً بما يقوم به.
ايمان شعر بالعار ان يقوم شخص مثل ايفادا بدور الناقل او المضحي وهو غير راغب او مقتنع بالفكرة أساسا او على دراية بما يحصل!
ان الشخص الذي يقدم نفسه على أنه "القربان والمضحي الراغب بذلك “كما هو الحال مع تضحية إيمان نجدها تضحية دينية لها نضير سامي آخر وفق المناسك كما وردت في المراجع المسيحية والافريقية التقليدية على حد سواء.
التشابه والتماثل بين الثقافة المسيحية والافريقية الذي اثاره "سونيكا" في ادبه، يمكن اعتباره التأثير التحللي والتفككي لكثير من العادات في الثقافة الافريقية مثل ادانة او تجنب كل ما هو وثني او قوى خارقة غير مألوفة او ارباب وسحرة اوطقوس شاذة.
من جهة أخرى تمثل هذه الإشارات مثل سبل الخلاص وعناصره الأساسية كالفداء والإخلاص والقربان، كلها مثلت الارتباط الوثيق بين الطقوس الدينية على اختلافها وخصوصا المسيحية.
فحتى الاحتفال المقدس العظيم، وفق الطقوس الافريقية بتقديم القربان او الفرد الحامل لشرور المجتمع نجد ما يماثله في الديانة المسيحية فسر الأفخارستيا أو القربان المقدس هو أحد الأسرار السبعة المقدسة في الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية وغيرها، ويعنى بالتذكير بالعشاء الذي تناوله يسوع بصحبة تلاميذه عشيّة آلامه، المعروف باسم العشاء الأخير.
فنجد ان البطل " إيمان "مثل المسيح، فكلاهما يعملان معلمين، ويقومان بالمداواة بين الناس لإنقاذهم من الألم والاذى والشر والكراهية، وهي من عناصر الخلاص، وحتى للذين لا يريدانه او لا يفهمانه.
المٌخلص او المُضحي عليه ان يضحي بنفسه من اجل الخلاص عن طيب خاطر، هذا الفهم كان واضحا بالنسبة إلى "إيمان" وكذلك كان للمسيح.
في النهاية يتم شنقهم على شجرة مقدسة (الصليب) كما جرت العادة على وفق الطقوس.
ايمان، عبّر عن حاجته للماء، في ذروة المواساة للمسيح، فقد صرخ (انا عطش) 3.
ايمان ليس على غرار المسيح وحده، بل هو شخصية افريقية في الشكل والمضمون ولديه صفات النماذج الافريقية الأخرى.
ان ايمان ليس القوة الأخلاقية وحدها التي تعمل على التطهير السنوي لمجتمع القرية من شرورها بل هو روح الفنانين المثقلين بهذه التضحيات الطوعية في إطار التطهير الاجتماعي وتنقية الانفس.
هذه الصورة الرائعة التي صورها لنا سونيكا من خلال شخيصة ايمان، حيث ان قوته و فدائيته مثلت الخلاص المثالي للمجتمع من آثامه.
هوامش:
1 وولي سوينكا (و. 13 يوليو 1934) كاتب وشاعر، و روائي نيجيري حائز على جائزة نوبل للأداب عام 1986. يعتبر أفضل كاتب مسرحي في أفريقيا
2 Gates,Louis. "An Interview: Wole Soyinka" Dennis Duerden & Cosmo Pieterse.ed. African Writers Talking. London :
3 حسب إنجيل يوحنا طلب يسوع قد أن يشرب، فلما ذاق الخل قال قد أكمل وذلك إتمامًا لنبؤه أخرى من المزمور الثاني والعشرين)) في عطشي يسقونني خلاً ((. وعند ذلك: نكس رأسه وأسلم الروح.
871 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع