سمية العبيدي / بغداد
حوض الفورمالين قصة قصيرة
الفتى مصطفى الصوفي كان في السابعة من عمره ... حينما فُقد أبوه ..... وما زالت لوعة الأُسرة حينها لا تبرح عقله يستعيدها يوميا قُبيل نومه ثم يقرأ سورة الفاتحة ويغفو . ومع إنه صغير في عمره الا إن المحنة أنضجته قبل الأوان لذا عزم أن يشق طريقه في الحياة بلا تلكؤ ولا هوادة والا يضيع هباء يوما ولا فلسا ينفق عليه . بعد ست سنوات دخل متوسطة بلدته متفوقا لم تكن هذه بلدته فعلا , بل بلدة رحلت اليها أمه أولا بحثا عن أبيه الذي سافر اليها بحثا عن عمل لم يدركه بل ربما أدركه الموت فيها .. لا أحد يعرف . ولما يئست الام من لمس خيط يؤدي لزوجها أو لمصيره لم تعد الى مسقط رأس الأُسرة , بل أقامت في هذه البلدة لعل خيطا من أمل لا زال يعمر قلبها .. بحثت عن عمل واستقرت في العاصمة مع صغارها لتستأنف مسيرة الكدح , غير إن الأُم صبرت واجتهدت .
أبوه عامل مياوم من أُسرة كانت ذات يوم ميسورة الحال . غير إن محمداً وهذا كان اسمه لم يكن موفقا في تعليمه ولا في التمرن على مهنة مرموقة , لذا لم يجد عملا لائقا يوم بلغ مبلغ الرجولة . له اخوة كثر وأخوات عدة , ما جمع والده من مال تفتت بالارث ولم يكسب محمد من الارث الا مبلغا تزوج به وأنجب هو أيضا أولادا استطاع أن يطعمهم بشق الأنفس وقلما وفق في كسوتهم بما يليق , مرت الأيام وتعب الرجل من ضيق ذات اليد فنصحه خلطاؤه بالسفر الى العاصمة لعله يجد بابا أوسع للرزق . ومع إن الأوضاع آنذاك صعبة والشر يجوب الشوارع رافعا سيفا لا يرتوي من دم الأبرياء قبل العتاة فقد ودع محمد عائلته ومضى قدما لغايته .
وفي مدرسته المتوسطة أبدى مصطفى تفوقا ملحوظا ولهفة للاستزادة من العلم والمعرفة , و كان أحد المدرسين - من ذوي الضمائر الحية - لا يزال مهتما بطلابه محاولا اغناء تجربتهم في الحياة . لذا عزم على اصطحابهم الى متحف التاريخ الطبيعي . حصل على الموافقة وخصص يوما لذلك وشجّع مدرسَين صديقين لمساعدته في السيطرة على الرحلة وكان من حسن الحظ إن الرحلة مجانية لقرب المتحف من بناية المدرسة المتوسطة . وفي صبيحة اليوم الموعود تناول مصطفى فطوره و وضع شطيرة صغيرة في جيب بنطاله المدرسي وودّع أُمه وأُخوته الصغار بإيماءة من كفه اليمنى كما يفعل كل يوم وخرج قبلهم لأن مدرسته تبعد عن داره شيئا ما , أما الآخرون فسيخرجون بعده . وقف مع الطلاب الذين بدا تفاوت واضح في همتهم وفي تشوقهم لرؤية المتحف . أما هو فكان في غاية الاستثارة لذا لم يطق الوقوف طويلا في انتظار تجمع الطلاب وخروج الأساتذة ليقودوا الطريق الى المتحف . وأخيرا اكتمل العدد وخرج الأساتذة من غرفة المدرسين ليصفوا الطلاب ويسجلوا أسماءهم ويثبّتوا حضورهم . ثم بدأت المسيرة بالتحرك نحو المتحف . كانت جوانب المتحف كلها تحفل بشتى أنواع مخلوقات الله من القردة والكواسر والزواحف والحشرات حتى الإنسان . وكان المدرس النشيط إياه يقف عند كل ركن ليشرح باستفاضة كما إنه أخذ يجيب على أسئلة الطلاب ويرحب بردود أفعالهم ويتفكه معهم كلما استغربوا شيئا وهناك الكثير مما يدعو للاستغراب وربما للضحك . وأخيرا وصلوا الى غرفة وقف الأُستاذ على بابها لحظة ليشجع الطلاب على حسن المشاهدة والأدب وعدم الخوف قال : هنا ترقد جثة ... أرجوكم لا تجعلوا موظفي المتحف يسخرون منكم يا رجال المستقبل . كان مصطفى الصوفي من أوائل الداخلين لهذه الغرفة فقد كان في عزمه أن يغدو طبيبا وهذه خطوة أولى الى مستقبله , بحث بعينيه بسرعة عن حوض كبير فوجده كان مادة الفورمالين تملؤه وكانت جثة رجل تتمدد على طولها فيه أسرع مصطفى الى قرب الحوض وحدق في وجه الرجل وإذا به يصرخ بأعلى صوته : إنه أبي إنه أبي كاد يهوي الى الأرض لولا زملاؤه الذين أسندوه بصدورهم وأحاطوه بأكتافهم أسرع المدرسون ثلاثتهم اليه : يقولون لا لا لا ليس أباك بل هذه جثة .... جثة رجل مجهول غير إنه ظل يصرخ ليس مجهولا إنه أبي أبي محمد الصوفي إنه أبي . و وسط الضجيج أسرع موظفو المتحف الى إدارته عاد معهم المدير ليشرح للأساتذة وللولد النجيب إن هذه الجثة معهم في مكانها هذا منذ بضعة أعوام وإنهم طلبوها بالطريقة الروتينية المعهودة فأُرسلت إليهم مع حوض الفورمالين . كان الهرج والمرج قد عم هذه القاعة لذا طلب مديرها من منظم المشاهدة أن يرافق مصطفى الى الإدارة مع صديقه المقرب فكان على ضياء أن يظل معهما . بينما يكمل الآخرون فرجتهم التي انقلبت همّاً ثم يمضون الى دورهم أو الى مدرستهم .
في غرفة الإدارة اتصل المدير بذوي الشأن هاتفياً ليجيبوا عن سؤاله بأنهم ينتظرون فترة طويلة فإن لم يطالب أحد بالجثث حتى تتراكم فيضطرون الى إخلاء الثلاجات بتسريب الجثث اما الى الكليات الطبية للتشريح وإما الى المتاحف وهذا ما فعلوه مع هذه الجثة تماما . أما إن ظهر أهلوها فهم يسلمونها اليهم بعد تقديم الوثائق والشهود .
مدير المتحف والأُستاذ سألا ضياء هل يعرف أين يسكن مصطفى الصوفي أجاب بالإيجاب . طلبا منه برفق أن يدعو أمه قال مصطفى بهدوء : إنها ليست في البيت فهي تعمل في معمل الخياطة القريب من دارنا قال المدرس : هل تعرف يا ضياء أين يقع المعمل أجاب: نعم عمتي أيضا تعمل فيه : إذن أسرع الى أم مصطفى ولتأت معك ولا تخبرها بخبر الجثة , بل قل إن مصطفى أصابه دوار فسقط أرضا وأخذ يقيء ... لا تنسى .. لا تخبرها أبدا .
وما هي الا نصف ساعة وإذا الأم قائمة على رأس الجثة المسجاة في حوض الفورمالين لتقرر : نعم هذا زوجي المفقود محمد الصوفي ومن بين الدموع والنشيج كان صوتها المتقطع يعده بعد استكمال الاجراءات بمأتم لائق ... وقبر كريم .
***
سمية العبيدي / بغداد
كتبت في 3 /12/2018
691 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع