عوني القلمجي
المليشيات المسلحة تستلم السلطة فعليا في العراق
ما ان انتهينا من الكذبة التي صورت عادل عبد المهدي، بالرجل القوي والشجاع، الذي يرفض الطائفية والحزبية، ويصر على تشكيل حكومته من المستقلين ذوي الخبرة والكفاءات، وبعيدة عن الاملاءات الخارجية، حتى وجدنا انفسنا امام كذبة اخرى تحدثت عن الجنة التي سيجعلها عبد المهدي تحت اقدام العراقيين، وصولا الى ام الاكاذيب وهي الانتقال بالعراق الى مصاف الدول المتقدمة في العالم. ناهيك عن كذبة الترشيح الالكتروني لشغل المناصب الوزارية، والقائمة بهذه الاكاذيب طويلة جدا.
لكن الرجل نسى، على ما يبدو، مقولة "حبل الكذب قصير". فامام قوة وسطوة المليشيات المسلحة ظهرت شخصية عبد المهدي على حقيقتها، وتبخرت كل وعوده الوردية، واختفت ترشيحاته الالكترونية. حيث ترك لهذه المليشيات الطائفية زمام القيادة، واولها حرية ترشيح وزراء حكومته، واختار لنفسه مهنة ساعي البريد لنقل اسماء المرشحين من والى البرلمان للمصادقة عليها. واذا سولت له نفسه الاعتراض، او استخدام حقه في قبول هذا المرشح او رفض ذاك، او تبديله بمرشح اخر، فسرعان ما يلقى التوبيخ حينا والتهديد بسحب الثقة منه حينا اخر . ناهيك عن وقوفه عاجزا امام فضيحة بيع وشراء الوزارات من قبل هذه المليشيات، التي وصفها صديقه الحميم اياد علاوي، "بالبورصة المفتوحة التي يفوز بها من يدفع أكثر" الامر الذي فرض على نفسه الاقامة الجبرية ما بين مكتبه وبيته بانتظار من يجود عليه بالفرج.
لو اقتصر ذلك على هذا الحد لهان الامر، فتشكيل الحكومات في العراق تمر بمثل هذه المهازل وينتهي الاعداء، في نهاية المطاف، الى اخوة وحبايب. لكن ما حدث ويحدث يمثل المرحلة الاخيرة من مخطط تدمير العراق، وهو تسليم السلطة بيد المليشيات المسلحة لتحكم العراق على طريقة المافيات الايطالية، التي تحكمها العوائل الكبيرة وتدير شؤون العمليات الاجرامية في العالم. بل ان هذه المليشيات بدات فعلا باستلام السلطة، ووضع عادل عبد المهدي وحكومته فوق الرفوف العالية، بدل وضعه في السجن ومن ثم محاكمته واعدامه على طريقة الانقلابات العسكرية والبيان رقم واحد. هذا ليس راي او استنتاج من نسيج خيال كاتب هذه السطور، وانما يستند الى وقائع تظهر تباعا بالصوت والصورة. حيث بدات هذه المليشيات تمهد فعلا للاعلان عن سلطتها. فهي ضربت عرض الحائط ابسط الاعراف السياسية والديمقراطية التي دوخوا رؤوسنا بها، واستهانت بالقوانين التي تحكم دولتهم والصلاحيات التي ثبتها دستورهم، ثم قدمت اسماء قادة الانقلاب عبر التصريحات الى الشعب العراقي.
كان اولهم هادي العامري زعيم مليشيا منظمة بدر، الذي تعمد توجيه اهانة علنية لعبد المهدي تحت ذريعة تردده بتمرير مرشحه لوزارة الداخلية المدعو فالح الفياض ، حيث قال "ان عبد المهدي ما كان له نيل هذا المنصب الا بعد موافقته مقابل التزامه بكل طلباتنا"، واضاف "مثلما اتينا به نخرجه متى شئنا".. والثاني مقتدى الصدر زعيم مليشيا سرايا السلام الذي وجه توبيخا الى عبد المهدي لنفس السبب، وهدده بالنزول الى الشارع لسحب الثقة منه، اذا خضع لضغوطات العامري ووافق على فالح الفياض لوزارة الداخلية، اما الثالث، نوري المالكي فقد صرح " دعونا نكون واقعيين ولا نخدع انفسنا حيث ليس بامكان رئيس الوزراء رفض طلباتنا" ودعم هذا الموقف بتصريح شديد اللهجة قال فيه "أنه لا تنازل عن ترشيح فالح الفياض لحقيبة الداخلية في حكومة عبد المهدي، واكد انه لن يسمح باستبدال الفياض بأي مرشح آخر،وان كتلتهم قررت عدم تغيير أي من المرشحين للحقائب الوزراية الثمانية المتبفية، في حين قال الرابع قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب اهل الحق لعبد المهدي "بان وزارة الثقافة من حصتنا ولن نتنازل عنها وليس بامكان كائن من كان حرماننا منها" اما خامسهم ابو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، فقد قدم النصيحة الى عبد المهدي باللهجة العراقية "ان يصير عاقل احسن".
والمصيبة ان ما يجري ليس، كما يتخيل البعض، بعيدا عن عيون الامريكان، او انه انتصار الملالي على حسابهم، وانما العكس صحيح تماما. فما يحدث يمثل بالنسبة لامريكا وملالي طهران ، كما يقول العراقيون، "عز الطلب"، كونه ينسجم مع نظرية الفوضى الخلاقة التي تصب في خدمة مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. ولا يغير من هذه الحقيقة وجود خلافات بين البلدين، فهذه لا وجود لها داخل العراق، بمعنى اخر، فاذا اختلفت امريكا وايران على كل شيء في العالم، فانهما يتفقان بالكامل على تدمير العراق، فتحقيق هذا الهدف الغادر ضد العراق وشعبه هو مطلب ايراني امريكي صهيوني.
لكن ماذا يعني كل ذلك بالنسبة لنا كعراقيين؟ وما هو الحل الاوحد لانقاذ العراق من الاحتلالين الامريكي والايراني ومن هذه الوجوه الكالحة؟
انه يعني، ان العملية السياسية كذبة كبرى، فهي قائمة على المحاصصةالطائفية والمليشيات المسلحة، وليس كما يسموها شراكة وطنية، وان الانتخابات ليست سوى عملية تزوير ومدخل للفاسدين، وليست طريق لبناء نظام ديمقراطي في العراق، وان البرلمان وسيلة لشرعنة الفساد والفاسدين، وليس برلمان لتشريع القوانين التي تخدم البلاد والعباد، وان القضاء اداة لمنح البراءة للقتلة والمجرمين، وليس لمحاسبتهم وانزال العقوبة بحقهم، وان الدستور وضع من اجل حماية السلطات الحاكمة، وليس من اجل تنظيم عمل الدولة ومؤسساتها بما يخدم مصلحة العراق وشعبه، وان المرجعيات الدينية اداة لمباركة كل هذا الخراب والتدمير، وليست اداة لاصلاح المجتمع وتشجيعه على التمسك بالقيم والاخلاق ونبذ الرذيلة، وان كل ذلك قد جرى تنظيمه تمهيدا لليوم الموعود الذي اقترب فعلا وهو تسليم العراق بيد المليشيات والعصابات الاجرامية. ويعني بالمقابل، ان المعارضة داخل البرلمان، سواء كانت ممثلة بمقتدى الصدر وتياره، او تحالف سائرون او غيرهم من القادمين الجدد، خديعة وضيعة ونصب واحتيال. فقد اثبتت الوقائع بان مقتدى الصدر وسائرون واتباعهم هم لا يقلون حرصا من غيرهم على حماية العملية السياسية من السقوط بسبب ما جنوه من شهرة وسلطة واموال.
قد يعتقد البعض بان مثل هذه الاراء تنطوي على موقف كيدي من العملية السياسية، ومن متزعميها، او في احسن الاحوال تنطوي على مبالغة كبيره. اذا ليس من المستبعد، لجوء هذه الحكومة الى التغيير والاصلاح والاستجابة لمطالب العراقيين لامتصاص الاستياء الشعبي العام، من جهة، وحماية نفسها من السقوط من جهة اخرى. هذه المرافعة التي تبدو من الناحية النظرية منطقية، الا انها ضعيفة جدا امام الوقائع العنيدة، التي تنفي قطعا حدوث مثل هذا التغيير. فهذه الحكومة والحكومات التي سبقتها لا تمتلك حرية الاختيار، وانما هي اداة بيد المحتل الامريكي وتابعه الايراني الذي ليس من مصلحته حدوث مثل هذا التغيير.
بمعنى اخر اكثر وضوحا، فاذا حدث مثل هذا التغيير الذي يصب في خدمة العراق والعراقيين، فان امريكا على وجه الخصوص لن تقبل به او تستسلم له وتاخذ عصاها وترحل سلميا، وانما ستقاتل من اجل منع مثل هذا التغيير. فاستمرار الفساد والفاسدين وتجويع الشعب واذلاله وتحطيم ارادته وصموده، هو الاساس الذي تستند عليه للحفاظ على غنيمتها، وخير دليل على ذلك قيام امريكا، في الاونة الاخيرة، بتعزيز قواتها وقواعدها العسكرية باكثر من عشرة الاف جندي تمركزوا في قواعد ثابتة في مناطق شمال القائم ومنطقة قطارات الفوسفات وفي معسكر عين الاسد في البغدادي ومعكسر الخسفة قرب سد حديثة، وكذلك في هيت والحبانية. ناهيك عن وجود خمسة قواعد عسكرية خارج الانبار وهي، قاعدة التاجي شمال بغداد وقاعدة فيكتوري في قلب مطار العاصمة وقاعدة القيارة جنوب الموصل وقاعدة بلد الجوية في صلاح الدين، وقاعدة عملاقة في أربيل. في حين يسعى ملالي طهران الى الهيمنة اكثر فاكثر على مفاصل الدولة واقتصادها وسرقة ثرواتها. وبالتالي لا طريق للخلاص من المحنة، قبل الخلاص من هذه العملية السياسية، ولا طريق لتحقيق ذلك سوى التوجه الى طريق الانتفاضات الشعبية واستخدام كافة الامكانات المتاحة، بما فيها حق الدفاع عن النفس بالوسائل المسلحة، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة تاخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا. واية مراهنة اخرى لتحقيق ذلك الهدف المشروع مراهنة فاشلة قطعا.
عوني القلمجي
15/12/2018
1430 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع