آخر الإماء /١

                                               

                              سمية العبيدي

          

هذه الحكاية سمها ما شئت قصة أو رواية قصيرة ،هي لا تصلح للنشر ورقيا كرواية بل كمسلسلة أو فلم 

وهي صورة حقيقية عن الحياة في بغداد أوائل القرن العشرين فيها من الواقع شيء ومن التأليف والتخيل أشياء
أحببت بسطها على أجزاء على صفحتي الشخصية وعلى صفحات مجلة الگاردينيا الغراء لمن أراد أن يتمتع
عذرا لاحتوائها على الكثير من ألفاظ اللهجة العامية العراقية
آخر الإماء / ١

وقفا امام دكانه يحدقان به بعينين غائرتين متعبتين ومد العجوز كفا ً معروقة , حفر الدهر عليها بازميله عشرات الاخاديد أكثرها عميق جدا وبعضها سطحي ٌّ. وكانت الطفلة تختبيء وراءه بجسمها النحيف وتبرز نصف وجه في غاية الجمال . يكاد يقفز من عينها الفزع والاستغراب , انتبه لهما بكامل وعيه وفكـّر, هرِم على وشك الفناء يعيل حفيدته بل ربما حفيدة ابنه بالسؤال ابتسم في وجهيهما وهو يمد يده بمعونة كبيرة . وقال للعجوز:

تفضل اكعد استريح شوّية , جلس السائل وهو يدمدم بالشكرعلى الدكـّة الخشبية الصغيرة التي وضعها التاجر امام حانوته ليستريح عليها زبائنه ريثما يحضّر لهم طلباتهم . كان في الدكان مطارة ماء معلقة في مكان ظليل لاستعماله الخاص وربما قدم منها لبعض الزبائن , ملأ الكأس ماءً وأعطاها للشيخ الذي بدوره اعطاها للطفلة فشربته عن آخره . فملأها ذنون - وهذا اسم التاجرالاربعيني الموسر- تارة اخرى ليشربه الشيخ المتهالك تعبا . والذي قطع مع حفيدته - كما يبدو - المسافة من قريته البعيدة مشيا الى المدينة الكبرى . شرب الرجل وارتوى فقال ذنون
: جوعانين ... مو هيجي ؟؟ أجاب العجوز بصوت طمسه التعب
: بلي صرخ ذنون باعلى صوته
: جواد ... جواد .... جودي فاسرع جودي قائلا : ها..عمي ذنون شتآمر قال ذنون
: نفرين كباب وجايين بالعجل . قرفصت الطفلة بجانب جدها تماما فأحاطها بذراعه النحيلة , وهي في الثامنة من عمرها شقراء ذات عينين شديدتي الزرقة حلوة الملامح . سأل ذنون
: جَايين من بعيد ... مو؟؟ أجاب العجوز
: اي والله , صمت برهة ثم اكمل .... آني مريض اريد افوت ( للخستخانة ) وهذي بنت ابن ابني ماعندي غيرها ولا هي عدها غيري ابوها مات مسلول , واني يمكن موّات واذا ظليت طيّب اريد اروح لدار العجزة , لكن ما اعرف وين اخليها . وصلت صينية الكباب فقال لهما ذنون
: يللا .. بسم الله ... وأخذ السائلان يأكلان بسرعة بالغة كما لو ان احدا سينتزع الطعام من امامهما ان تباطآ في تناوله , وشربا الشاي اثناء ذلك. وكان ذنون قد صمَت صمْت الموتى اثناء ذلك وبدا على وجهه التفكيرالعميق والتردد حتى ان حبات من العرق تناثرت فوق جبهته . فلما انتهيا قال لهما
: بالعافية ولما وقفا واستعدا للذهاب وهما يشكرانه قال للعجوز
: عمي عندي الك حل اذا وافقت عليه قال الشيخ
: كول وآني اسمع , بلكت الفرج على ايدك .
: تبيعلي هالبنية . اطينياها وآني ادير بالي عليها وما اسوي الا اللي يرضى بيه الله . سكت العجوز واطرق لدقائق وهو يفكر بصوت مسموع نوعا ما .
: الى وين اظل ( اشحشط بيها ) هنا وهنا . ومن اوكع وين تروح . وهذا الرَجّال مبيّن يخاف الله . نفض رأسه ثم أجاب
: اي اخذها ... الله يسترعليك , خلي اموت مرتاح .
: شكد تريد فلوس عمي
: اوووووه ابني هليطلع من ايدك انعم الله . فتح ذنون باب مكتب صغير واخرج رزمة من المال وضعها في يد العجوز دون ان يحصيها . احتضن العجوز حفيدته بقوة والقى في سمعها بضع كلمات منها وصية ومنها وداع , وكانت تهز برأسها علامة الموافقة والفهم معا . ومضى العجوز وفي عينيه الكليلتين بضع دمعات . بعد ان كتبا ورقة بصمها الجد ووقعها بعض التجار كشهود ومضى لشأنه .

***
كانت السوق الكبيرة في البلدة في غاية الازدحام بالناس والبضائع والعربات والحمالين . وكانت روائح السوق تتدفق الى انفها الصغير لذيذة طيبة بسبب انواع البهار المحلي والمستورد من الهند وغيرها من بلدان الشرق . وكان بائع العرقسوس يمشي ببطء مناديا على بضاعته وهو يحمل قربته الذهبية على ظهره ويمسك عنقها في يمينه وفي يساره بضعة كؤوس ذهبية ايضا , ظلت الطفلة تنظراليه فاغرة الشفتين فترة من الزمن . وفي زاوية من السوق امرأة تلتحف بالسواد وتتقنع به لا تبدو منها الا عيناها , وامامها اضمامة كبيرة من الليف المحبوك لاغراض الحمامات , وبضعة اقراص تميل الى البياض وقليل من القطن الاحمر تبيعها على النساء لاغراض التجميل . وكان حانوت قريب لمحل ذنون يبيع ال ( القباقيب ) الخشبية صاح ذنون
: جودي
: اي عمي جيت
: جيب لي قبقاب أحمر للبنية ... مو تجيبه جبير .. زين وشوف سعره شكد
اسرع جودي لتلبية الطلب وجلب (قبقابا أحمر) للطفلة التي كانت حافية القدمين . فنقده ذنون الثمن فاسرع به جودي الى البائع وعاد ليضع ذنون بيده قطعة نقدية صغيرة إكراما لخدمته
جلست الطفلة على الدكة وهي تنظر الى ( القبقاب ) في رجليها , حتى آن لذنون ان يغلق محله ويرجع الى بيته وظلت اثناء ذلك تحدق بعينيها المفتوحتين على آخرهما بالناس والاشياء ولم تنبس بكلمة ابدا . تركها ذنون على راحتها واحترم دهشتها وعجبها . وكانت تلاحق بعينيها الدهشتين الحمالين اذ يصرخون باعلى اصواتهم وهم يسرعون الخطى جهد الامكان
: بالــــــــــك بالـــــــــــــــك واخيرا قال ذنون
: يللا امشى ورايه . ثم سألها اثناء الطريق وهو يمشي حثيثا وهي تهرول بعده
: انت اسمج فريدة مو ؟ أجابت وهي تلهث
: اي عمي اسمي فريدة
: ها ... تعبتي من المشي حيل ؟! , زين زين راح امشي على كيفي حتى لا تتعبين . كان يمشي حثيثا ثم فترت مشيته لاجل الطفلة فقد كان ( القبقاب ) يعرقل مشيتها فهي لم تتعود حتى الآن الا السير حافية القدمين . سارا في أزقة متعرجة ضيقة كثيرة الظلال بسبب الابنية التي تبرز منها المستشرفات الخشبية ( الشناشيل )
وحين دلفا الى بيته - ببابه الضخمة العريضة والتي دقت عليها على أبعاد منتظمة قطع مستديرة من المعدن لغرض الزينة – وبرز فوقها رأس وعل بقرنين ضخمين قال لامرأته بعد ان ألقى عليها التحيّة المعتادة
: سعدية اشتريت هاي البنية اليتيمة ديري بالج عليها وعلميها شغل البيت خليها تعاونج . أمسكتها سعدية من كتفيها - وهي تنظر الى عيني زوجها بتساؤل صامت لم يحظ بجواب - ثم مضت بها الى المطبخ الواسع وهي تطلب منها الجلوس سألتها
: انت شسمج
: خالة آني اسمي فريدة
: كعدي هنا
تركتها ثم وضعت القدرالمخصص لتسخين الماء على الناربعد ان ملأته حتى ما يقارب حافته بالماء - اذ كان الحمام التركي المنزلي المصغر ذو المرجل الكبير يوقد مرة واحدة في الاسبوع . وهو يوم الجمعة ليغتسل جميع من في المنزل - واحدا بعد الآخر .
خرجت سعدية لتحضر بعض ملابس ابنتها الصغيرة امل التي تصلح للطفلة , وعندما غلى الماء أسرعت به وبفريدة الى الحمام . وبعد ما خرجت سعدية من الحمام كانت في يدها جوهرة تشع هي فريدة .

(2)


أخذتها سعدية لغرفة البنات وكانت ابنتاها تنامان فيها معا , كبراهما مخطوبة لابن عمها اما الصغرى ففي عمر فريدة تقريبا . فرحت بها البنتان وأُعجبتا بجمالها وفرشت لها سعدية حشية على الارض لحين توفيرسرير ثالث .
دأبت سعدية على اصطحاب فريدة وأمل الى المطبخ - كما فعلت مع ابنتها الكبيرة سعاد - لتعلمهما الطبخ وأسباب النظافة وآداب المائدة والطريقة التقليدية اللائقة لتقديم الطعام . ثم علمتهما بعد حين عمليا خياطة الملابس لكل أفراد الأُسرة وحسن الاعتناء بالملابس وغسلها وطيّها وحفظها في خزائن الملابس حتى وقت الحاجة اليها , كما علمتهما كي الملابس بالمكواة المجوفة التي يوضع الجمر بداخلها. وبذا اتقنت أمل وفريدة كل امور المنزل فقد تعلمتا التنظيف وترتيب المنزل وملءَ الحُبِّ والاعتناء بنظافته ونظافة مائه وغطائه من سعاد , اذ انهما تساعدانها في هذه الاعمال كما ان سعاد قد علمتهما الفنون اليدوية من تطريز وحياكة إضافة الى العناية بنظافتهما الشخصية وحسن هندامهما وترتيب شعرهما وبذا اصبحت كل منهما ربة بيت لا تقل مهارتها عن مهارة معلمتيها . كما ان سعاد وقد ذهبت وهي صغيرة الى الكتّـاب ( الملا ) فتعلمت القرآءة والكتابة وحفظت غيبا (جزءَ عمَّ ) وتعلمت القراءة في المصحف الشريف , فقد بدأت بتعليم اختها الصغرى كل ذلك , فلما أحضر أبوها فريدة , بدأت الآن بتعليم فريدة أيضا . فكانت تجلسهما أمامها وقد وضعتا على رأسيهما شالين أبيضين ثم تلقنهما الآيات الكريمة .
ابتنى ذنون هذه الدار- عندما ازدحمت دار أبيه لزواج سائر أُخوته وإنجابهم - وقد ارتأى ان تكون واسعة كبيرة لتضم أولاده وزوجاتهم وأولادهم في المستقبل وقد بناها كأبناء عصره شرقية تدخلها الشمس من كل مكان , ويجول بها الهواء النقي . فكانت الدار واسعة رحبة كما أراد . وذنون هذا تاجر أبا عن جد , رفل بالنعمة وهو صغير وكأبيه لم يبخل بها على أحد . وحين حان له أن يتزوّج خطب له أبوه ابنة تاجر من معارفه كريمة نسبا ويدا.
نشأت فريدة في الدار واحدة من أهلها عوملت مثل أيّة ابنة من بناتها . كان ربّ الاسرة يوسع على اسرته في المواسم والاعياد بكسوة جديدة . لم يكن يشتري لأولاده ولا لبناته كلا على انفراد . كما نفعل في أيامنا هذه بل كان يشتري القماش في كل موسم وعيد من التجار أمثاله بالجملة فكان يختار من أقمشة النساء لونين ومن أقمشة الرجال لونين في كل موسم كما انه يشتري أقمشة اخرى تصلح للأفرشة وأغطية الأسرة , وكانت الأخيرة تخزن لحين الحاجة اليها . وحين تصل البضاعة الى المنزل يغدو الفناء الداخلي كمصنع للخياطة خاصة في الأيام التي تسبق الأعياد . فبعد انتهاء الاعمال اليومية المعتادة , تنتشرالنسوة الاربعة في الباحة كل منهن تضطلع بجزء من العمل الجماعي . يفتحن القماش على الأرض النظيفة ويبدأن بقص القماش وتفصيله . أولا يبدأن بالرجال فيسألنهم فردا فردا ماذا يفضل منامة (بجامة) ام جلبابا ( دشداشة) وبعد التأكد من مقاساتهم الجديدة وملاحظة التغييرات التي طرأت على أفراد الاسرة جسمانياً , يقصصن القماش . وفي ناحية اخرى من الفناء تعدُّ ماكنة الخياطة المنضدية اليدوية وتوضع أمامها وخلفها حشيتان صغيرتان (مندر) تجلس عليها ثنتان من نسوة الدار إحداهما وهي الأمهر عادة تخيّط القماش المفصل والاخرى تساعدها بتسوية القماش وبسطه وجره وسحبه نحوها , وبعد ذلك يشتغلن على ملابس الأطفال , فالأطفال الذكور يلبسون من نفس قماش الرجال , والبنات تلبسن من لون قماش النساء . ثم أخيرا تنصرف النسوة لخياطة ملابسهن وغالبا ما تكون على نفس النسق . هذاعن الملابس المنزلية , اما ملابس الخروج فقد تـُعجب النساء بقماش معين او(موديل) معين فاذا بنساء الدار بل قريباتهن وجاراتهن يلبسنه جميعا .
كان الطعام في دار ذنون موفوراً وكان مخزن الطعام لا يخلو من أكياس الرز والسكر ومن السمن والتمر والدبس الى غير ذلك من مؤونة . فقرت فريدة عينا , واطمأنت نفسا ولم تعد تفكر كل لحظة بالطعام ومن أين ستأتي كسرة الخبز اليابسة التي تشكل الوجبة التالية . وقد عمر نفسها الرضا ودانت بالولاء الى من أوصلها لهذا فكانت تخدم ذنون وامرأته بعينيها وكذلك كل أولادهما ذكورا واناثا .
بعد بضع سنوات تزوجت سعاد , كبرى بنتي ذنون وزفت الى عريسها وابن عمها . واذ خلا البيت منها فقد عوّض مكانها الخالي في البيت بعد حين بزوجة احمد ابن ذنون البكر بابنة عمّه امينة .


2

ما كاد العرس ينتهي وينفض المهنئون من أقارب ومعارف وتتعود العروس على البيت وأهله , حتى بدت الغيرة تحرق قلب أمينة بنارها لشدة جمال فريدة فبدأت تحاربها جهد الإمكان وتضطهدها كثيرا , مما نغـّص حياة فريدة وأحالها الى جحيم ولم تعرف لمن تشكو , و في الحقيقة لم يكن من حاجة للشكوى لان ربة البيت سعدية لاحظت الأمر وأخجلها ذلك , ولكنها لم تستحسن ان تردع أمينة وتوبخها وهي لما تزل عروسا . ولكن الامر تفاقم وخرج عن الحد المعقول , ولم تكفّ امينة عن اضطهاد فريدة ثم قالت عنها بوقاحة وبوجهها
: منين جبتوها لهذي , وماخذها راحتها عبالك هي أم البيت ؟؟! أجابتها سعدية
: عيني هذه وحدة من بناتنا .. حالها حالنا
وفي الاسابيع التالية كررت المشكلة والاهانات الموجهة الى فريدة قائلة
: آني بعد ما اكدر أعيش ابيتكم ما دامت فريدة بيه
وبعد يومين طلبت زيارة أهلها فاذن لها زوجها بالزيارة لكنها ذهبت ثم لم تعد .
كان ذنون بمنأى عن كل ذلك وبعد ان طالت زيارة امينة لذويها , تسآءل ذنون عن السبب بقوله
: هاي امينة وين صارت , هيه زيارة لو سفر ؟! فأخبرته سعدية عن الأمر قائلة
: ابو احمد ... مو آني ما ردت اكللك .
: خير.. أخاف امينة مريضة
: لا ما بيها شي . لكن صارت لغوة وحجي زايد وامينة بصراحة - ولو هيه بت أخوك - تحرشت هوايه بفريدة , وبجتـّها كم مرة وتكول ما أكدر أعيش وياها .
: ليش
: ليش يعني ؟!!.. مبينة غيرة .. أكو غيرها
: يعني شنو تخاف على رجلها منها ؟؟!!, ليش امينة متدري فريدة ملك يميني
: بلي شلون متدري . كل الناس كرايبنه وجيرانـّه يدرون
: سعدية ...
: ها أبو احمد , خير
: يعني أنت متغارين
: أغار .. قابل آني مو مرة ... لكن مو هيجي
: لعد دا أكلج فد شي
: خير.. كول
: اني.... آني اريدها لفريدة
: اي حلالك ... شأكدر اكول.. وتره آني من يوم اللي جبتها أعرف يجي يوم وهلشي حيصير
: لعد احجي وياها اليوم , وحضريها و فرشيلنا غرفة
: زين ......... ان شاء الله
: هذا كله يصير اليوم .. وباجر وصّلي خبر للخانم الزعلانة
: ان شا الله
ظن ذنون ان في ذلك الحل الامثل
وفي تلك الليلة كانت فريدة لمالك أمرها , ولقد بلغت فريدة آنذاك الخامسة عشرة من عمرها , اما ذنون فقارب الخمسين من العمر. وقد أفهمها إن ذلك في صالحها . هزّت رأسها متفهمة . (وقد كانت فريدة تذكر ان ذنون اشتراها من جدها وتذكر كل ما قاله جدها حينئذ ولكن ما صدر من كلام بشأنها بصوت خافت طوال السنوات من أهل البيت والزوار جعلها تفهم فعلا مركزها في الاسرة وخاصة تجاه ذنون ) .
ولكن ذلك لم يردع أمينة عن معاملتها السيئة لفريدة بل زادها بلـّة ولو انها عادت الى بيت زوجها واسرته . مرت بضعة أشهر فبدت مظاهر الحمل على فريدة ولو انها لم تقل شيئا ولم تتحدّث لاحد .
كانت سعدية منهمكة في مساعدة جيرانها الذين خطبوا ابنتها الصغرى أمل لابنهم تساعدهم في اختيار الاثاث والافرشة والملابس وقد استغرقها ذلك فلم تنتبه لعينيّ فريدة الغائرتين ولا لوجهها الذابل . حتى استيقظت ذات يوم على فريدة تتسلل الى الحمام , قبل أوان استيقاظهما العادي اذ كانتا تستيقظان معا لتعـدا الخبز والفطــورللاسرة , فكانت أول من انتبه للأمر اذ سمعت من الحمام اصواتا خَبرتها كلـّما حملت وفي أشهرها الاولى بالتحديد . مضت الى الحمام تسندها فلما انقطع قيؤها غسلت وجهها وأخرجتها الى المطبخ وأجلستها في مكان مريح يدخله الهواء العليل . ولم تفتح احداهما فمها بكلمة ولكن سعدية أخذت تبرُّ فريدة وتخصها باللقمة الأطيب والفاكهة الاشهى بين الوجبات . ولان فريدة لا ام لها لتجهّزالوليد البكرالقادم كما هي العادة , فقد بدأت سعدية تخيط سراً ملابس وأفرشة للطفل , كلما سمح لها وقتها بذلك وخلا لها الجو . فاذا ما انتهت مما بين يديها طوته بعناية وأودعته في كيس هو في الأساس غطاء وسادة ووضعته بين الأفرشة في غرفة الخزين .
بدأ بطن فريدة ينتفخ شيئا فشيئا مما جعل أمينة ترصدها بعيون الذئب للفريسة وكانت تتحين الفرص كي تصب عليها نار الغضب وسياط الحقد ولم تكن قد تأكدت بعدُ من سبب الإندلاع البسيط في بطن فريدة .
جاء بعض الضيوف الى الدار وبسرعة قالت سعدية لأمينة وهي تقود الضيوف الى ( الطرار) وهي استراحة للاسرة وفيها بضعة أرائك . والطرار لمن لا يعرفه هو غرفة ذات ثلاثة جدران وسقف . وتنفتح من جهة الجدار الرابع على ساحة الدار ( الفِناء ) .
: جيبي الحصران والفرش بالعجل وكـم مخدة من المخزن - ذلك ما كان يعدُّ للضيوف المقربين اذاك ليجلسوا على راحتهم في فِناء الدار أو في الطرارعلى الأرض . خاصة ان كان الضيوف قد حضروا من مكــان بعيد - .
واذ اسرعت أمينة للمخزن وهي تقلب الوسائد والحشايا سقطت احدى الوسائد على الأرض وهي تحاول رفعها بسرعة تناثرت منها مجموعة من ملابس الأطفال والملاحف الجديدة . تبدو جميلة ملونة كالورود فوق الافرشة المنضودة . اصفّر وجه أمينة وامتقع لونها ولما جاءت لسعدية بما طلبت كان وجهها مصفرا يكاد الحقد ان يتفصد منه بدل العرق وبنظرة واحدة أدركت سعدية الغلطة الكبيرة التي وقعت فيها إذ أرسلت أمينة الى المخزن ولكن لات حين مندم .
بعد أن خرج الضيوف وقبل حضور عمّها من دكانه كان لها فصل مؤسف من طول اللسان وافتعال المشكلات . فقد ازدادت غيرة لانها لم تحمل بعدُ . ونسيت ان النسل والاولادَ رزقٌ من الله يعطيه لمن يشاء ويؤخره أويحجبه عمن يشاء .
زفت أمل الى عريسها وانتقلت الى بيته وأهله واستفردت امينة بفريدة وازداد احتكاكهما لانهما وحدهما من تقومان بشؤون البيت . فالابنتان متزوجتان وسعدية لم تعد في نفس قوتها وزايلها الشباب فلم تعد تقوم الا بالنزر اليسير من أعمال البيت المحصورة بالمطبخ .
قعدت فريدة قرب البقجة ( وهي مساحة مربعة الشكل غالبا تقع في وسط الفناء أو الحوش تحاط عادة بسور منخفض من الطابوق وتزرع بمختلف الزهور الجميلة وتغرس فيها شجرة أو اثنتين اذا ما كانت كبيرة بما يكفي وعلى جانب منها عادة يكون صنبور الماء الرئيس منه تسقى ومنه يؤخذ الماء للأغراض المنزلية الاخرى . ) وضعت فريدة اناء الغسيل المفلطح في وسط الفناء بقرب البقجة وكومت الملابس القذرة وجاءت بكتلة الصابون وأخذت تغسل الملابس وتفركها تارة بكتلة الصابون وتارة براحتيها قطعة قطعة ثم تعصرها وتشطفها بالماء البارد , حتى أخذ منها التعب مأخذا كبيراً ثمَّ صعدت فريدة الى سطح المنزل كي تنشر الملابس المغسولة على الحبال المعدة لذلك وبعد قليل أحست بأمينة تصعد الدرج , ولما التفتت وجدتها تحمل أحد أغطية الفراش لتنشره على (التيغة) ستارة السطح كي تعرضه للشمس كما ادعت لاحقا . أتمت فريدة عملها وبدأت الهبوط بتأن وتؤَدة وما هي الا لحظات فاذا بأمينة تنزل الدركات بسرعة بالغة فتصدم فريدة بكتفها لذا اختل توازن الأخيرة وسقطت من وسط السلم الى أسفله وهي تصرخ بأعلى صوتها . أسرعت سعدية لتجدها متكومة أسفل السلم , ساعدتها على النهوض . أُصيبت فريدة ببعض الكدمات في أكثر من مكان في جسدها وسقطت من أنفها بعض الدماء , ولكــــن الله سلـــمها فلم يسقــط جنينها . ولما عوتبت أمينة ادعت انها لم تقصد ذلك قط , ولم تحسب انها ستمس جسد فريدة أبدا . لم يصل كل هذا لأسماع الرجال في المنزل . بل علموا بأن فريدة سقطت من السلم فقط . فقد كانت طريقة سعدية في إدارة بيتها تجنيب رجاله المشاكل والسفاسف التي تحدثها النساء بين حين وآخر .
كان على أمينة ان تراجع الاطباء . وفعلت ذلك فعلا وذهبت مرة أو مرتين الى الطبيبة النسائية , وأخذت بعض العلاج لكنها سرعان ما ملت , اذ لم ترَ فائدة ملحوظة وسريعة . بل انها فضلت ان تلتجىء الى ما تقوله المُعتقدات في هذا الامر وفعلت ما نصحتها به العجائز . وكانت احدى العقائد تقول بان على المرأة التي ترغب بالامومة ان تضع نفايات الدورة الشهرية الخاصة بها في باب امرأة عزيزة الحمل (اي التي لاتحمل الا كل بضع سنوات ) ابان حملها فعلا . ومع انها فعلت ذلك ولم تر ولم تلمس اية نتيجة فلم يثنها هذا عن تكرارهذا الأمر مع معتقد آخرغريب اخبرتها به احدى الفلاحات التي تعمل في بستان أبيها ذلك انها مرت بشهرين أبيضين ظنت بعدهما انها حامل وخشيت أن تسقط الجنين وركبتها الوساوس فنصحتها الفلاحة بلف بطنها بحزام معروف يحفظ الجنين في بطنها. ويقتضي ذلك ان تعمد الى طير ابتلعته إفعى ظل في جوفها فترة ثم لم تستطع هضمه فاخرجته من جوفها وتخلصت منه , فتضع هذا الصيد الملفوظ في حزام تنتطق به فان ذلك كفيل بجعلها تحافظ على الجنين , كما ادعت الفلاحة . وكان هناك من يبيع مثل هذه الخرافات بسعر باهظ على من يؤمن بها ففعلت . وظلت أمينة تتبع كل ناصحة تصف لها علاجا وتنفذ وصايا من هذا القبيل بلا فائدة ولا جدوى .

***

3
انجبت فريدة ابنا لا يقل عنها جمالا كان قرة عين للاسرة كلها الا أمينة فقد اتخذت منه ما اتخذت من أُمه من مواقف سلبية . أعتقها ذنون كما تقتضي الشريعة الاسلامية السمحاء وحرق ورقة الرق أمام ابنه الكبير وأخيه وأشهدهما على ذلك موصيا إياهما بعدم الخوض بذلك امام الآخرين . نشأ الطفل بين أفراد أُسرته كأمير صغير في بلاط أبيه . كانت سعدية لا تمل من احتضانه وضمّه الى صدرها وان ظل المرض ينحدر بها الى ان اقعدها الفراش عدة سنوات . فكانت فريدة ممرضتها وعصاها وبديلتها في البيت وقائدتها الى عتبات الأطباء مع زوجهما او أحد أبنائه .
تزوج ابنا ذنون الاخران وامتلأ البيت بالابناء والأحفاد وكانت فريدة خير من ترعاهم مسترشدة بسعدية التي كانت لا تزال تقود البيت من فراشها .
حان لمصطفى وهوابن فريدة البكر- فقد انجبت بعده بنات وبنين - حان له ان يذهب الى المدرسة . فكان ذلك يوم عيد لفريدة , وإذ يخرج للمدرسة أو يعود منها ينتابها فرح غامر وبهجة لا نهاية لها , وهي تحثه على النشاط والاجتهاد , مما جعله يواصل تعليمه ولا يتلكأ كما فعل اخوته الذكور . وقبل ان يسجل ذنون ابنه مصطفى في المدرسة عقد على امه رسميا فاصبحت زوجة حليلة وخصص لها صداقا ثم َّ اخرج للطفل (جنسية ) ولاخوته كذلك كل ذلك لم يعلم به الا سعدية فلم يكن للآخرين به من شأن . وبذا أصبح لفريدة وأولادها حق مشروع في إرث ذنون وداره وثروته واسمه , فعل كل ذلك بصمت وهدوء .
وكانت بنتا ذنون تحضران بين حين وآخر لزيارة ذويهما ولتعودا أُمهما المريضة , فتفرح فريدة بهما وتقبل أطفالهما وتحتضنهم وتحضّر لهما من الاطعمة ما تشتهيان هما وأبناؤهما .
خرج ذنون حاجا الى بيت الله الحرام وتـُليت فرحة عودته سالما بأمر كلم وجرح قلوب العائلة والاقارب والجيران فقد توفيت كبيرة الاسرة سعدية بين يدي ربيبتها فريدة . الضرة التي ما كانت ضارة أبدا بل كانت يدا يمنى وأكثر لربة البيت . فساد الوجوم أوجه المهنئين بالحج . ولكن سعدية ماتت بعزٍّ وهيبة مما خفف عمّن يحبونها وصبّرهم . وكما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تحت رأسها وصيتها التي وقع عليها وبصمها كل من ابنها البكرأحمد واخوها مهدي والتي شملت بها فريدة وأعطتها كما أعطت لابنتيها من مالها ومن (خشلها ) مصوغاتها .
ماكادت جثة سعدية تبرد في قبرها ويكف الناس عن زيارة الاسرة للعزاء , الا وافتعلت امينة مشادة كبيرة طلبت فيها من فريدة مغادرة البيت لانها لا تحتملها ولا تطيق العيش معها تحت سقف واحد , وصرخت
: لمّي غراضج وروحي منين ما جيتي . ولكن أبناء الدار وبناته التفوا حول فريدة ومنعوا عنها ضربات أمينة, ومنعوها من إخراجها من المنزل . وحين عاد الحاج ذنون لم تنطق فريدة بحرف . لكن الاطفال الصغار الذين كانوا يلتفون حول الحاج ذنون - أبا وجدا - كلما دخل المنزل أخبروه بما جرى فاستدعى فريدة وظل يسألها حتى باحت له بالأمر مكرهة .
وفي صبيحة اليوم التالي اصطحب ذنون فريدة معه وسجل نصف الدار باسمها وأمرها الا تحدّث أحدا بهذا فعل ذلك خشية أن تُرمى بعد موته في الطريق كما أرادت أمينة وكان شاهـــداه على ذلك أخــــــوه أبــو أمينـــة وابن عمه , وطلب منهما عدم إشاعة الأمر فوعداه بذلك . افترقوا فعاد الشاهدان الى بيتيهما اما ذنون فقد أخذ فريدة الى السوق واشتري لها سواراً ذهبياعلى شكل افعى وبضعة قطع من الاقمشة الفاخرة . كما طلب منها الانتقال من فورها الى غرفة نومه الرئيسة غرفة سعدية رحمها الله وهذا ما تمّ فعلا في نفس اليوم .
بعد أشهر أحس ذنون بضيق في صدره , فعاد من العمل مبكرا , فتح الباب بهدوء ومضى الى فراشه من فوره وتمدد طلبا للراحة دون أن يشعر به أحد , ولم يغفُ لان صوت أمينة وهي تكيل الاهانات الى فريدة , وتعيد الموال وتهدد باخراجها من البيت الى الشارع الذي جاءت منه نغـّص عليه راحته . لم تجبها فريدة ابدا أبدا. وكان الأولاد كلهم اما في العمل او المدرسة , اما هو فقد تسلل خارجاً عائدا الى عمله .
وحين عاد كل أفراد الاسرة الى المنزل مساء , وهو في غرفة نومه متمددا فوق سريره دعا أحمد فاسرع احمد الى ابيه قائلا
: نعم يابه خير ان شاء الله أخاف مريض , تعبان قال ذنون
: لا ابني لا ...ما كو شي لا تخاف , حبيت أسولف وياك شوية
: اي يابه حاضر.... تفضل
: ابني أريد اسالك شلونه شغلك , شلونه عملك ؟؟
: بخير ونعمه , الحمد لله كلشي عال
: زين ابني تكدر تفتح بيت صغير وتصرف عليه ؟؟ وآني اساعدك .
: اي يا به ليش ما أكدر بفضل رب العالمين وفضلك ... ليش ؟؟
: ابني البيت ولو هو جبير من فضل الله بس العائلة كبرت هوايه , والأحسن تعزل انت ومرتك ابيت وحد , ومتروح بعيد . أريدك قريب من عدنا . وهذا الاسطة حسين البنا عمّر بيت أهله القديم ويريد لو يبيعه لو يأجره شتكول ناخذه هم خوش بيت وهم قريب ؟! . فهم احمد الأمر وعرف السبب ولكنه طأطأ رأسه ولم ينطق ولم يضع النقاط على الحروف بل فعل كما فعل أبوه . وقال
: حاضر يابه أمرك . من عين باكر آني ماشي بالشغلة .
سحب ذنون رزمة من الأوراق المالية من تحت وسادته ووضعها في راحة ابنه غير ان احمد قال
: لا لا يابه خيرك مغطينا والحمد لله عندي والله الكريم عندي .
: أعرف عندك بس لا تنسى راح تحتاج أثاث وغراض غيره هوايه , اخذ ولا ترد ايدي . اخذ احمد النقود شاكرا وقال ذنون لابنه
: آني اتفاهم ويه اسطه حسين على البيت وانت عليك بالاثاث والغراض والتحويله زين ؟!
: على راحتك يابه على راحتك . خرج احمد من الغرفة مهيض الجناح كمن حصل على الفورعلى توبيخ شديد اللهجة .
فهم احمد ان ما حصل لم يكن الا بسبب رعونة امرأته . فلما دخل غرفتهما القى عليها نظرة هائلة ولما استفسرت عما جرى بينه وبين ابيه وهما يلجان الى سريرهما المشترك , لم يجبها لشدة غضبه بل غطى رأسه ونام صامتا من فوره .
كان احمد يرى البيت الذي سكنه وامرأته صغيرا. ذلك ان عينيه تعودتا على الرحابة والسعة في بيت أبيه العامر لذا لم يطب له العيش فيه وأخذ يوبخ امرأته كل حين بقوله
: لو انت مثل الناس تشكرين النعم وتعرفين تحجين وتتصرفين ما جان صاربينه هيجي .
ولما اشتطت العلة بذنون , طلــــب من فريــدة ان
تعطيه رزمة تعرفها ولا تدري ما فيها جلبتها له فقــال
: فتحيها واقريها زين وبعد ان قرأتها متمعنة فهمت ان الدار التي يسكنها ابنه هي ملك خالص لها , فضلا عن نصف الدارالكبيرة اما النصف الاخر فانه باسم زوجته الكبرى سعدية فقالت
: ليش سويت هيجي . مو لو مسجّل البيت باسمك لو باسم أحمد أحسن ؟!!!
: لا انت متعرفين الناس مثلي , وهذا العدل اللي يرضى بيه الله , لان آني مشتري لسعدية بيت صغيّر من زمان . وسجلت نص هذا البيت باسمها , وهو أول وتالي لولدي بعد عمر طويل لما يعقلون ويفتهمون . ثمَّ طلب منها ان تخفي الأوراق في موقع امين . فاختارت السرداب المهجور ونزلت اليه للمرة الاولى , عندما لم يكن في البيت أحد غيرها فنظفته وهوته ثم أخفت الرزمة خلف حجر متخلخل فيه . وهو يُحتضر, جمع أولاده وأوصاهم خيرا ببعضهم وبفريدة . ذات مساء قالت فريدة
: ذنون شتكول لو نطهر الولد مو أحسن . نريد نفرح بيهم وبعدين تره ولدنا كبروا وما يصير لسه بعد ما مطهرين . أجاب ذنون
: والله صدق هاي جانت فايتتني احنه شدننتظر بعد نطهرهم يوم زواجهم . قهقه ذنون للطرفة التي أطلقها ثم قال
: فريدة لازم تمرين على جارتنا ام الايتام حتى نطهر ولدها همينة ان شاء الله يوم الجمعة الصبح .
وعندما عاد ذنون من عمله في اليوم التالي أخبرته فريدة انها ذهبت لام الايتام وأخبرتها بموعد ختان ولدي المرحوم مع أولادهما وعزمتها على حنة الأولاد ليلة الجمعة . وأخبرتها ان لا تكلف نفسها بخياطة ملابس للولدين لانها ستفعل ذلك وأرادت ان تحصل على قياسيهما . ومن صباح الغد حضرت بنتا ذنون لتساعدا الكنائن في أعمال خياطة ( الدشاديش البيضاء ) لأولاد فريدة ولأولاد الجيران الذين سيختنون أيضا , وفي كل التحضيرات الاخرى لمراسم الختان .
حضرت نسوة الجيران ( يوم الحنة ) وفوق رؤوسهن او رؤوس أولادهن ( صينية ) كبيرة ملأى بالشموع البيضاء وغصون الياس الصغيرة وصففنها على الارض لتصنع شيئا جميلا خاصة بعد ان توقد الشموع في المساء . وكان ذلك فضل تتداوله عوائلنا بينها عادة في مثل هذه المناسبات .
وفي صبيحة الجمعة حضر (الزعرتي ) بأمواسه الحادة ولفيف من الأهل والاقارب والجيران يلتفون حول ذنون يساعدونه في السيطرة على المختونين والعناية بهم كما حضرت الكثير من النسوة لاقامة الفرح واشاعة البهجة بزغاريدهن .
اما الاطفال الذين سيختنون فقد رفلوا ب(الدشاديش ) البيضاء المصنوعة من مادة الساتان اللامعة , وما كانوا يدركون ما وراءهم ؟!! .
انتقل ذنون الى رحمة ربه وشعرت فريدة انها تهوي من حالق ولم يعد لها من يسند ظهرها لا سعدية التي قامت مقام امها ولا ذنون الذي كان لها زوجا وابا واخا.
طلبت امينة من احمد ان يطرد فريدة من المنزل والا فارقته . ولكن احمد كان فتى متعقلا فقال لها افعلي ما بدا لك . ففريدة كانت لابي نعم الزوجة ولنا نعم الاخت لن افعل ذلك أبدا . ولما اشتدت والحت عليه في هذا الامر اجابها : هذي اربع حيطان طكي راسج وين ما تردين .... وخرج من عندها .

4
ولكن امينة التي لم تتعقل مع تقدمها في العمر بل ظلت حرون كما كانت , حملت ملابسها ومصوغاتها ومضت الى بيت اهلها . تركت البيت لتضطره للرضوخ الى طلباتها الجائرة . لم يعلم ماذا يفعل واحتار في امره وانقسم وقته ما بين عمله وتدبير بيته الخالي . فاهمل تجارته حتى كادت تخرب ولم يعد مردودها يكفيه . فاضطرالى مدِّ يده للنقود التي ورثها عن ابيه لسد النقص . فارسل انذارا اخيرا الى امينة لكنها لم تبال بانذاره . لذا فقد تقدم لابنة جارهم طالبا يدها من ابيها وهو صديق صدوق لوالده . فسر به الرجل وزوّجه ابنته الجميلة فهو يعرف احمد فتى خلوقا يخشى الله في اهله .
ماكاد احمد يتزوج الا وهبت نارتتوقد في كبد امينة وارادت الرجوع لاحمد الا ان احمد اراد ان يلقنها درسا لا تنساه فلم يوافق على رجوعها واخذت تتوسل بافراد العائلة لهذا الغرض لكن احمد ادرك انها ان عادت ستفعل بخيرية وهذا اسم زوجته الجديدة كما فعلت بفريدة
وستحاول تطليقها منه . وبعد عدة أشهر وبعد تعب وكد رضي ان تعود بشروط وضعها , اهمها الا تتحرش بخيرية زوجته الثانية ابدا . فتعهدت بذلك امام ذويها واعمامها فاعادها الى البيت شبه مرغم .
سارت المياه بمجاريها العادية ولو انه لاحظ عدة مرات بقايا دموع في عيني خيرية , ولكن ذلك كان شيئا محتملا وكان يصبّر زوجته ويواسيها . ولم تمض الا بضعة اشهر فاذا الحمل يبدو على خيرية وهنا بدأت امينة تكيد لها وتؤلمها بالكلام والاهانات . واخيرا توصلت الى طريقة ظنتها ستوصلها لمبتغاها وهو التخلص من خيرية الى الابد . فاتهمتها بشرفها وادعت انها حملت من رجل آخر . وبذا اوقعت الجميع بأزمة كبيرة . واخذ اخو خيرية يهددها بالقتل غسلا للعار. ومع انها اقسمت للجميع بالمصحف الشريف ان أحدا لم يمسها غير زوجها الا ان ذويها بل اخوتها جميعا تعنتوا وارادوا ذبحها . غير ان احمد الذي كان يعرف امينة جيدا ادرك ان تلك احدى مؤامراتها الدنيئة العديدة . أخبرهم انها مؤامرة اخرى من مؤامرات زوجته الاولى غير انهم ابوا ان يصدقوا ان امرأة يمكن ان تغدر امرأة اخرى الى هذه الدرجة .
ذهب احمد الى ارملة ابيه وسألها ان كانت تستطيع استضافة خيرية في منزلها , وتردد قليلا فسألته فريدة لماذا يتردد قال
: آني اريد اخفيها لان أخوها يريد يقتلها ويغسل عاره مثل ما يكول . والبنيه والله ماكو اشرف منها وآني ما اعرف شأسوي و وين اوديها حتى اخلصها منهم ومن شرهم قالت فريدة
: انت جيبها ولاتكول لاحد وآني اضمها بمكان محد يندلـّه . فاخذها الى فريدة ليلا , كما أشارت عليه . واخبرته الا يطرق الباب أبدا بل انها ستقف قرب الباب بانتظاره . استقبلتها فريدة بصمت وهي تقبلها مرحبة وهبطت بها الى السرداب وكان كل من في المنزل نائما , واصطنعت لها هناك ما يشبه البيت الصغير. وجلبت لها من مؤون البيت ما يكفيها شهرا واكثر. ولم تـُشعر ايَّ احد في الدار بوجودها. وطلبت منها ان تتحرك وتطبخ وتأكل ولا تصدر - جهد الامكان - صوتا يمكن ان يكشف مكانها . وكان ذلك ممكنا جدا فعمق السرداب اربعة امتار .
طرد احمد امينة وطلقها طلقة بائنة . واعتذرمن عمه وقال له انه ابقاها على ذمته كل هذه السنوات احتراما له وابقاءً على ودّه وانها قد استنفدت صبره وطاقته على الاحتمال . واذ عادت امينة لذويها تعض اصبع الندامة , فقد سدّ ابوها وجهه بوجهها وكذلك فعل اخوتها ذكورا واناثا . ظلت تبكي وتنوح بمفردها بضعة ايام لائمة الحظ وشاتمة خيرية متهمة اياها بممارسة السحر والشعوذة على احمد حتى جعلته كما يقال ( محبس بايدها)حتى ملت اذ لم يستمع لها احد . وكانوا جميعا يلوون اوجههم بعيدا عنها .
كانت فريدة تصطاد فترات خلو البيت من الأولاد وذهاب الكنائن الى ذويهن , فكانت تنزل الى السرداب وتطمئن على خيرية وتلاطفها بالحديث وتسليها بالفرج القريب الذي وعد الله به الصابرين من عباده . وتأخذ لها ما ينقصها من مواد او مؤون . ثم تخرج بسرعة تلافيا لقدوم احد افراد الاسرة .
واذ يلعب الاطفال قرب باب السرداب كانوا يسمعون أحيانا بعض الاصوات فيأتون فزعين لامهاتهم او لفريدة و يقولون
: جني جني السرداب بيه جني فكانت فريدة تأخذهم في احضانها الدافئة وتقرأعلى رؤوسهم المعوذات وتقول لهم انهم يتوهمون ذلك وان كل ما في الامر ان الهواء يلعب في المكان فتصدر منه بعض الأصوات أحيانا وهم رجال شجعان ليس لهم ان يخافوا من ذلك . فاذا ما اطمأنوا عادوا للعبهم ومرحهم .
كان اخوة خيرية قد عزموا على غسل عارهم واستعادة شرفهم فهجم كبيرهم على دار احمد عنوة وفتشها ولم يجد لاخته اثرا . فقال لاحمد ماسكا بتلابيبه
: وين وديتها ؟؟.. وين كول ؟ اجابه احمد
: آني وديته لو انتو .. يعني المره من تطلع من بيت رجلها وين تروح غير عد اهلهه ؟. خرج اخوها الكبير وهو يهدد ويتوعد ويزمجر .
سكتت أمينة راغمة بضعة اسابيع ثمَّ بدلت الاسطوانة على الوجه الآخر وبدأت تلوم نفسها لما حصل وتنعى باللائمة على طبعها السيء . وحاولت التقرب من اختها بالتحدث بافاضة في الامر . واثناء احاديثها وثرثرتها زلق لسانها بالحقيقة واذا بها تعترف انها لفقت هذه التهمة الباطلة لتتخلص من خيرية . وضعت راحتها على فمها بعد فوات الاوان . ذلك ان اختها لبست العباءة من فورها واسرعت الى ذوي خيرية وأخذت تزغرد امام دارهم - ولما خرج أهل الدار والجيران من دورهم لاستطلاع سبب الزغاريد - زفت البشرى بصوت عال ببراءة ابنتهم ليسمعها القاصي والداني . واصفة اختها بالخبل والجنون . خرج اهل خيرية وهم يقولون
: بعد خراب البصرة , هسة اعترفت . هي ليش وين خيرية ؟؟ الله يدري عايشة ؟ ... ميتة ؟ .. جوّه الجاع ؟, ابطن السمج ؟ يا حسافة يا حسافة عليج خيرية وظلت امها تولول وتخدش خديها فاجتمع الجيران حولها وعلى رأسهم زوج ابنتها احمد وهو يبعد يديها عن خديها قائلا
: عندي عندي خيرية
: مو دوّرها اخوها ابيتك وما لكاها . ليش تجذب عليّه ليش ليش ؟!!!!!. ولكن احمد دفع بيدها بعيدا وقال لها تعالي ويايه تعالي . وقادها من ذراعها الى بيت ابيه وقد سار اغلب الجيران وراءهما متعجبين لما يحدث من جهة ويأكلهم الفضول من جهة اخرى , الى ان وصلا الى دار ابيه فصاح باعلى صوته
: ام مصطفى يا ام مصطفى وهو يدفع الباب داخلا الى بيت اهله
: دلـّي الجماعة على خيرية
: لا مو عندي خيرية مو عندي ... ما اعرف وينها . ابتسم احمد قائلا
: ام مصطفى الله بيّن الحق .. لا تخافين لا تخافين
: ابتسمت فريدة وقالت تعالوا تعالوا هاي بتكم بالحفظ والصون .
هرعوا جميعا وراءها الى داخل البيت ثم الى السرداب المتروك منذ زمن شراء البيت . والذي اختفت فيه خيرية من اخوتها وطلابي دمها بتهمة باطلة .
التف الجميع حول خيرية يقبلونها ويحتضنونها ويحتفون بها . اما هي فقد مضت الى الجدار المقابل بسرعة لتأخذ منه رزمة رفعتها بيمناها وهي تقول لزوجها : شوف احمد اقرا اقرا , واخرجت من الرزمة ورقتين وضعتهما في يده . وما كاد يقرؤهما حتى تعجب صائحا ليسمع الجميع
: صُدق لو كالوا - البيت بيت ابونا والغربه يطردونا - لعد يا فريدة انت تملكين البيت اللي احنه نسكن بيه ونص هذا البيت وما جاوبتي أمينه من طردتج كم مرة 
أصيلة يا ام مصطفى اصيلة يا اختنا الطيبة
بارك الله بيج
وكتب لج بيت بالجنة .
تمت بعون الله تعالى
سمية العبيدي

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

695 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع