عدنان الظاهر
تشرين الثاني 2018
عجائب وغرائب
( مع الطِبري * / الجزء الثاني )
إستخلاف عمر بن الخطّاب
إستهواني موضوع فتح بلاد الشام والعراق ، ولأنَّ هذا الموضوع شائك ومعقّد ومتشعب ، فقد عزمتُ أنْ أركّز على فتح العراق ( وأنا عراقي ) في زمن خلافة عمر بن الخطاب وقد أوصى أبو بكر بخلافته بعده على المسلمين قبيل وفاته في المدينة في عام 13 للهجرة.
أنقل الطريقة التي أوصى بها أبو بكر أنْ يكون عمرٌ خليفةً بعده ففيها طرافة وحَنَكة وسياسة وبُعد نظر والقليل من مبدأ الشورى القائل " أمركم بينكم شورى " فلقد استشار على انفراد بعض كبار الصحابة وذوي الشأن وبعض المقربين للرسول محمد منهم ( الطبري الجزء الثاني الصفحة 591 ) :
أولاًـ عبد الرحمن بن عوف / دعا ، أي أبو بكر ، عبد الرحمن بن عوف فقال : أخبرني عن عمر ؟ فقال يا خليفة رسول الله، هو واللهِ أفضل من رأيك فيه من رجل ولكنْ فيه غِلظة، فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه، ويا أبا محمد، قد رمقته فرأيتني إذا غضبتُ على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه، وإذا لِنتُ له أراني الشدّةَ عليه لا تذكر يا ابا محمد مما قلتُ لك شيئاً. قال نعم .. أي دَعْ هذا الأمر بيني وبينك أي دعْ هذا الحوار سرّاً بيني وبينك .. وسيكرر هذا الطلب مع بقية مَن كان قد استشار كما سنرى. في مواقف أبي بكر هذه الكثير من الطرافة والثقافة وبُعد النظرفلقد عزا غِلظة طبع عمر لرقّة طبعه ( لأنه يراني رقيقاً ) . فعمر حريص على إحقاق الحق وتطبيق شرائع دين الإسلام وسد الفجوات لا يتهاون إذا ما تساهل وجامل وتهاون خليفة المسلمين لأسباب يراها وقد تستلزمها مقتضيات السياسة والتوازنات القبلية وتعقيدات ظروف الفتوحات الجديدة في الشام والعراق ولا يقتنع بها عمر فلا سياسة في الدين . أحدهما يُكمّل الآخر. غلظة عمر من رقّة أبي بكر. أما لماذا تشاور أبو بكر مع هذا الرهط من كبار المسلمين كلاًّ على انفراد فتلك مسألة غامضة تشوبها أكثر من شائبة ثم إنها خروج على مبدأ الشورى وتأسيس لهذا الخروج مارسه معاوية فيما إذْ تمرد وانشق على خليفة المسلمين الذي تمت له البيعة في المدينة وتلك كارثة أخرى لا مجال للخوض فيها في هذا المبحث. وضع أبو بكر قاعدة وأساسا وسابقة للخروج على مبدأ الجماعة وعلى نص صريح موجود في قرآن المسلمين ( أمركم شورى ). مبدأ التشاور والتباحث على انفراد معروف اليوم ومعمول به في عالم الدبلوماسيّة لكنْ له مستوجباته وظروفه وشروطه ويتم بين رؤساء الدول وهم أنداد نظريّاً وليس بين حاكم ( خليفة ) وأحد رعاياه.
ثانياًـ عثمان بن عفّان / ثم دعا عثمان بن عفّان ، قال : يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر ؟ قال أنتَ أخبر به، فقال أبو بكر : عليَّ ذاكَ يا أبا عبد الله، قال : اللهمَّ علمي به أنَّ سريرته خيرٌ من علانيته وأنْ ليس فينا مثله، قال أبو بكر رحمه الله، رحمك اللهُ يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرتُ لك شيئاً، قال أفعلُ. ثم يأتي كلام خطير لأبي بكر فيه الكثير من الغرابة والتناقض في خياراته فهو يرشّح للخلافة عُمراً لكنه يفضل عثمان عليه فلنستمع إلى ما قال أبو بكر خلال مقابلته لعثمان :
فقال أبو بكر : لو تركته ما عدوتك [ أي إذا ماصرفت نظري عن ترشيحه، عمر، للخلافة بعدي لكنتَ أنت الخليفة بعدي ! ] لنواصل الإستماع لما قال أبو بكر : وما أدري لعله تاركه، والخيرةُ له ألاّ يلي من أموركم شيئاً. نفهم من هذا الكلام أنَّ أبا بكر كان في شك من أمرعمر أيقبل أنْ يكونَ بعده خليفة على المسلمين أم لا ؟
خالف أبو بكر نفسه أو طابقها إذ أعلن على رؤوس الإشهاد تولية عمر خليفة بعده إذْ قال قبيل وفاته بفترة قصيرة جداً :
..... قال : أشرف أبو بكر على الناس من كنيفه وأسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين، وهو يقول : أترضونَ بمن أستخلفَ عليكم ! فإني واللهِ ما ألوتُ من جهدِ الرأي ولا وليّتُ ذا قرابة ، وإني قد استخلفتُ عمر بن الخطّاب فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا : سمعنا وأطعنا.
ردَّ أبو بكر الجميل الذي أسداه عمر بن الخطّاب له في ترشيحه خليفة بعد محمد على المسلمين. من حق متابع هذه الحوادث أنْ يسأل : لماذا أهمل أبو بكر بقيّة كبار الصحابة ومن أوائل المسلمين من بين المهاجرين والأنصار من أمثال العباس عم النبي وطلحة والزبير وعلي بن أبي طالب وغيرهم من كبار القوم .. لم يطلبهم ولم يستشرهم في أمر مّنْ يستحق الخلافة بعده ؟ هل اختلى وتشاور مع بعضهم لكنَّ المؤرخين أهملوا ذِكر ذلك ولِمَ أهملوه ؟ في ما يلي قد نجد الجواب والحجّة ولو أنها ليست موضوعية بل إنها غارقة في الخصوصية والذاتيّة . نقرأ في الصفحة 591 ما يلي :
( .... حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال ....... عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكرالصدّيق رضي اللهُ تعالى عنه في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتماً فقال له عبد الرحمن : أصبحتَ والحمد لله بارئاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أتراه ! قال نعم، قال : إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورمَ أنفه من ذلك يريد أنْ يكونَ الأمرُ له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وتألموا الإضطجاع على الصوف الأذري كما يألمُ أحدكم أنْ ينامَ على حسك ... ). هذا كلام يستحق الوقوف عنده طويلاً وبالكثير من جديّة التفكير والإستنتاج:
ـ " وليتُ أمركم خيركم في نفسي " .... فعمر بن الخطاب هو أفضل الباقين بالنسبة لأبي بكر. فهل كان هذا الرأي والإختيارهما موضع إجماع كبار وأوائل المسلمين ؟ بالتأكيد لا !
لا يصلح هذا الموقف مقياساً لتولية أمور الخلافة لرجل لم يحصل عليه إجماع كبار الأمّة. إنه مقياس مُفرط بالذاتية وبعيد عن مبدأ الشورى الذي نصَّ القرآن عليه.
ـ لكنْ ثَمَةَ أمراً آخرَ جديراً بالإهتمام وهو نفور أبي بكر من مظاهر الترف والنعيم الجديدين اللذين طرآ حديثاً نتيجة لفتح حاملي الدين الجديد لكل من البلدين الغنيين شام الروم وعراق الفرس وما وصل المدينة من أموال الخُمس، وهي لا ريبَ كثيرة، فضلاً عمّا أصاب قادة وجُند المسلمين من مال وسلاح وكراع ومتاع وأسلاب وأنفال وسبايا من نساء وأطفال لذا قال أبو بكر وهو يُحتضرُ" ... تتخذون ستور الحرير ونضائد الديباج ". قال هذا الكلام وهو يعرف موقف القرآن من الترف والمترفين ( قالتْ إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّةَ أهلها أذلّةً وكذلك يفعلون / سورة النمل الآية 33. ثم : وإذا أردنا أنْ نُهلكَ قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمرّناها تدميرا / سورة الإسراء، الآية 15. ثُمَّ : وكذلكَ ما أرسلنا من قَبِلكَ في قريةٍ من نذيرٍ إلاّ قالَ مُترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارهم مُقتدون / سورة الزُخرف، الآية 22 ). أتذكّر أيام الدراسة الإبتدائية أنّنا التلاميذ الصغار كنا إذْ ندخل الصفوف المدرسية نرى مُلصقاً كبيراً على الجدار مكتوباً فيه بحروف كبيرة [ إخشوشنوا فإنَّ الترفَ يُزيلُ النِعَم .... حديث شريف ]. ولكن هل كان ممكناً تجنب ذلك الذي حصل ؟ هل يُحرم المقاتل من حقه في الإستيلاء على أسلاب عدوّه الذي قتلَ في المعركة : حصان العدو ودرعه وأسلحته السيف والرمح والقوس والنشّاب ثم أساور الذهب التي كان فرسان الفرس يتحلون بها ؟ هذه كانت أعراف وقواعد القتال من أجل نشرالإسلام بين باقي الشعوب الوثنية أو المُشرِكة والكُفّار أو أهل الكتاب، اليهود والنصارى والمجوس والصابئة. أفلمْ ينتصر نهج ترف معاوية بن أبي سفيان على نهج عليٍّ بن أبي طالب التقشقي فانتصرت الدنيا وزخرفها وذهبها وأموالها ومباهجها على الدين العادل والمتقشف ؟ أفلمْ تتعثرْ ثمَّ تخفقْ في التطبيق، ولو بعد سبعين عاماً، فلسفة البلدان الإشتراكيّة التقشفية الساعية للعدالة والكفاية الإجتماعيتين أمام غول الرأسمالية المترفة حدَّ التخمة في أغلب أطوارها ؟
من خلال متابعتي لمواقف أبي بكر من فتوحات الشام والعراق عرفت أنه رجلٌ مفكر حصيف وقائد عسكري فذ يوجّه قادة الفتوحات المعروفين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقّاص وأبا عبيدة بن الجرّاح وغيرهم ... يوجههم ويرشدهم ويأمرهم وهو هناك في المدينة بعيد عنهم وهم في بلاد الشام والعراق كأنه على علم بطبائع وجغرافية هذين الصقعين وسكّانهما الأصليين من عرب أو روم أو فُرس. لقد وجدتُ عُمراً ينهج مثل هذا النهج بالنسبة لغزو ( فتح ) العراق وسأتناول هذا الأمر لاحقاً.
فتح العراق / عام 13 الهجري
وِفْقَ أية معايير ومقاييس اختار عمر بن الخطّاب قادة جيوش فاتحي بلاد فارس ؟ نقرأ مقتطفات مما جاء في الصفحة 597 من كتاب الطبري :
( كتب إليَّ السري بن يحيى عن شُعيب .. عن .. عن .. قالوا : أول ما عمل به عُمرٌ أنْ ندبَ الناسَ مع المُثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضيَ اللهُ عنه .... وتكلم المثنى بن حارثة فقال : يا أيها الناسن لا يعظُمَنَّ عليكم هذا الوجه فإنا قد تبحبحنا ريفَ فارس وغلبناهم على خير شقّي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم واجترأ مّنْ قبلنا عليهم ولها إنْ شاءَ اللهُ ما بعدها، وقام عمرٌ رحمه الله في الناس فقال : إنَّ الحجاز ليس لكم بدار إلاّ على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلاّ بذلك اين الطراء المهاجرون عن موعود الله سيروا في الأرض التي وعدكم اللهُ في الكتاب أنْ يورثكموها فإنه قال " ليُظهرَه على الدين كلّه / سورة التوبة، 33 " واللهُ مُظهرٌ دينه ومعزٌ ناصره ومولي أهله مواريث الأمم أين عبادُ اللهِ الصالحون فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود ثم ثنّى سعد بن عبيد أو سليط بن قيس، فلما اجتمع ذلك البعث قيل لعمر أمّرْ عليهم رجلاً من السابقين من المهاجرين والأنصار قال : لا واللهِ لا أفعل، إنَّ اللهَ إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو فإذا جَبتُم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم مّنْ سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدُعاء واللهِ لا أؤمّرُ عليهم إلاّ أوّلهم إنتداباً ثم دعا أبا عُبيد وسليطاً وسعداً فقال : أما لو إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من القِدْمة فأمّرَ أبا عبيد على الجيش وقال لأبي عُبيد : إسمعْ من أصحاب النبي وأشركهمْ في الأمر ولا تجتهدْ مُسرعاً حتى تتبين فإنها الحربُ والحربُ لا يُصلحها إلاّ الرجل المكيث الذي يعرف الفُرصة والكف .... قال عمر رضي الله عنه لأبي عُبيد : إنه لم يمنعني أنْ أؤمّر سليطاً إلاّ سرعته إلى الحرب وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلاّ عن بيان، واللهِ لولا سرعته لأمّرته ولكنَّ الحربَ لا يُصلحها إلاّ المكيث ).
ملاحظات واستنتاجات كثيرة
1ـ ما مواصفات الرجال الذين اختارهم الخليفة عمر قادةً على جيوش الفاتحين المسلمين ؟
ذاك الذي بادر وتطوع ورشّح نفسه قبل غيره من بين باقي وجوه قبائل العرب شرطَ أنْ يكون من قدماء وأوائل المسلمين ( فأولى بالرياسة منكم مَنْ سبقَ إلى الدفع وأجابَ إلى الدعاء .... فأمَّرَ أبا عُبيد على الجيش ... وقال لأبي عُبيد : إسمعْ من أصحاب النبي وأشركهمْ في الأمر ولا تجتهدْ مُسرعاً حتى تتبين فإنها الحربُ والحربُ لا يُصلحها إلاّ الرجل المكيث الذي يعرف الفُرصة والكف ) . كلام بليغ قوي يدل على عبقرية رجل خبر الحرب وتمرّس في شؤونها فطلب ممن رشّحَ للقيادة أنْ يستشير أصحاب النبي أي أنْ لا يستبد بأمره ويتفرّد في إتخاذ القرارات. وأنْ يتجنب السرعة ففي السرعة تهوّر ولا يصلح للحرب إلاّ الرجل الواثق المتمكن الذي يعرف كيف يتحين الفُرص وأية مناسبة وأي ظرف يختار لبدء الحرب ومقاتلة العدو.
هل كان أبو عبيد هذا معدوداً أحد فرسان العرب ومتدرباً على حمل السلاح والضرب والطعن وتوجيه وقيادة خيول الحرب وهل سبق وأنْ قاد جيشاً للفتح وحقق الإنتصارات المطلوبة ؟ أين القائد الشهير أبو عبيدة بن الجرّاح وسعد بن أبي وقّاص أشهر من قاد الفتوحات في العراق ؟ سنرى متى يأتي دورهما.
2ـ غزا ( فتحَ ) العربُ المسلمون العراقَ وقبله بلاد الشام بأمر من الله لنشر الدين الجديد الإسلام " ليُظهرهُ على الدين كله / سورة التوبة " ... وباللهِ والإسلام سيطروا على أراضي الأقوام الأخرى صاحبة الأرض " سيروا في الأرض التي وعدكم اللهُ في الكتاب أنْ يورثكموها فإنه قال " ليُظهره على الدين كله ... ومولي أهله مواريث الأمم ". الله إذاً يهب الفاتحين أرضَ وأموالَ وإرثَ الأمم الأخرى، الفرس بالنسبة للعراق وبقيّة ساكنيه من نصارى ووثنيين وكَفَرة ومُشركين. لكنَّ المسلمين لم يفعلوا ذلك حرفياً إنما قدّموا لهذه الأمم ثلاثة خيارات : إعتناق الإسلام ليكونوا كالمسلمين سواسية لهم ما لهؤلاء وعليهم ما عليهم. دفع الجزية والبقاء على دياناتهم وضمان أمنهم والإحتفاظ بأراضيهم وما يملكون أو الحرب والتدميروالحرق والأسر والسلب والنهب واسترقاق النساء والصبيان والأطفال وتقسيم الغنائم على المقاتلين والقادة بعد إرسال خمس ما غنموا لبيت المال في المدينة على قاعدة " واعلموا أنمّا غنِمتم من شئ فإنَّ لله خُمسَهُ وللرسولِ ولذوي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيلِ .... / سورة الأنفال، الآية 40 " وقبلها في نفس السورة " يسألونك عن الأنفالِ قلْ الأنفالُ للهِ والرسولِ فاتقوا اللهَ .... الآية رقم 1 ".
إخترع اليهود شخصية قرقوزيّة كاريكاتوريّة سموها أبرام ـ إبراهيم بن تارح أو آزر ـ فصنع هذا له ربّاً أطلق عليه اسم يهوة .... كافأه ربّهُ هذا ورد له الجميل بأن وهب له أرض كنعان وقال له الأرض التي تطأها قدماك هي ملك لك ولبنيك من بعدكَ فساح وطوّف في بلدان الشرق الأوسط ليختار أفضل ما فيها وأكثرها خصوبة وماءً وفاكهة وطيب مناخ : العراق وبلاد الشام، فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، وحرّان ثم مصر!
نقرأ في التوراة / سِفْر تكوين ( واجتازَ أبرامُ في الأرض إلى مكان شكيمَ إلى بلّوطةِ مُورة. وكان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض. وظهرَ الربُّ لإبرامَ وقال لنسلكَ أُعطي هذه الأرض / الصفحة 19 ). ثمَّ ( وقالَ الربُّ لإبرامَ بعدَ اعتزالِ لُوطٍ عنهُ. إرفعْ عينيكَ وانظرْ من الموضع الذي أنت فيهِ شَمالاً وجَنوباً وشرقاً وغرباً. لأنَّ جميعَ الأرضِ التي أنتَ ترى لك أُعطيها ولنسلكَ إلى الأبد / التوراة / تكوين، الصفحة 20 ). صفقة ممتازة بين خُرافة وخُرافة أخرى صنعتها خُرافة أي .... عصفور كَفَلَ زرزور وإثنينهم طيّارة .. كما نقول في العراق. لماذا اختار القصّاصون اليهودُ العراقَ مكاناً لمولد دُميتهم القرقوزيّة وأسموه
[ أور الكلدانيين ] ؟ كانت أور أرضاً سومرية عراقية وكانت بابل كلدانية زمن الملك نبوخذّنصّر قاهر أورشليم وسابي قاطنيها.
الأمر في حالتنا مختلف جوهرياً لأنَّ إله المسلمين الجديد ( الله ) أمرهم أن ينشروا الدين الجديد بين الأمم بالجهاد بالأموال والأنفس وإعداد القوة ـ قَدْر المستطاع ـ ورباط الخيل ( وأعِدّوا لهمْ ما استطعتمْ من قوّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرهبونَ به عدّوَ اللهِ وعدوّكم وآخرين من دونهمْ لا تعلمونهم اللهُ يعلمهم .... / سورة الأنفال، الآية59 ) والغزو وأنْ يفتتحوا ويغنموا لإثراء بيت ماله في المدينة أي أنه لم يهبْ هِبة لسان وقول مصنوع أرضاً أو مالاً أو سبايا وحريماً إنما ربط هذا الأمر بحرب الفتوحات. الحرب !
3ـ ونقرأ في الصفحتين 597 و 598 أمر الخليفة عمر لمبعوثه على اليمن يعلى بن أُميّة وفيه أمور طريفة قد لا يعرفها الكثيرون فيها إنصاف ومرونة وأبعاد إنسانية ما كانت معروفة في ذلكم الزمان . نقرأ :
( .... كتبَ إليَّ السري بن يحيى عن شُعيب بن إبراهيم عن ...... عن سالم قال : كان أول بعثه بعثه عمر بعث أبي عُبيد، ثم بعث يعلى بن أُميّة إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران لوصيّة رسول الله في مرضه بذلك ولوصية أبي بكرٍ رحمه الله بذلك في مرضه وقال : إئتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أُجلهم مَنْ أقام منهم على دينه وأقررْ المسلم وامسحْ أرضَ كلِّ مَنْ تُجلي منهم ثمَّ خيّرهمْ البلدان وأعلمهمْ أنّا نُجليهم بأمر اللهِ ورسوله أَلاَ يُترك بجزيرة العرب دينان فليخرجوا مَنْ أقام على دينه منهم ثم نُعطيهم أرضاً كأرضهم إقراراً لهم بالحق على أنفسنا ووفاءً بذمّتهم فيما أمر الله بذلك بَدَلاً بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف ).
مَنْ كان أهل نجران يومذاك، هُوداً أم نصارى أم كانوا عَبَدة أصنام أو كواكبَ ونجومٍ كأهل سبأ القدامى زمن الملكة بلقيس ؟ ولماذا هذا التركيز على أهل نجران دون سواهم من باقي أهل ومناطق اليمن ؟ كان ذلك أمر الرسول والخليفة أبي بكر بعده وما كانا زارا تلك الأصقاع فمن أين جاءهم العلم بأوضاع نجران وأهلها ودين أهلها فما كانت خصائصها وما كانت أخص خصوصيتها ؟ أفلم يكن في جزيرة العرب نفسها وفي زمن الرسول وقبله .. أما كان في الجزيرة يهود ونصارى وأحناف ومجوس وربما ملل وأديان أخرى فلماذا التركيز على أهل نجران ؟ قد نعلم أنَّ الرسول أجلى يهود خيبر لأسباب ذكرها المؤرّخون منها خيانتهم للمواثيق والعهود ونصرتهم لأعداء الإسلام من مشركي قريش فهل فعل أهل نجران مثل ذلك ؟ لم يأمر عمرٌ مبعوثه إلى اليمن يعلى بن أُميّة بقتل مَنْ يبقى على دينه بل أمره بإجلائهم إلى حيث يشاؤون ويختارون من الأراضي والبلدان ومنحهم ( أراضاً كأرضهم ) وفي هذا عدل ونُصفة ما بعدها من نُصفة. غرائب أخرى في هذا الأمر منها أنَّ عمراً لم يأمر مبعوثه لليمن أنْ يعرض الخيارات الثلاثة المعروفة لأهل البلدان المفتوحة وهي : الإسلام أو دفع الجزية لمن يحتفظ بدينه أو القتال. الإجلاّء ! لم يحصل مثل هذا فيما قرأت عن فتوحات بلاد الشام فلماذا شذَّ أو خالف الخليفة عمر ؟ قاتل المسلمون الفاتحون في بلاد الشام الرومَ ومن حالفهم من نصارى القبائل العربية الذين رفضوا الإسلامَ ديناً ... قاتلوهم ولم يجلوهم إلاّ مَنْ أسلم منهم.
4ـ إدارة القتال
اللافت للنظر أنَّ الخليفة عمر ـ وقبله أبو بكر ـ كان وهو في المدينة يوجّه قادة جيوش الفتح في العراق بأوامر مكتوبة فيها حَنَكة سياسية وعسكرية وفيها علم دقيق بجغرافية الأراضي التي تجري المعارك عليها فيذكر المياه والأنهار والبطاح وأجمات القصب والبردي فهل كان يستعين في ذلك بخبرة مستشارين أكفاء من كبار عارفي طبيعة أرض وأهل العراق؟ أكيد، فعمر لم يزرْ العراق فمن أين يأتيه العلم به ؟ اللافت كذلك سرعة وصول البريد حاملاً أوامر وتوجيهات عمر قاطعاً مسافاتٍ شاسعة من المدينة حتى وسط العراق ... القادسية والحيرة والكوفة والنجف وساباط المدائن حتى البصرة والأبلّة وبالعكس ... وصول رسائل القادة في العراق إلى الخليفة عمر في المدينة من جزيرة العرب. هنا أسأل : ما كانت وسائط نقل البريد السريع هذه ، أكانت الخيول والخيول لا تصلح لأسفار الصحارى أم كانت الأبل المدرّبة على الخبِّ السريع من النوع المُهجّن والمُعدّ خصيصاً لهذا الغرض؟ ثمَّ .... ما كان عدد الإستراحات بين القادسية والمدينة حيثُ يقيم رجال البريد للتزوّد بالماء والطعام وربما تغيير الخيول أوالأبل وأين كانت أماكنها سواء في العراق أو في الجزيرة وما كانت المسافة بين إستراحة والأخرى؟ هل كان يرافق قوافلَ البريد رجالٌ مسلحون وكم كان عددهم في كل رحلة وكم كان عددهم في كل مرحلة؟ الطريف إني انتبهتُ لإسماء بعض رجال البريد منهم " أبو الهياج الأسدي " و " القاسم .. أي قاسم ؟ " و " أنس بن الحُليس " وآخر ورد اسمه مُكرراً لأكثر من مرة ما يعني أنَّ هناك معايير ومقاييس خاصة يجب توافرها فيمن يُكلّف بمهمات نقل البريد بل وحتى تمتع هؤلاء بمزايا وهبات وأُعطيات إضافية خاصة مقابل إنجاز مهمات نقل البريد. أنقل نَصَّ واحدٍ من كتب عمربن الخطاب موجّهٍ لقادته في العراق ( الطبري، الصفحة 610 ) :
( ... حتى جاءهم كتابُ عُمر / أما بعد، فاخرجوا من بين ظهري الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم ولا تدعوا في ربيعةَ أحداً ولا مُضرَ ولا حلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلاّ اجتلبتموه فإنْ جاء طائعاً، وإلاّ حشرتموه احملوا العربَ على الجِد إذْ جدَّ العجمُ فلتلقوا جَدّهم بجَدّكمْ ) فنزلَ المُثنى بذي قار ونزل الناسُ بالجل وشَرَاف إلى غضيّ وغضيّ حيال البصرة فكان جرير بن عبد الله بغضي وسبرة بن عمرو والعنبري ومن أخذ أخذهم فيمن معه إلى سلمان فكانوا في أمواه الطف من أولّها إلى آخرها مسالح بعضهم ينظر إلى بعضٍ ويُغيثُ بعضُهم بعضاً إنْ كان كون، وذلك في ذي القِعدة سنة ثلاث عشرة ).
4ـ مَنْ كان سكّان العراق حينذاك ؟
الوضع ملتبس ولفهمه أو التكهن الدقيق في أمره لا يخلو من مجازفة يأباها التأريخ والمؤرّخون. فهمتٌ مما قرأت في الطبري حول هذه السنة " 13 هجرية " أنْ كان في العراق يومذاك من جنوبه حتى تكريت شمالاً وجلولاء والنهروان في شرق وسطه أربعة فئات من السكّان هم :
ـ الفرس بين مقاتل ومالك أرض وتاجر
ـ العلوج وأمر هؤلاء ملتبس ولكن بالكاد أستطيع القول إنهم كانوا عرباً من أهل الكتاب نصارى فقط ( لا ذِكر لليهود ) وكانت أوضاعهم صعبة ومعقّدة فكانوا بين مُقيم في أرضه راضياً بالإسلام ديناً أو مقيماً على دينه مقابل دفع الجزية .. أو نازح هرباً من مقدم المسلمين لكنهم لم يقاتلوا المسلمين ولم ينصروا الفرس عليهم... وفئة ثالثة منهم قاتلت المسلمين مع قوات فارس. إرتبط ذكر العلوج بأرض السواد من العراق. وخلال تتبعي الدقيق لمجريات وقائع الحرب إستنتجـت أنَّ المقصودَ بالسواد هي الأرض الواقعة في وسط العراق المحصورة بين نهري دجلة والفرات من أعلى بغداد حتى البصرة وهي أراضٍ زراعية خُصبة كثيرة المياه والأنهار لذا عُرف أهل السواد بأنهم أقوام تمتهن الزراعة. العلوج إذاً هم أهل السواد. هل كان فيهم صابئة مندائيون ؟ محتمل، فهؤلاء مزارعون ممتازون ولا حياة لهم بدون الماء الجاري ثم إنهم صُنّاع قوارب وزوارق وسفن نهرية وآلات الزراعة من محاريث وفؤوس ومناجل وسكاكين بل وحتى صناعة آلات الحرب كالسيوف والمناجيق والقسي والنبل والنشَاب. لا ذِكرَ للمُشركين واليهود بين هذه الفئة من علوج السواد في العراق. بلى، كانت هناك قبائل عربية غير قليلة من عَبَدة الأصنام قاتلتهم جيوش الفتح الإسلامي أشدَّ قتال. كان الفُرسُ مجوساً يتعبدون في بيوت خاصة يسمونها بيوت النار. يذكر الطبري فئة أخرى من بين قاطني أراضي العراق يسميهم " فلاحين " !
من كان هؤلاء الفلاحون وما كانت ديانتهم ولمن كانوا يفلحون ويزرعون الأرض وما كانوا يزرعون ولمن كانوا يبيعون محاصيلهم وبأية عملة؟ كانوا مسالمين محايدين بين الفرس والعرب القادمين من الجزيرة وما كانوا مقاتلين ولا رجال حرب وأحسب أنهم تماماً كحال مزارعي العراق العرب من فلاحي القُرى والأرياف وفي البصرة لهم نعت خاص شهير " الحساوية ".
ـ الخليفة عمر وأهل السواد / الطبري 650 و 651
( ... وكتبوا إلى عمر مع أنس بن الحُليس إنَّ أقواماً من أهل السواد ادعوا عهوداً ولم يقمْ على عهد أهل الأيام لنا ولم يفِ به أحدٌ علمناه إلاّ أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الآخرة، وادعى أهلُ السواد أنَّ فارسَ أكرهوهم وحشروهم فلم يخالفوا إلينا ولم يذهبوا في الأرض، وكُتب مع أبي الهياج يعني ابن مالك أنَّ أهلَ السواد جلوا فجاءنا مّنْ أمسك بعهده ولم يجلب علينا فتممنا لهم ما كان بين المسلمين قبلنا وبينهم وزعموا أنَّ أهل السواد قد لحقوا بالمدائن فأحدث إلينا فيمن تمَّ وفيمن جلا وفيمن ادعى أنه أُستكره وحُشرَ فهربَ ولم يقاتل أو استسلمَ فإنّا بأرض رغيبة والأرض خلاء من أهلها وعددنا قليل وقد كَثُر أهلُ صلحنا وإنَّ أعمر لنا وأوهن لعدونا تآلفهم فقام عمر في الناس فقال .... ). وكتب في جواب كتاب أنس بن الحليس : أما بعد، فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا أنزل في كل شئ رُخصة في بعض الحالات إلاّ في أمرين العدل في السيرة والذكر ..... فمن تمَّ على عهده من أهل السواد ولمْ يعنْ عليكم بشئ فلهم الذمّة وعليهم الجزية، وأما مَنْ ادعى أنه أُستكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلاّ أنْ تشاؤوا، وإنْ لم تشاؤوا فانبذوا لهم وأبلغوهم مأمنهم وأجابهم في كتاب أبي الهياج : أمّا مّنْ أقامَ ولم يجلُ وليس له عهد فلهم ما لأهل العهد بمقامهم لكم وكفّهم عنكم إجابةً وكذلك الفلاحون إذا فعلوا ذلك، وكل من ادعى ذلك فصدق فلهم الذمة وإنْ كذبوا نبذ إليهم، وأما مَنْ أعانَ وجلا فذلك أمرٌ جعله الله لكم فإنْ شئتم فادعوهم إلى أنْ يُقيموا لكم في أرضهم ولهم الذمة وعليهم الجزية، وإنْ كرهوا ذلك فاقسموا ما أفاءَ اللهُ عليكم منهم, فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى عن السواد أنْ يتراجعوا ولهم الذمة وعليهم الجزية فتراجعوا وصاروا ذمة كمن تمَّ ولزم عهده إلاّ أنَّ خراجهم أثقل فأنزلوا من ادّعى الإستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم وأنزلوا مَن أقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحين ).
ما كانت خصوصيات أهل السواد حتى يُكرس لهم خليفة المسلمين وقادة فتوحاته هذا القدر من التشريعات والأحكام ومن كانوا هم أهل السواد ؟ كانوا عرباً لا ريبَ ولكن ما كانت دياناتهم ؟ أكانوا وثنيين ... يهوداً ... نصارى ... مندائيين أو عرباً مجوساً ومن أية قبائل كانوا ؟ معلوم أنَّ أهل الحيرة كانوا نصارى من العِباد من سلالات امرئ القيس والنعمان بن المنذر بن ماء السماء والقادمين من اليمن من ملوك حمير وزبيد وطئ ولكن ما شأن باقي أهل السواد وخاصة العلوج منهم والفلاحون ؟ ما زال بعض العراقيين يتلقبون بالعبادي منهم رئيس الوزراء السابق وقبله أمراء الحيرة وأكثرهم شهرة نائب برلمان العهد الملكي المرحوم أركان العبادي وتكليف آل فرعون العبادي ( والد الصديق المحامي الأستاذ عاد تكايف آل فرعون ).
في الطبري في الصفحة 622 محاورة طريفة جداً بين قائد الفرس " رستم " وأحد قاطني مدينة الحيرة إسمه " إبن بقيلة " ترسم لنا الأوضاع العقيدية والسياسية والإجتماعيّة التي كانت سائدة هناك في خضم الصراع المميت بين جيوش المسلمين الفاتحين وجيوش الفرس المهيمنة على أغلب أرض العراق :
( ... كتبَ إليَّ السري عن شُعيب عن ..... قالا : دعا رستم أهل الحيرة وسُرادقهُ إلى جانب الدير فقال : يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عيوناً لهم علينا وقوّيتموهم بالأموال فاتقوه بإبن بقيلة وقالوا له كنْ أنت الذي تكلمه فتقدّمَ فقال : أما أنت وقولك إنّا فرحنا بمجيئهم فماذا فعلوا؟ وبأيّ ذلك من أمورهم نفرح؟ إنهم ليزعمون أنّا عبيد لهم وما هم على ديننا وإنهم ليشهدون علينا أنّا من أهل النار، وأما قولُك إنّا كنّا عيوناً لهم فما الذي يحوجهم إلى أنْ نكونَ عيوناً لهم وقد هربَ أصحابكم منهم وخلوا لهم القرى فليس يمنعهم أحدٌ من وجهٍ أرادوه إنْ شاؤوا أخذوا يميناً أو شمالاً ، وأما قولك إنّا قوّيناهم بالأموال فإنّا صانعناهم بالأموال عن أنفسنا، وإذْ لم تمنعونا مخافةَ أنْ نُسبى وأنْ نُحرب وتُقتل مقاتلتنا وقد عجز منهم من لقيهم منكم فكنا نحن أعجز ولَعَمري لأنتم أحبُّ إلينا منهم وأحسن عندنا بلاءً فامنعونا منهم لِنكُنْ لكم أعواناً فإنما نحن بمنزلة علوج السواد عبيد مَنْ غلبَ ، قال رستم : صدقكم الرجلُ ).
يا سلام ! " فإنما نحن بمنزلة علوج السواد عبيد مّنْ غلبَ " . هل هناك أبلغ وأدق من هذا الكلام ؟ " عبيدُ مّنْ غلبَ ". جمع هذا الرجل ثلاثة أمور معاً هي : العلوج والسواد والعبودية. ليس لديَّ الكثير من مصادر التأريخ الإسلامي التي اختصت بالبحث في هذه الحُقبة التأريخية من فتوحات المسلمين لأرض العراق لذا أظل عاجزاً أو شِبه عاجزعن فهم هذه الثلاثية الفهم الدقيق الذي يُجيز لي البت القطعي وتقرير أمرٍ لا يأتيه شكٌّ أو بهتان ... فهل مِن مُساعد ومعين؟ أين أصدقائي المؤرّخون الدكتور سيّار كوكب الجميل وفاروق صالح العُمر ومحمد حسين الزبيدي والمرحوم عبد العزيز الدوري وأين صاحب كتاب الخراج الشهير ؟ لا بُدَّ أنهم أو أحدهم قد طرق هذا الموضوع وخاض فيه بما فيه الكفاية.
سواد العراق ــــ العبيد ــــ علوج السواد . وأضيف مسألة أخرى : الفلاحون ! هل كانوا عبيداً لأحدٍ ومّنْ كان مُستعبدوهم، أو كانوا مُجرّد علوج أو كانوا ببساطة من أهل سواد العراق ؟ قلت في موضع آخر من هذا المبحث ومن باب التكهن لا اليقين أنَّ علوج سواد العراق هم من أهل الكتاب وبالأخص النصارى إذْ لا من ذكر لليهود ، كما أنَّ المسامين الأوائل ما كانوا يعتبرون المجوس ( والبوذيين ) من أهل كتاب... بل عبدة النار.
أكرر أسفي واعتذاري أنْ ليس في حوزتي مصادر كثيرة كافية للبت في الكثير من الأمور التي ما زالت غامضة تعتورها الشكوك وأعجب كيف لم يولها الباحثون المُحدثون ما يكفي من إهتمام وعناية خدمة للتأريخ وللبحث ولطلبة أبحاث الدراسات العليا.
5ـ متفرقات
ـ تزوج قائد جيوش فتح العراق سعد بن أبي وقّاص أرملة واحد من مشاهير تابعيه من القادة هو مثنى بن حارثة الشيباني ! توفي مثنى إثر جراح أصابته في إحدى المعارك. عرب وين طنبورة وين ؟ الجيوش تقاتل في الليل والنهار في الماء وعلى اليابسة و " رئيس أركان الجيوش والقائد العام للقوات المسلحة " مشغول ومهموم بمسائل الزواج. كان سعد بن أبي وقّاص مريضاً يشكو من آلام في عموده الفقري لذا لازم وضع الإنبطاح والإنكفاء على وجهه ومع ذلك كان يشرف على سير المعارك من على شُرفة في قصره ويبعث بالتوجيهات والأوامر. ما أروعك يا سعد قائداً شجاعاً فذّاً ومزواجاً. ( .. وكان سعد بومئذٍ لا يستطيعُ أنْ يركب ولا يجلس به حبون فإنما هو على وجهه في صدره وسادة هو مُكبٌّ عليها مُشرفٌ على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمرهُ ونهيه إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه .. / الطبري، الصفحة 630 ) ثُمَّ ( وكان سعد قد تزوّج سلمى بنت خصفة امرأة المثنى بن حارثة .... وكان لا يُطيق جلسة إلاّ مُستوفزاً أو على بطنه / الطبري، الصفحة 634 644 ).
ـ كانت جيوش المسلمين الزاحفة للفتح باسم الله وبأمر الله تصطحب عوائلها معها وتضعها خلف خطوط المواجهة لتقومَ ـ إلى جانب أمور أخرى ـ بمهمات حفر الخنادق وتطبيب الجرحى وقتل من فيه رمق من جرحى الأعداء. النساء والصبيان كانوا سواء في أداء هذه المهمات ( الطبري، الصفحة 637 وفي صفحات أُخرَ منها الصفحة 649 ).
ـ إستخدم الفرس في القتال الأفيال فهاجمها فرسان المسلمين بضرب وقطع مشافرها وطعن عيونها بالرماح ( الصفحة 639 ) واستخدم المسلمون الإبل لإرعاب خيول الفرس ونجحوا
( الطبري، الصفحة 635 ).
ـ هرمية التعبئة العسكرية لدى جيوش الفتح في العراق : أنقل حرفياً ما قال الطبري عن هذه المسألة ففيها ما يشبه الهرمية العسكرية في الجيش العراقي المعاصر ومنذ عام تأسيسه أوائل عشرينيات القرن الماضي :
( فكان أُمراء التعبية يَلون الأمير ( سعد بن أبي وقّاص ؟ ) والذين يلون أُمراء التعبية أُمراء الأعشار، والذين يلون أُمراء الأعشار أصحابُ الرايات، والذين يَلون أصحاب الرايات والقوّاد رؤوس القبائل / الطبري، الصفحة 614 ). لا ذِكرَ لتعداد رجال كل فئة من هذه الفئات. أما في العراق المعاصر فنواة التدرّج الهرمي العسكري هو الفصيل وثلاثة فصائل تشكل سريّة ( 300 فرد ) وثلاث سرايا تشكل فوجاً ( ألف فرد ) وثلاثة أفواج تشكل لواءً ( 3000 فرد ) وثلاثة ألوية تشكل فرقة عسكرية. وفي زمان البعث والحرب مع إيران تم إستحداث الفيلق وأظنه يتكون من ثلاث فرق ... ولا أعرف شيئاً عن الكتيبة سوى أنها تخص سلاح الدبابات والدروع.
ـ جاء ذكر العديد من أسماء القرى والمواقع والأمكنة التي لا وجودَ لها اليوم في العراق .. فقد جاء ذكر مصغّر القادسية ، قُديس، مراراً كما جاء ذِكْر الطف والطفوف لأكثر من مرّة والعراقيون خاصة يعرفون الطف القريبة من مدينة كربلاء الحالية حيث واقعة الطف ومقتل الحُسين وصحبه وآل بيته عام 61 للهجرة.
ـ ذكر الطِبري في موضعين من كتابه أمراً طريفاً تناول فيه علاقات العرب مع الفرس قبل الإسلام حيث كان العرب يفدون إلى العراق حين كان العراقُ تحت حكم الفرس للتجارة والإنتجاع والرعي دون أنْ يذكر مّنْ كان هؤلاء العرب ولأية قبائل ينتمون ومن أية جهة من بلاد العرب يأتون. نقرأ ما كتب الطبري :
( ... ثم قال الملك " يزدجرد " : سلهم ما جاء بكم ـ وفود العرب ـ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا ؟ أمن أجل أنّا أجممناكم وتشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟ .... فتكلم يزدجرد فقال : إني لا أعلمُ في الأرض أُمّةً كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، قد كنّا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أنْ تقوموا لهم فإنْ كان عدد لحق فلا يغرنّكم منا، وإنْ كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملّكنا عليكم ملكاً يرفق بكم / الطبري، الصفحة 618 ).
مَنْ كان ذلك الشخص الذي نصّبه الفُرس ملكاً على العرب ... أكان ملكاً عربياً أم فارسيّاً وأين كانت عاصمة مُلكه ؟
ونقرأ في موضع آخر كلاماً لرستم قائد جيش فارس في العراق :
( ... فلما وقف على القنطرة راسل زهرة فخرجَ إليه حتى واقفه فأراده أنْ يصالحهم ويجعل له جعلاً على أنْ ينصرفوا عنه وجعل يقول فيما يقولُ : أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جوارهم ونكف الأذى عنهم ونوليهم المرافق الكثيرة نحفظهم في أهل باديتهم فنرعيهم مراعينا ونُميرهم من بلادنا ولا نمنعهم من التجارة في شئ من أرضنا وقد كان لهم في ذلك معاش يعرض لهم بالصلح ... / الطبري، الصفحة 625 ).
هنا أيضاً يلفت النظرَ أمر " كانت طائفةٌ منكم في سلطاننا " ... مَنْ هي هذه الطائفة وما كان يميّزها عن باقي طوائف العرب ؟ دينها أو انتماؤها القبلي أو ولاؤها للفرس وبلاد فارس ؟ واضح أنهم كانوا رعاة وتُجّاراً وطالبي ميرة جاءوا العراق ليمتاروا، ليقايضوا أو يشتروا ما يحتاجون من مؤن وطعام.
موضوع فتح العراق بحاجة إلى دراسات مُعمّقة شاملة والغوص عميقاً في الكثير من أمور هذه الفتوحات ففيها كنوز من المعارف والخبرات والعِبَر.
* تأريخ الطبري / تأريخ الأمم والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطِبَري.
راجعه وقدّمَ له وأعدَّ فهارسه نوّاف الجرّاح .
الناشر : دار ومكتبة الهلال. الطبعة الأولى 2003 م.
673 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع