د. منار الشوربجي
السوابق التاريخية في عهد ترامب
سيتوقف التاريخ طويلاً أمام ممارسة ترامب غير التقليدية لمهام منصبه. وأداؤه سيترك بصمة على مؤسسة الرئاسة نفسها لسنوات طويلة بعد خروجه من البيت الأبيض.
وأحداث الأسبوع الماضي جمعت كل خصائص ذلك الأداء غير التقليدي للرئيس الأمريكي، بدءاً من طريقته في التواصل مع الرأي العام، ومروراً بممارسته لصنع القرار ووصولاً لعلاقته بالمؤسسة التشريعية الأمريكية.
فليس سراً أن ترامب هو أول رئيس أمريكي يستخدم بنفسه مواقع التواصل الاجتماعي وبشكل مكثف. فحين وصل ترامب للحكم، كانت الرئاسة الأمريكية تستخدم بالفعل التطور الحادث في تكنولوجيا المعلومات للتواصل مع الرأي العام الأمريكي.
فأوباما، مثلاً، كان قد برع في استخدام شبكة المعلومات لتمويل حملته الانتخابية. ثم كان للبيت الأبيض، في عهده، صفحات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة يتم من خلالها الترويج لسياسات الرئيس ويمكنه من خلالها التواصل مع الرأي العام.
لكن ترامب نقل المسألة برمتها لمستوى يختلف نوعياً وكمياً، حيث يكتب بنفسه على صفحته بتويتر سلسلة من التغريدات يومياً. والكثير من تلك التغريدات موجهة بالأساس لقطاع بعينه من الأمريكيين دون غيرهم، أي جمهوره الذي انتخبه. وهذا الاستهداف في ذاته غير تقليدي بامتياز.
ففي ظل نظام الحزبين الكبيرين المعمول به في أمريكا، يحرص الرئيس عادة، متى تولى الرئاسة، على توسيع نطاق ناخبيه لئلا يعرض فرص إعادة انتخابه للخطر. لذلك، فإذا نجح ترامب في الفوز برئاسة ثانية من خلال ذلك القطاع وحده سيكون ذلك إيذاناً بتحول جوهري في أداء مؤسسة الرئاسة مستقبلاً بل وطبيعة الديمقراطية الأمريكية ذاتها.
غير أن الرئيس ترامب صار منذ فترة ليست بقصيرة يستخدم تغريداته ليس فقط للتواصل مع ذلك القطاع وإنما لصنع السياسة، إذا جاز التعبير. فكثيرة هي المرات التي تم فيها الإعلان لأول مرة عن سياسة جديدة عبر تغريدة للرئيس، فكان آخرها الإعلان عن سحب القوات الأمريكية من سوريا.
والحقيقة أن غير التقليدي في تلك الممارسة لا يتعلق فقط بالإعلان عن السياسة وإنما يتعلق أيضاً بدائرة من علموا بالسياسة قبل إعلان الرئيس عنها، بل وبالتضارب والغموض الذي يتلو الإعلان عنها.
ففي حالة الانسحاب من سوريا، وبعد إعلان ترامب على تويتر، ثم استقالة وزير الدفاع، صدرت عن الإدارة تصريحات متضاربة، ثم طار كل من مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية للمنطقة لتوضيح الموقف الأمريكي، الأمر الذي بدا وكأنه تراجع عن تغريدة الرئيس وتصريحاته بعدها.
وستظل تلك الطريقة غير التقليدية في «صنع السياسة» وتأثيرها على دور أمريكا الدولي موضع بحث ودراسة لفترة قادمة.
ولا يقل أهمية عن كل ذلك هو أداء ترامب غير التقليدي في التعاطي مع المؤسسة التشريعية، شريكه الرئيسي في الحكم. فهو هدد بإغلاق أبواب الحكومة إذا لم يمنحه الكونغرس المليارات الخمسة التي يريدها لبناء الجدار على الحدود مع المكسيك.
وقد نفذ ترامب تهديده بالفعل ورفض التوقيع على مشروعات الميزانية فوقع الإغلاق الجزئي الذي شمل ست وزارات وهيئات فيدرالية كانت نتيجته المباشرة أن صار أكثر من 800 ألف موظف فيدرالي يعملون بلا أجر أو تم تسريحهم بشكل مؤقت.
ووفق بيانات البيت الأبيض نفسه، فإن تكلفة إغلاق الحكومة على الاقتصاد الأمريكي تصل إلى 1.2 مليار في الأسبوع الواحد، هذا فضلاً عن التأثير السلبي المتوقع على الاقتصاد الذي كان يعاني أصلاً، بفعل تراجع الاقتصاد العالمي، والتوتر التجاري بين أمريكا وعدد من شركائها التجاريين، فضلاً عن مؤشرات تم رصدها لتراجع قطاعي الإسكان والصناعة بأمريكا.
وإغلاق الحكومة الأمريكية لأبوابها ليس جديداً في التاريخ الأمريكي المعاصر. لكن الجديد هو أن الرئيس ظل على مدار ثلاثة أسابيع كاملة يرفض التزحزح قيد أنملة عن موقفه.
الأخطر من ذلك، وبعد ثلاثة أسابيع كاملة ظلت خلالها أبواب الحكومة مغلقة، أنهى الرئيس فجأة اجتماعاً مع زعماء الديمقراطيين انعقد بالبيت الأبيض للتفاوض حول الموضوع وخرج غاضباً.
ولم يتفق طرفا الاجتماع، الرئاسة والديمقراطيين، حتى على وصف طبيعة ما دار أصلاً في ذلك الاجتماع المغلق. وسيتوقف التاريخ الأمريكي طويلاً أمام تلك الواقعة التي ليست لها سوابق في حدود علمي.
وأداء ترامب في الأزمة برمتها غير تقليدي بكل المقاييس بدءاً من تصريحه بأنه سيكون «فخوراً» إذا ما تسبب في إغلاق الحكومة ومروراً بتأكيده أنه لا يمانع في أن يمتد الإغلاق «لوقت طويل للغاية» ووصولاً لخروجه غاضباً من الاجتماع.
ذلك لأن الرئيس الأمريكي يظل في حاجة للكونغرس أكثر بكثير من حاجة الأخير له، لأن أجندته لن تبارح مكانها ما لم يتفق مع الكونغرس، فتتحول لقوانين وتتوافر الأموال اللازمة لتنفيذها.
والأداء غير التقليدي لترامب سيمتد أثره لفترة طويلة بعد أن يترك البيت الأبيض. فهو يمثل سوابق تاريخية ستؤثر بالضرورة على مجمل أداء مؤسسة الرئاسة. وفوزه بفترة رئاسية ثانية من شأنه أن يؤدي لمأسسة الكثير من أدائه.
728 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع